خيارات إسرائيل المستحيلة: قبول شروط "الجهاد" أو المجازفة بتوسع الحرب مع مسيرة الأعلام

13 مايو 2023
"الإنجازات" التي سوقتها حكومة نتنياهو في بداية العملية آخذة بالتلاشي (Getty)
+ الخط -

أجّلت وزارة الأمن الإسرائيلية خططها لإجلاء مستوطني "غلاف غزة"، الذين يناهزون 60 ألفًا، حتى يوم الثلاثاء، مع توقّعات داخل دوائر الأمن والاستخبارات الإسرائيلية بأن تواصل حركة "الجهاد الإسلامي" إطلاق الصواريخ حتى موعد "مسيرة الأعلام"، الموافقة لذكرى احتلال القدس في 18 مايو/ أيار من كل عام، والتي أصرّت حكومة الاحتلال، كما نقلت "يديعوت أحرونوت" عنها مطلع هذا الشهر، قبل بدء جولة القتال الأخيرة، أنها لن تغيّر مسارها الذي يمرّ عبر باب العامود في القدس المحتلة "حتى لو كان الثمن التصعيد".

لكن حكومة الاحتلال، التي حرصت على عدم جرّ "حماس" إلى المواجهة، قد تغيّر حساباتها الآن، مع الخشية من أنّ إقامة المسيرة بمسارها المحدّد، وفي ظلّ استمرار العدوان على غزة، قد يمهّد لـ"حماس" دخول المعركة من دون حسابات كبيرة قد يفرضها الوسطاء الإقليميون والدوليون، كما جرى في مسيرة العام الماضي التي تخللتها استفزازات طائفية وعنصرية للمستوطنين، ومرور عبر باب العامود، إلا أنّ الوسطاء تدخلوا لاحتواء الموقف.

وكان عبور "مسيرة الأعلام" في صحن المسجد الأقصى، الذي يشمل أيضًا البلدة القديمة، الخط الأحمر الذي رسمته المقاومة الفلسطينية قبل معركة "سيف القدس" في مايو/ أيار 2021، والتي واكبها حراك على امتداد جغرافيا فلسطين المحتلة، في الداخل والضفة والقدس، وأيضًا إطلاق رشقات صاروخية من جنوب لبنان.

وفي ظلّ هذه المعطيات، ستنظر إسرائيل بقلق إلى إمكانية تفجّر الأوضاع في حال امتدت المواجهة حتى ذلك التاريخ، إذ قد تمتد مفاعيل انضمام "حماس" إلى القتال إلى الجبهة الشمالية، لا سيما أنّ الأمر سيتعلق بالمسجد الأقصى الذي سبق وأعلن الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصر الله، بعد عدوان عام 2021، عن "معادلة جديدة" بشأنه، تقتضي أنّ أي اعتداء إسرائيلي عليه قد يعني حربًا إقليمية. 

يلخّص أحد معلّقي "هيئة البث الرسمية" الإسرائيلية هذا الحال بالقول: "نحن نقتل القائد، ثم من يحلّ بديلًا عنه، ثم من يحلّ بديلًا عن البديل، لكن الواقع لا يتبدل"

وفي رمضان الماضي، أطلقت رسائل جديدة في هذا الاتجاه عبر أكبر قصف صاروخي لإسرائيل من الأراضي اللبنانية بعد حرب تموز عام 2006، وكان هذا عقب الاقتحام الوحشي لقوات الأمن الإسرائيلي لساحة المسجد وإخلاء المصلين منه تمهيدًا لاقتحامات المستوطنين خلال أعياد الفصح اليهودية. وفي حينها، اتبعت حكومة بنيامين نتنياهو الاستراتيجية ذاتها التي تتبعها الآن؛ وهي تخفيض مستوى المواجهة وحصرها في "الفصيل الأضعف"، إذ ردّت في غزة، موجّهة أصابع الاتهام نحو "حماس"، وأرسلت عدة إشارات بأنها غير معنية بمواجهة في الشمال. ثم بعد أيام قليلة من ذلك، أعلنت وقف اقتحامات المستوطنين للأقصى حتى نهاية رمضان.

واليوم، مع إصرار "الجهاد الإسلامي" على مطلبيها الرئيسيين بوقف سياسة الاغتيالات الإسرائيلية، وتحرير جثة الأسير الشهيد خضر عدنان، الذي عانقت روحه الحرية بعد 86 يومًا من الإضراب عن الطعام، تذهب التقديرات الأمنية الإسرائيلية، وفق ما نقلت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية، اليوم السبت، إلى أنّ حركة "الجهاد الإسلامي" ستمد المواجهة حتى موعد مسيرة الأعلام على الأقل، في الوقت الذي أعلنت فيه "سرايا القدس"، في بيان، اليوم السبت، أنها أعدت نفسها لأشهر من المواجهة.

إشارات ضعف

في ظلّ هذا الواقع، يبدو أنّ الحسابات الإسرائيلية بدأت تميل باتجاه ترويج معادلة "النار بالنار والهدوء بالهدوء"، بمعنى مواصلة الغارات في غزة حتى تكف "الجهاد" عن إطلاق الصواريخ، من دون التوقيع على اتفاق تهدئة، أو تقديم التزامات للوسطاء.

