استمع إلى الملخص
- المسألة القبرصية تتعقد بسبب الوجود العسكري الغربي المتزايد، حيث تبقى الجزيرة مقسمة منذ 1974، مما يثير مخاوف تركيا من زعزعة التوازنات الإقليمية.
- الوجود العسكري الغربي في قبرص يُعتبر تهديدًا غير مباشر لتركيا، ويعزز التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وقبرص الجنوبية، مما يهدد الاستقرار الإقليمي.
عادت سخونة الأجواء إلى شرق البحر المتوسط مع تصاعد التطورات في الشرق الأوسط والحشد العسكري الأميركي والغربي عقب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتواصل تداعيات الحرب إلى خارج حدود فلسطين، ما يجعل أنقرة تشعر بالتهديد هذه المرة في ظل الوجود العسكري الغربي في قبرص والحشود العسكرية الأميركية والغربية في الجزيرة المقسمة لشطرين، والواقعة جنوب تركيا. قرارات أميركية متتالية برفع حظر توريد السلاح لقبرص، تبعتها معاهدات عسكرية بين الجانبين، وحشد الجنود والعتاد والسفن الأميركية والغربية في قواعد عسكرية هناك، هي وإن بدت موجهة للتطورات في الشرق الأوسط ومنع اندلاع حرب إقليمية إلا أن أبعادها متمثلة بتقديم الدعم لإسرائيل من جهة، وتوجيه رسائل تحذير من جهة ثانية لبقية الدول، من بينها تركيا.
بقيت المسألة القبرصية دون حلّ بعد أكثر من 50 عاماً، إذ قُسمت قبرص منذ عام 1974 بين شطرين، شمالي غير معترف به دولياً وخاضع لتركيا، وجنوبي مستقل هو عضو في الاتحاد الأوروبي. وبعد جهود بذلت سابقا منها الفيدرالية التي وافق عليها الشطر الشمالي ورفضها الشطر الجنوبي، دفعت تركيا بحل الدولتين وهو حل غير مقبول بالنسبة للغرب. في 2004 رفضت نيقوسيا خطة قدمتها الأمم المتحدة لتوحيد شطري الجزيرة. ومنذ انهيار محادثات إعادة توحيد قبرص التي جرت برعاية الأمم المتحدة في سويسرا خلال يوليو/ تموز 2017، غابت أي مفاوضات رسمية لتسوية النزاع في الجزيرة. شدّدت الخارجية التركية، في بيان يوم 28 سبتمبر/ أيلول الماضي، على أن تمديد الولايات المتحدة رفع حظر تصدير الأسلحة عن قبرص، يعد خطأً فادحاً يزيد من وتيرة التسلح في الجزيرة ويضر بالتوازنات في المنطقة. وذكرت أن الولايات المتحدة أعلنت أنها ستعيد تمديد القرار الذي اتخذته في سبتمبر 2020، الخاص برفع حظر الأسلحة عن قبرص، ووسعت نطاقه عام 2022 ومددته مرة جديدة في 2023 لمدة عام، لتعود وتمدّد القرار اعتباراً من الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، لمدة عام آخر. وقالت الخارجية التركية إنها تشارك وجهات النظر في شمال قبرص حول هذه المسألة، موضحة أن "هذا الخطأ الفادح سيزيد من خطر التسلح في الجزيرة ويضرب التوازنات الدقيقة في المنطقة"، معربة عن ثقتها أن جمهورية شمال قبرص ستتخذ جميع أنواع التدابير لزيادة قدراتها الدفاعية والردعية في مواجهة أنشطة التسلح المتزايدة للشطر الجنوبي. كما انتقد رئيس البرلمان في شمال قبرص زورلو توره، في 28 سبتمبر الماضي، إرسال بريطانيا 700 جندي إضافي إلى الجزيرة، بحجة إجلاء مواطنيها من لبنان إثر التصعيد الإسرائيلي، مبيناً أن الولايات المتحدة وبريطانيا زادتا وجودهما العسكري في قبرص أخيراً.
وفي إطار الوجود العسكري الغربي في قبرص وقعت واشنطن ونيقوسيا اتفاقية "خريطة طريق للتعاون الدفاعي" الثنائي في 10 سبتمبر الماضي، لـ"مواجهة المخاوف الأمنية الدولية"، إذ أوضحت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في بيان، أن الولايات المتحدة وقبرص توليان "أهمية كبيرة" لاستقرار وأمن أوروبا وشرق البحر الأبيض المتوسط. وبعدها بيوم واحد دانت وزارة الخارجية التركية توقيع خريطة الطريق مبينة أن الخطوات التي تتعارض مع أمن الجانب الشمالي لقبرص، تضر بالموقف المحايد للولايات المتحدة في الجزيرة، وتجعل من الصعب إيجاد حل دائم للمسألة القبرصية. وأضافت أنه "يجب إعادة النظر في السياسات التي قد تضر بالاستقرار الإقليمي"، وأن "تركيا ستواصل ضمان أمن ورفاهية القبارصة الأتراك في جميع الظروف".
