خطاب قومي بانتخابات إسبانيا: حلبة مصارعة بين الاشتراكيين واليمين لتحقيق الأغلبية البرلمانية
يدلي أكثر من 37 مليون ناخب إسباني (من أصل 46 مليون مواطن إسباني)، اليوم الأحد، بأصواتهم، لتحديد مستقبل الحكم في البلاد للسنوات الأربع المقبلة، وذلك بعد خمس سنوات على حكم الاشتراكي بيدرو سانشيز. ويتوجه الإسبان إلى صناديق الاقتراع لاختيار كل أعضاء كونغرس النواب في "الكورتيس" (البرلمان الإسباني)، والبالغ عددهم 350 عضواً، إلى جانب اختيارهم لـ208 أعضاء من أصل 265 من مجلس الشيوخ. وترتفع حظوظ المحافظ ألبرتو نونيز فييخو، زعيم حزب الشعب المحافظ، كما تبين استطلاعات الرأي، مع تقدم حزبه، ويشير معظمها إلى فوز الحزب عن اليمين الوسط من دون أن يتمكن من تحقيق أغلبية في البرلمان، ما يجعله يتحالف مع حزب اليمين المتشدد "فوكس" المتقدم في الاستطلاعات أيضاً، لتشكيل الحكومة.
وطوال الفترة الماضية، ظلّ السباق متقارباً بين الاشتراكيين والمحافظين، منذ اختار سانشيز الذهاب إلى الانتخابات العامة المبكرة (كانت مقرّرة في ديسمبر/كانون الأول المقبل)، إثر التقدم الكبير الذي حقّقه اليمين في عدد من أقاليم الحكم الذاتي (كومونيداديس أوتونوموس) الـ17 المكونة لإسبانيا، في الانتخابات المحلية التي جرت في مايو/أيار الماضي.
ومنذ أن تحولت إسبانيا إلى الديمقراطية بعد انتهاء فترة حكم الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو في عام 1975 (بعد نحو 40 سنة في الحكم)، تناوب الاشتراكيون والمحافظون على حكم إسبانيا، لكن ليس من دون الاعتماد على شركاء أو تحالفات تمكنهم من الأغلبية. وهذه المرة، يرتفع جدل التحالفات ونوعيتها بما يفوق موجة الحر التي تضرب عموم إسبانيا في الوقت الحالي.
عمد "فوكس" إلى تخويف الشارع من أسلمة إسبانيا
فعلى مقلب يمين الوسط، المتمثل بحزب الشعب (بي بي)، يبدو فييخو، بعدما تحول جزء كبير من الحملة الانتخابية إلى تنافس شخصي بينه وبين الاشتراكي سانشيز، مضطراً للجوء إلى اليمين المتشدد (الراديكالي) "فوكس"، والمعروف بمعاداته للهجرة وتشكيكه بمسألة التغير المناخي، كذلك يؤمن بعض منتسبيه بفكرة إعادة الاعتبار إلى الديكتاتور الراحل فرانكو. بمعنى آخر، ستكون إسبانيا، إذا ما حقق "فوكس" بعد 10 سنوات على تأسيسه، النتيجة التي تمنحه إياها استطلاعات الرأي، أي وصولاً إلى أكثر من 14 في المائة، أمام تجربة إدخال التطرف إلى دفء الحكم، تماماً كإيطاليا التي شهدت وصول الحزب شبه الفاشي "إخوة إيطاليا"، بزعامة جورجيا ميلوني، إلى السلطة، أخيراً.
ضرب تحت الحزام: اتهامات خطيرة
وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي لا تمنح "فوكس" أكثر مما كان حققه في الانتخابات العامة في عام 2019، حين حصل على 15 في المائة من الأصوات، إلا أن الأمر مختلف هذه المرة مع طموح وانفتاح يمين الوسط على مسألة إشراك هذا الحزب في السلطة، بل يسعى "فوكس" لأن يصبح بيضة قبان عودة المحافظين إلى الحكم في مدريد. الخطاب القومي المتشدد لزعيم "فوكس"، سانتياغو أباسكال، بالتركيز على المهاجرين ومعاداة الأقليات المسلمة، وإطلاق وعود بالتراجع عن التشريعات المتعلقة بالأقليات الجنسية وحقوق المرأة، فضلاً عن إعلاء ثقافة "الذكورية" في البلاد، ومنها مثلاً استعادة حلبات مصارعة الثيران وغيرها من الخطابات الشعبوية، مكّن الحزب من اختراق أقاليم أخرى غير تلك التي نشط فيها في الأندلس منذ 2018.
