في العامين الأخيرين من ولايته الثانية، بين 2012 و2016، لم يتوقف الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، عن ترداد عبارة "لدي قلم وهاتف" أمام كلّ من يتحدث معه عن كمّ العراقيل التي وضعها الجمهوريون في الكونغرس في طريقه، لتمرير آخر مشاريع القوانين ضمن أجندته، قبل رحيله من البيت الأبيض. وكان أوباما يشير بذلك، إلى الأدوات التي من الممكن أن يستخدمها أي رئيس، مثل توقيع الأوامر التنفيذية، ضمن صلاحياته، لتخطي الفيتوات الحزبية في السلطة التشريعية.
ولم يقل الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، بعد، ما قاله أوباما الذي عمل بايدن نائباً له لثمانية أعوام، من أنه "سيعمل مع الكونغرس حين يستطيع ذلك، لكنه سيعمل بمفرده حين لا يكون ذلك ممكنا". وحتى الآن، اكتفى بايدن بترداد نصف الجملة، وهي أنه مستعد للعمل حين يكون ذلك ممكناً مع الكونغرس، الذي أصبح الجمهوريون يسيطرون على مجلس النواب فيه بنسبة ضئيلة (213 – 222)، ومجلس الشيوخ الذي يتقدم فيه الديمقراطيون بصوت واحد، بعد الانتخابات النصفية التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
بايدن متفائل: تعويل على "الأصدقاء" من الجمهوريين
ويعوّل بايدن، الذي يسعى إلى ولاية ثانية سيكون العام الحالي والمقبل اختباراً لإمكانية الترشح رسمياً لخوضها، على تجربة طويلة له في الكونغرس، كسيناتور بنى علاقات جيّدة مع زملائه الجمهوريين. ويعتبر بايدن أن افتتاحه العام الحالي مع السيناتور الجمهوري ميتش ماكونيل، حين كانا يحتفلان في كنتاكي بسنوية قانون البنى التحتية العملاق الذي تمكن الرئيس من تمريره خلال العام الأول من ولايته، أكبر دليل على إمكانية العمل بسياسة "حافة الهاوية" مع الجمهوريين، والعمل خلف الكواليس مع الجناح المعتدل لديهم، لتمرير عدد من المشاريع المهمة، والتي ترضي أيضاً الديمقراطيين. ووصف بايدن من كنتاكي، ماكونيل، الذي كان وعد في السابق أن يكون بايدن "رئيساً لولاية واحدة"، بـ"الصديق والذي يحترم كلمته".
يعمل الجمهوريون وفق نظرية إهمال لجان التحقيق السابقة، والتحقيق في أعمال بايدن، والعمل على إقالته
ويتحضر بايدن وفريقه، لخوض ما يسمونه "المرحلة الثانية" من ولايته، بتفاؤل، وهو ما يفعله أيضاً الجناح المتشدد لدى الجمهوريين، الذي بنى حملته للانتخابات النصفية، بشعار "3 آي"، وهي تختصر بالإنكليزية "الإهمال، والتحقيق، والإقالة (ignore,impeach,investigate)، وتختصر فكرة "الانتقام" من بايدن، الذي يرمون عليه وزر كلّ الملاحقات التي تعرض لها الرئيس السابق دونالد ترامب، ومحاولات عزله، وصولاً إلى التحقيقات التي تقودها وزارة العدل ضدّه. ويتعلق "الإهمال" خصوصاً، بعدم الاكتراث لأي لجنة تحقيق أنشأها الديمقراطيون في المجلس، بهدف ملاحقة ترامب، وأهمها لجنة التحقيق باقتحام أنصار الأخير مقر الكونغرس، في 6 يناير/كانون الثاني 2021، لمنع المصادقة على فوز بايدن بالرئاسة.
وليس معروفاً مدى الولاء الذي يكّنه المنادون بـ"3 آي"، لترامب، أو ما إذا كانوا يعملون بتفويض منه، لكن تراجع نفوذ الرئيس السابق، يؤكد أن حملة الجمهوريين أبعد من ذلك. وقد يعود ذلك إلى ما يدور داخل "الدولة العميقة" في فلك التحقيقات والتحقيقات المضادة، التي تطارد عادة الرؤساء الأميركيين والمرشّحين للرئاسة، ومن بينها ما لا يجد طريقه إلى النهاية، مثل قضية بريد وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون.
لكن كلّ ذلك، ورغم أنه قد لا يصل إلى "الكراهية" التي كان يكنّها الجمهوريون لأوباما، لاسيما حينما أبطلوا وانقضّوا على عدد من إنجازاته ومن الاتفاقيات والقرارات التي أصبحت ماركة مسجلّة باسمه، فإن الجمهوريين حالياً يحاولون استعادة ذلك، من دون انتظار رحيل بايدن من السلطة، وحتى لا تتحول ولايته إلى "ماركة" أيضاً.
ويتحضر جناح الصقور داخل الحزب الجمهوري لمعركة كسر عظم مع البيت الأبيض، بدأت فعلياً منذ أن تسلّم كيفن مكارثي رسمياً رئاسة مجلس النواب، يوم الجمعة الماضي. وللإشارة أيضاً، فإن مكارثي، المقرب من ترامب، والذي يعد من فريق "لجعل أميركا عظيمة مجدداً (ماغا)"، أصبح رغم تشدّده، أسير "كتلة الحرّية" الجمهورية في المجلس، والتي تمثّل أقصى اليمين. وهذه الكتلة يتوعد نوابها منذ بداية العام الماضي، بالتحقيق في عمل الحكومة الفيدرالية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي"، حيث يتمهون الديمقراطيين باستخدام الحكومة الفيدرالية كسلاح.