الوجود العسكري الغربي في قبرص
وتوالت البيانات في الأشهر الأخيرة من تركيا وقبرص مع كل مناورة بحرية أو وصول قوات عسكرية أو سفن حربية للجزيرة، في ظل إلقاء وسائل إعلام تركية بشكل متواصل، الضوء على الوجود العسكري الغربي في قبرص لا سيما في الشطر الجنوبي للجزيرة، منها تقرير سابق لوكالة الأناضول التركية حول الموضوع، والذي بيّن أن الوجود العسكري الأميركي يتزايد في جنوب قبرص. وبحسب تقرير الوكالة، في يوليو/تموز الماضي، فإن الولايات المتحدة تستخدم القواعد البريطانية في بعض العمليات في المنطقة، وأن الجيش الأميركي كان له وجود في الجزيرة منذ عام 1974 لمراقبة دعم أنشطة حفظ السلام في الشرق الأوسط. فيما نقلت عن الصحافة الإسرائيلية أن الولايات المتحدة شحنت كمية كبيرة من المعدات والأسلحة إلى القواعد البريطانية مباشرة بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وأن 20 طائرة شحن هبطت على الجزيرة في شهر واحد فقط.
ونقل التقرير أيضاً عن وسائل إعلام يونانية وبريطانية، أنه يتم تنفيذ رحلات جوية للمخابرات الأميركية من قاعدة أكروتيري، القاعدة البريطانية السيادية في الجزيرة، وأن أسطول الاستطلاع الأميركي، الذي يقوم برحلات تجسسية، يتمركز بشكل دائم في القاعدة، حيث يوجد 129 طياراً أميركياً استعداداً للعمليات في الشرق الأوسط. كذلك أجرى جنود من القوات الخاصة التابعة للبحرية الأميركية، والتي يطلق عليها اسم "نمور البحرية"، مناورة مشتركة مع جنوب قبرص قبالة سواحل مدينة ليماسول، في فبراير/ شباط الماضي، كما تحولت قبرص إلى مركز لفرق العمليات الخاصة التابعة للولايات المتحدة وبعض الدول الغربية بعد الهجمات الإسرائيلية على غزة. وذكر التقرير أيضاً في سياق الوجود العسكري الغربي في قبرص أن ألمانيا أرسلت فريق قوات خاصة إلى الجزيرة في أكتوبر من العام الماضي، لضمان الإجلاء الآمن لمواطنيها من المنطقة بسبب الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة. وخلال الفترة نفسها أرسلت هولندا أيضاً جنوداً من الفريق الخاص للوقوف على أهبة الاستعداد في الجزيرة، فيما وقعت برنامج تعاون دفاعي مع قبرص يغطي الفترة 2024-2025. كذلك منحت قبرص فرنسا حق العمل العسكري في اتفاق موقع سابقاً، وأُعلن عن تفاصيله في إبريل/ نيسان الماضي، يمكن لفرنسا بموجبه تنفيذ عمليات في المناطق التي تسيطر عليها قبرص لإجلاء مواطنيها من دول المنطقة.
من ناحيتها ذكرت قناة سي أن أن تورك التركية، أن أربعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي زاروا قاعدة أندرياس باباندريو في مدينة بافوس، القاعدة الجوية القبرصية الوحيدة في البلاد، والتي سمحت حكومة قبرص لأميركا أخيراً بحق استخدامها، وذلك خلال جولة لهم في الشرق الأوسط، رافقتهم السفيرة الأميركية في قبرص جولي فيشر، ورئيس البلاد نيكوس هريستودوليديس. وأوردت قناة خلق التركية أيضاً، تحذيرات أطلقت من قبل جنرال بحري متقاعد تركي ومستشار رئيس شمال قبرص السابق، تضمنت الخشية من استهداف الشطر الشمال وتركيا في وقت لاحق. فقد نقلت عن صباح الدين إسماعيل، المستشار السابق للرئيس المؤسس لشمال قبرص رؤوف دنكطاش، أنه وفقاً للبيان الذي أصدرته قيادة الأسطول الأميركي، فإن السفينة الحربية "يو أس أس واسب" (أل إتش دي1)، وتحمل فريق العمليات الخاصة من وحدة المشاة البحرية الرابع والعشرين التي تتكوّن من عدة سفن، رست في ميناء ليماسول جنوبي قبرص. وأضافت أنه وصلت أسلحة الطيران والبحرية البلجيكية والكندية والألمانية والسويدية إلى قبرص كما وصلت قوات خاصة، وأن طائرات يوروفايتر تايفون المتمركزة في القواعد البريطانية أقلعت أيضاً لمساعدة إسرائيل ليلة الهجمات الصاروخية الإيرانية (3 أكتوبر).