فمنذ أن تفجرت الأوضاع في إقليم كتالونيا للمطالبة بالاستقلال في عام 2017، استحضر اليمين القومي المتشدد في إسبانيا خطاباً اتسم باتهام اليسار ويسار الوسط بالخيانة. بل ذهب التصارع على السلطة إلى حد التحريض على سانشيز باعتباره "يتحالف مع الإرهابيين" بين صفوف انفصاليي أرض الباسك (على الحدود الشمالية الغربية مع فرنسا) وبقايا منظمة "إيتا" المتهمة بالإرهاب، ودعم الانفصالية في كتالونيا.
يعتقد كل من حزب "الشعب" وفوكس" أن الحكومة الاشتراكية قد أضعفت وحدة إسبانيا، من خلال تقديم تنازلات للحكومات المحلية في إقليم الباسك وكتالونيا. ويتهم الحزبان سانشيز بإعطاء نفوذ كبير للجناح اليساري المشارك في الحكومة. وهذا ينطبق ليس أقله على مسائل الإجهاض والحقوق الجديدة للأقليات الجنسية.
والثابت في حملة القوميين المتشددين (فوكس) الانتخابية، منذ اختيار سانشيز في مايو الماضي الذهاب إلى الانتخابات المبكرة، التشديد على أهمية "استعادة القيم الإسبانية التقليدية"، بما في ذلك إطلاقهم الوعود بالتراجع عمّا حققته مدريد من تقدم في التشريعات الخاصة بحقوق المرأة. ويتهم "فوكس" في هذا الإطار "الاشتراكيين" بـ"بيع القيم الإسبانية التقليدية"، ويردد شعارات من قبيل "إعادة البلد إلى الطريق الصحيح في ما يتعلق بمسألة المثلية الجنسية". بل إنه يعتبر العودة إلى ذلك إحدى أولوياته، بعدما عدّلت أقاليم مختلفة تشريعاتها لمنح المثليين حقوقاً وحريات أكبر.
يتهم اليمين الاشتراكيين بالديكتاتورية ومعاداة الكاثوليكية
ووصل الرشق اليميني بحق بيدرو سانشيز إلى حد نشر الكثير من الأخبار المضللة عنه، وأخطرها الاتهام الذي وجّهته الرئيسة الإقليمية لحزب لشعب في مدريد، إيزابيل دياز أيوسو، بأن لدى سانشيز "الرغبة في إحراق الكنائس الكاثوليكية"، وهو اتهام ليس سهلاً في بلد كاثوليكي يطغى عليه التدين. ذلك إلى جانب كذبة أن سانشيز "متجه إلى قبول منصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، لإيهام الناخبين بأن سانشيز ليس جاداً في مواصلة ترؤس الحكومة، وهو ما أثار موجة غضب لدى الاشتراكيين وسانشيز شخصياً.
برامج متعارضة
وفي مقابل مراهنة فييخو على ما سيحققه "فوكس" لتحقيق الأغلبية البرلمانية، باعتبار أن النسبة المائوية التي تمنحها استطلاعات الرأي ليمين الوسط، مهما بلغت (بعض الاستطلاعات منحته حتى 33 في المائة، متقدماً بنحو 5 نقاط عن 2019)، لن تمنحه الأغلبية، يقف يسار الوسط بزعامة سانشيز على حدّ سكين التحالف مع تجمع اليسار الجديد "سومار" بزعامة الشيوعية السابقة يولاندا دياز (53 عاماً). وفي الوقت ذاته، يحاول اليسار التقليدي نفي تهمة أنه يتحالف مع الانفصاليين في الباسك وكتالونيا، باعتبار أن اليسار فيهما أقوى من بقية أنحاء إسبانيا.
باختصار، يعني ذلك أن إسبانيا عاشت تعبئة للناخبين لم تشهدها منذ عقود. فاهتمامات اليمين المتشدد، أسندت بخطاب يمين الوسط عن "الانفصالية وتهديد وحدة مملكة إسبانيا"، فضلاً عن إثارة المسائل القومية وكيل الاتهامات ليسار ويسار الوسط بأنه مسؤول عن سياسات الهجرة. وتوعد اليمين واليمين المتطرف بعدم مواصلة نهج الحكومة السابقة في قضايا مواجهة التغيرات المناخية، ودعم "فوكس" وعود "الشعب" بضرائب مخفضة، دون توضيح مصدرها، ما وسّع كثيراً حالة الاستقطاب.