وهذه هي الرواية التي تكررت في وسائل الإعلام الإسرائيلية على اختلافها، خلال اليومين الماضيين، وأكدها قائد جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، قبل دخوله في اجتماع تقييم الموقف مع نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت، اليوم السبت، حينما أعلن أنّ مواصلة "الجهاد" إطلاق الصواريخ يعني استمرار القصف على غزة، "ومراكمة الإنجازات"، في إشارة إلى اغتيال قادة الحركة. ويمح هليفي بذلك، ضمنًا، إلى أنّ مطلب وقف الاغتيالات الذي يصرّ عليه قادة "الجهاد" سيتحقق فقط عبر وقف إطلاق النار.

ويحمل هذا التصريح بعض التراجع في نبرة الخطاب لدى قادة المستوى الأمني في دولة الاحتلال، التي بدأت عدوانها بوعيد رنّان حول "مواصلة استهداف أعداء إسرائيل في أي زمان ومكان"، وبالتأهب لقتال ممتد على عدّة جبهات.

ويعزز ذلك تصريح آخر تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية عن مكتب رئيس وزراء دولة الاحتلال، مضمونه أنه "إن لم تضع (حماس) خطًّا أحمر للجهاد يلزمها بوقف إطلاق الصواريخ، فذلك معناه أنّ موازين القوى في القطاع تغيّرت، وأن هذا يدلل على ضعف حماس". وتنطوي هذه الرسالة على محاولة بائسة لإحراج "حماس"، بقدر ما ينمّ عن عجلة إسرائيلية لوقف جولة التصعيد، من دون تقديم ضمانات للمقاومة، جرّت عليها انتقادات حتى لدى المعلّقين الإسرائيليين، إذ رأى بعضهم أنها تنطوي على "إشارات ضعف" إزاء المقاومة في غزة، كما قال المراسل الأمني للقناة 13 الإسرائيلية على المباشر.

مأزق الخيارات المستحيلة

إزاء هذا الواقع، تجد حكومة نتنياهو نفسها عالقة بين خيارين مستحيلين: إما الموافقة على شرطي "الجهاد"، ما يعني تبديد "الإنجازات" التي سوّقتها في بداية الهجوم، والخروج أمام جمهورها بصورة المهزوم؛ أو ترك الأمور تتدحرج حتى موعد مسيرة المستوطنين في ذكرى احتلال القدس؛ ما يعني أنّ الحرب الإقليمية التي ألفت إسرائيل عليها في رمضان الماضي، ستصبح محدقة أكثر من ذي قبل.

حتى ذلك الحين، لا تزال "الجهاد" تظهر ثباتًا واستمراريّة في العمل القتالي، رغم اغتيال 6 من قادتها، وزعم هيئة البث الرسمية الإسرائيلية أنّ قيادة العمل الميداني لدى الحركة انتقلت إلى مسؤوليها في الخارج؛ عدا عمّا يروّجه جيش الاحتلال بشكل مستمر عن استهداف منشآت سلاح، ومقاتلين للحركة في الميدان.

وحتى الساعة الرابعة عصر اليوم، أحصى جيش الاحتلال 1234 عملية إطلاق باتجاه الأراضي الإسرائيلية، اعترضت القبة الحديدية 373 صاروخًا منها، في مقابل 371 غارة لطائرات الاحتلال؛ منها أكثر من 130 صاروخًا أطلقت اليوم حتى ما قبل الرشقات الصاروخية الأخيرة مع الساعة الخامسة مساءً.

وشهد يوم القتال الخامس أيضًا تطوّرًا لافتًا، تمثّل بتوجّه "سرايا القدس" نحو استهداف تجمّعات ومواقع الاحتلال المحاذية لغزة بصواريخ موجّهة، بعدما زعم الاحتلال أنه اغتال "8 خلايا" من الوحدات المضادة للدبابات في "الجهاد" أثناء تحرّكهم لتنفيذ عمليّات في محيط القطاع. وبالأمس أيضًا، أعلن جيش الاحتلال أن الحريق الكبير الذي اندلع في أراضٍ مفتوحة في الجانب الإسرائيلي من الحدود مع القطاع كان نتيجة صاروخ مضاد للدبابات أطلق من هناك.

ويومًا بعد يوم، يبدو أنّ الصبر الاستراتيجي للمقاومة، رغم التضحيات المؤلمة في صفوف قيادتها، أصبح يرتدّ بنتائج عسكرية على دولة الاحتلال، وقد انعكس هذا في تبدّل نغمة التغنّي بــ"الإنجازات العسكرية" للجيش، والاحتفاء بـ"عملية ناجحة تمامًا" في وسائل الإعلام الإسرائيلية، إلى سجالات محمومة بين المعلقين على الهواء، تسودها نبرة التململ واليأس، بينما لا تزال صواريخ المقاومة تمطر المستوطنات الإسرائيلية، على مسافات تطاول مناطق المركز، بنفس الكثافة تقريبًا، ولليوم الخامس على التوالي.

معنى ذلك أنّ الهدف الاستراتيجي الذي توسّلته حكومة نتنياهو لدى بدء هجومها، وهو "إعادة الهدوء في الجنوب"، لم يتحقق، وأن "سكرة النصر" مع مكيدة الاغتيال المباغت للقادة الثلاثة في بداية العدوان آخذة بالتلاشي. يلخّص أحد معلّقي "هيئة البث الرسمية" الإسرائيلية، خلال حوار على المباشر أمس الجمعة، هذا الحال بالقول: "نحن نقتل القائد، ثم من يحلّ بديلًا عنه، ثم من يحلّ بديلًا عن البديل، لكن الواقع لا يتبدل".