وقال الأدميرال التركي المتقاعد جيم غوردنيز، الذي كان أطلق مصطلح الوطن الأزرق في تركيا للتعبير عن السيادة التركية شرق المتوسط، في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، إن "الولايات المتحدة تواصل استخدام قبرص قاعدة عسكرية، وتجري مشاة البحرية الأميركية والجيش اليوناني مناورات مشتركة في الجزيرة"، مضيفاً أن "الهدف ليس حماس وحزب الله، بل الوجود التركي في الجزيرة". ورغم أن الحشود الأميركية كانت بدأت قبل سنوات في اليونان، وكانت تشير إلى الاستعداد للهجوم الروسي على أوكرانيا ولتقديم الدعم للأخيرة، إلا أن تكثيف تلك الحشود عقب 7 أكتوبر 2023، دفع بالرأي العام الداخلي التركي للحديث عن استهداف ومحاصرة لتركيا، خصوصاً في ظل الوجود الأميركي بدول أخرى، رغم أن الدولتين حليفتان داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو).
عمر أوزقزلجك: يرغب الغرب بأن تكون الحكومة القبرصية الجنوبية هي المسيطر الكامل على الجزيرة
تهديد غير مباشر
وبشأن التطورات والمخاوف التركية من الوجود العسكري الغربي في قبرص قال الكاتب والباحث التركي عمر أوزقزلجك، لـ"العربي الجديد"، إن "الوجود العسكري الأميركي في قبرص ليس تهديداً مباشراً لتركيا، بل هو تهديد فعلي لها بشكل غير مباشر". وعزا ذلك إلى أن "أميركا رفعت الحظر المفروض على بيع الأسلحة لقبرص من قبل، وبعدها عملت على تزويد قبرص بالسلاح وتواجدت بالمنطقة العسكرية الأميركية (في قبرص) وهو ما يرسي تعاوناً عسكرياً متزايداً بين أميركا وقبرص". وأضاف أن ذلك "يهدد السلام والاستقرار في المنطقة لأن مسألة قبرص لم تحل بعد، إذ كان الشطر الشمالي قد صوت بالموافقة على الفيدرالية وقبرص صوتت بـ لا"، معتبراً أن ذلك يعكس تصرفاً واضحاً برفض التوحد، لافتاً إلى أن تحركات أميركا في المنطقة "تظهر أن الغرب لا يريد الحل وعودة التوحد في الجزيرة، ولا يريد حل الدولتين". كذلك فإن للغرب رغبة، وفق أوزقزلجك، بأن "تكون الحكومة القبرصية الجنوبية هي المسيطر على كامل الجزيرة، وبهذا الإطار فإن التحركات الأميركية تفسد الاستقرار الموجود في الجزيرة على المدى الطويل وتعرضه للخطر وهو ما يقلق تركيا".
غونغور يافوزاصلان: إذا لم يتم منع العدوان الإسرائيلي فإن حرباً إقليمية في الشرق الأوسط ستكون على أعتابنا
أما الكاتب والصحافي التركي غونغور يافوزاصلان، فقال لـ"العربي الجديد"، إن أسباب الوجود العسكري الغربي في قبرص ووجود الجنود الأميركيين على الجانب الجنوبي للجزيرة، "هي أولا وقبل كل شيء وفق ما هو معلن تخفيف التوتر في الشرق الأوسط وتقديم الدعم اللوجستي من هناك". لكن النقطة الثانية وفق يافوزاصلان، "أنهم (أميركا) يخاطرون بأمن شرق البحر الأبيض المتوسط مع وضع جديد، حيث أنشأوا قاعدة في قبرص (أكروتيري) واستقرت الولايات المتحدة الأميركية فيها، وأثبتت وجودها في البحر الأبيض المتوسط في محاولة لتعزيزها". وبشأن الوجود العسكري الغربي في قبرص أضاف أنه "بالطبع وجود الجنود الأميركيين في الجزيرة يمس أمن تركيا بالدرجة الأولى، وعندما ننظر إلى الخريطة نرى أن هناك قواعد عسكرية أميركية في جزيرة كريت اليونانية وفي العديد من المناطق اليونانية، وكان كل ذلك وفقاً للاتفاقيات المبرمة مع اليونان". ولفت إلى أنه "بطبيعة الحال يتم ضمان (أمن) شمال قبرص من خلال القوات المسلحة التركية، إذ أصبحت الآن دولة وأخذت مكانها في منظمة الدول التركية". ورأى أنه "في المستقبل إذا لم يتم منع العدوان الإسرائيلي والاحتلال في المنطقة الجيوسياسية للبحر الأبيض المتوسط، وإذا لم يكن هناك وقفاً لإطلاق النار، ولم تقبل إسرائيل بوجود فلسطين، فإن حرباً إقليمية في الشرق الأوسط ستكون على أعتابنا".