وعلى الرغم من أن سانشيز حافظ طوال الحملة الانتخابية على هدوئه بشكل عام، وظهر بصورة المدافع عن نفسه أمام هجمات المعسكر اليميني القومي، إلا أنه أخرج بعض مخالبه أيضاً خلال الأيام الماضية، للتحذير من "الذئاب التي في ثياب حمل". ورسم الرجل صورة مخيفة عن المعسكر المناهض له، واصفاً التصويت له كالتصويت للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وقدم الرجل نفسه على أنه "سياسي عقلاني"، بينما اتهم منافسه فييخو بأنه "ذئب في ثياب حمل". وبحسب متابعين، نقلت عنهم "إل باييس" وصحف إسبانية أخرى، فإن الانتخابات المرتقبة اليوم أخذت الناخبين إلى مكان حيث عليهم أن يكونوا "إما مع السانشيزية وإما مع اليمين المتطرف"، باعتبار أن فوارق "الشعب" و"فوكس" يصعب تمييزها عند الناخب الإسباني.
فمن حيث المبدأ، ليس ثمة خلاف عميق بين فييخو وزعيم "فوكس" أباسكال في مسألة معارضة الهجرة والإسلام والإجهاض إلا لناحية مستوى الصوت الشعبوي المرتفع. وأباسكال يدرك جيداً حاجة فييخو لأصواته البرلمانية لتشكيل أغلبية ضئيلة للوصول إلى الحكم، ورفع لذلك عيار مطالبه كجزء من عملية التفاوض مستبقاً نتائج تصويت اليوم. ويغلب الرأي باتجاه أن النسبة التي سيحصل عليها "فوكس" ستباع لفييخو مقابل تنازلات في القضايا التي يؤمن بها الطرفان.
يسعى "فوكس" لأن يصبح بيضة قبان عودة المحافظين إلى الحكم
وعمد "فوكس" إلى تخويف الشارع الإسباني من "أسلمة" إسبانيا، واستعادة تاريخ الإسلام في البلد. بل ذهب إلى خطاب "إعادة استعمار حديث" في الحديث عن المسلمين، وبأنه يخوض في جهود "إعادة احتلال إسبانيا من المسيحيين"، وهو شعار رفع قبل ألف سنة في الحملات التي هدفت إلى إخراج المسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية. وإلى جانب ذلك، يصبّ "فوكس" الزيت على نار أزمة اللجوء المتزايد بحراً نحو إسبانيا، وهو أمر يعدّ ركناً أساسياً في حملة "فوكس" في مدريد وأقاليم الجنوب، وخصوصاً الأندلس، معقله الذي انطلق منه قبل سنوات.
السانشيزية تعاني... وإسبانيا معها
وفي شمال البلاد، غرباً وشرقاً، كانت الاتهامات توجه إلى ما يسمونها "سانشيزمو" (تيار سانشيز)، بالاعتماد على "اليسار المتطرف الانفصالي"، وذلك لدغدغة عواطف القوميين والملكيين في سياق "وحدة المملكة القومية"، ما يعتبره بعض المراقبين خطوة إضافية لإحداث فرز واستقطاب حادين في المناطق التي تطالب بتوسيع حكمها الذاتي، وبعضها يطالب باستفتاء على الاستقلال.
ويُتهَم سانشيز بالتحالف مع الحزب القومي في الباسك، "بيلدو"، الذي قدم في الانتخابات المحلية الإقليمية السابقة 44 مرشحاً أدينوا بأنهم أعضاء في منظمة "إيتا" المنحلة "إرهابية" التصنيف، التي خاضت صراعاً مسلحاً عنيفاً مع مدريد في العقود السابقة. وكان قرار سانشيز في عام 2021 بالعفو عن زعماء كتالونيا التسعة، الذين حُكم عليهم بالسجن لمدد طويلة لمحاولتهم مغادرة إسبانيا في عام 2017، قد فتح عليه عشّ دبابير القوميين المتشددين الذي لم يغلق حتى اليوم.
كل هذه المعطيات وغيرها قد تنقل الطبقة السياسية في إسبانيا إلى مستوى جديد من الحكم. فألبرتو فييخو يدرك حاجته إلى حزب "فوكس"، وعلى الرغم من أنه أكثر وسطية من سلفه في قيادة "الشعب" المحافظ، بابلو كاسادو، إلا أن التوقعات لا ترى أنه سيذهب نحو تشكيل حكومة وسط، أي من خارج التحالف مع أقصى اليمين وأقصى اليسار. فالاستقطاب أخذ مدريد مسافة بعيدة عن التعاون في الوسط.
في ما يتعلق بتشريعات مكافحة العنف ضد المرأة، يختلف "الشعب" و"فوكس" كثيراً. فالأخير يشكك صراحة بوجود مشكلة عنف ضد المرأة في المجتمع الإسباني، الذي يريده مجتمعاً "ذكوريا" أكثر، يقوم على "زواج المنطق السليم"، وفتح النار على ما يسمى "مجتمع ميم". بل إن "الشعب" مختلف على تلك القضية وعلى نهجه الأوسع، حيث يواجه فييخو في داخل الحزب شخصيات أكثر صقورية منه، مثل رئيسة مدريد الإقليمية، إيزابيل دياز أيوسو، التي تميل نحو اليمين المتشدد أكثر، متهمة حكم الاشتراكيين بزعامة سانشيز بأنه "حكم ديكتاتوري"، ويعادي الكاثوليكية.
على مستوى الاقتصاد، حققت حكومة سانشيز رفعاً للحد الأدنى للأجور، وساهمت بنمو اقتصادي تجاوز ما هو عليه في منطقة اليورو (2 في المائة لهذا العام). وبينما انخفضت البطالة، إلا أنها بقيت الأعلى في الاتحاد الأوروبي بنسبة 12.7 في المائة. ومع ذلك، يبدو أن الناخب الإسباني، وفقاً للاستطلاعات، ليس في مزاج مكافأة الرجل. فقد جاءت أزمة التضخم وارتفاع الأسعار ومستوى الدين العام لتضع الناخبين أمام حملات اليمين المحذرة من تراجع التنمية الاقتصادية في ظل حكم اشتراكي، ووصول بلدهم إلى ما وصلت إليه اليونان على حافة الانهيار في أزمة ديونها.
أضف إلى ذلك كلّه، العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، إذ إن فييخو إذا ما وصل إلى الحكم، سيواجه تحدياً كبيراً في هذا الشأن، حيث كان الاتحاد الأوروبي قد وجّه تحذيرات صارمة حول الوعود الانتخابية والمسّ بالميزانية من أجل تخفيض الضرائب واستخدام أموال بروكسل لتحقيق الوعود الانتخابية. ويحذر الاشتراكيون من أن حكومة يمين وسط مع يمين متشدد تعني المزيد من الاقتطاعات المؤلمة، خصوصاً في المعاشات التقاعدية.
في المجمل، وبغضّ النظر عن النتيجة، وآخر الاستطلاعات لشبكة "إلكتروكراسيا"، التي نشرت أول من أمس الجمعة ومنحت "الشعب" 34.7 في المائة مقابل 28.2 في المائة للاشتراكيين، بينما "فوكس" نحو 13 في المائة و"سومار" اليساري 12.6 في المائة، فمن الواضح أن الاستعصاء أصبح سمة الواقع الإسباني الذي يعاني شأنه شأن الساحات الأوروبية التي يتراجع فيها يسار ويسار الوسط لمصلحة تيارات اليمين القومي المتشدد. والأمر هنا لا يخص إسبانيا فحسب، بل كل الاتحاد الأوروبي الذي ينظر ليبراليوه بعين قلقة إلى تطورات العامين الأخيرين، في تقدم اليمين القومي بأكثر من مكان، وخصوصاً على أعتاب انتخابات أخرى في هولندا تقدم تقريباً ذات المشهد، وعين القارة على انتخابات البرلمان الأوروبي في العام المقبل.
بعد 45 عاماً من الديمقراطية الإسبانية، من الواضح أن الإسبان لم يعودوا يصوتون تلقائياً لأحزابهم التقليدية. بل إن بعض ناخبي الاشتراكيين، من الطبقة العاملة، بحسب تقارير الصحافة المحلية، يتراجعون عن التصويت التلقائي لحزبهم العريق جراء الخوف من الآتي وواقع أزمات يوميات الشارع، مع كل ما تقدم من اختلافات في السياسة والبرامج، باتت تطاول الشارع نفسه مع احتدام الاستقطاب.