وتعهد الجمهوريون أيضاً، باستخدام سلطتهم للتحقيق في أعمال نجل بايدن، هانتر، والانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، والتعامل مع أزمة كورونا، وملاحقات وزارة العدل، وارتفاع نسبة الهجرة على الحدود مع المكسيك، وصولاً إلى إمكانية مساءلة بايدن، أو التحقيق معه، بهدف عزله. وبحسب صحيفة "واشنطن بوست"، في تقرير سابق لها، فإن البيت الأبيض قرّر أن يتعاون مع تحقيقات الجمهوريين، إذا وجد ذلك مفيداً، فيما لن يكون متعاوناً في أي قضية يعتبرها مسيّسة، كمثل التحقيق حول أعمال نجل بايدن. ويتسلّح الديمقراطيون في ذلك، بأنهم لا زالوا يملكون الأكثرية في مجلس الشيوخ.
وبناء على ذلك، صوّت الجمهوريون في مجلس النواب الأميركي، أول من أمس الثلاثاء، لإطلاق تحقيق في ما يسمونّه "استخدام الرئيس جو بايدن للحكومة الفيدرالية كسلاح"، بعدما كانوا وعدوا باستخدام أكثريتهم الجديدة في المجلس، لملاحقة وزارة العدل والـ"أف بي آي" ووكالات فيدرالية أخرى، والتي تحقق جميعها في قضايا مرتبطة بالرئيس السابق ترامب، ومنها اقتحام أنصاره مقر الكابيتول. ويعمل العديد من النواب، من منطلق الانتقام، وقال النائب الجمهوري سكوت بيري، إنه يرغب بأن يكون عضواً في اللجنة النيابية الجمهورية التي ستتشّكل لتقود هذا التحقيق، فقط لأن وكالة "أف بي آي"، كانت صادرت هاتفه في الصيف الماضي، في إطار تحقيقها باقتحام الكونغرس. وأكد بيري أنه "تعرض لكل أنواع تشويه السمعة".
ولا شكّ أن "مطاردة الساحرات"، وهو المصطلح الذي لا يزال ترامب يستخدمه لوصف التحقيقات التي تلاحقه، ويشير فيها إلى ملاحقة الديمقراطيين و"الدولة العميقة" له، بحسب قوله، قد تركت أثرها في الحياة السياسية في واشنطن، مع كلّ ما يلتف حولها، منذ صعود ترامب إلى السلطة، وتنامي كراهية طائفة واحدة من الجمهوريين "الجدد"، ضد المنظومة السياسية التقليدية ككل، ويتوعدون بعد وصولهم إلى الكونغرس، بمحاربتها من الداخل.
صوّت الجمهوريون أخيراً لصالح تشكيل لجنة للتحقيق في استخدام السلطة التنفيذية كسلاح سياسي
وعلى الرغم من أن الحياة السياسية الأميركية، قد شهدت فصولاً مشابهة، بعدما "طاردت ساحرات" الحزب الجمهوري الرئيس الأسبق بيل كلينتون في فضيحة "مونيكا غايت"، وكذلك الأسبق جورج دبليو بوش بعد غزو العراق وأفغانستان، من ضمن الأمثلة التي لا تنضب حول حروب واشنطن التي يختصرها الحزبان الجمهوري والديمقراطي، فإن ما يُصعّب مهمة بايدن، هو فريق "الجمهوريين الجدد"، المختلفين عن الوجوه التقليدية التي اختبرها طوال عقود في الكونغرس كسيناتور عن فرمونت.
لجان نيابية لملاحقة بايدن
وسيحقق الجمهوريون، ضمن اللجنة المنوي تشكيلها، في مزاعم حول ضغوط مارسها بايدن على شركات التكنولوجيا الكبرى، لحجب الآراء المتعارضة مع توجهات البيت الأبيض، وفي كيفية تعاطي السلطة التنفيذية مع القطاع الخاص، والمنظمات غير الربحية، ووكالات أخرى "لتسهيل العمل ضد المواطنين الأميركيين". وقال رئيس هيئة الرقابة، الجمهوري جايمس كومر "علينا أن نبدأ العمل الآن، وأن نفضح الانتهاكات التي ارتكبتها البيروقراطية الفيدرالية غير المنتخبة، والتي لا تخضع للمحاسبة". وكانت النائبة الجمهورية إليز ستيفانيك، قد وعدت بعد اقتحام "أف بي آي" مقر ترامب في فلوريدا الصيف الماضي، في قضية الوثائق السرّية التي يتهم بعدم تسليمها للأرشيف الوطني، بـ"إطلاق تحقيق باستخدام بايدن وزارة العدل والأف بي آي كسلاح"، معتبرة أن اقتحام منزل ترامب "تخطٍ لصلاحيات السلطة التنفيذية".
وتعتبر اللجنة المنوي تشكيلها، تتويجاً لكراهية ونفور متزايد من المشرّعين الأميركيين، وبطبيعة الحال قاعدتهم الشعبية، تجاه قوات إنفاذ القانون، ووكالات الاستخبارات، بحسب موقع "أكسيوس".
وأشار النائب توماس ماسي، من الجناح التحرري اليميني، في هذا الصدد، إلى "قوات إنفاذ القانون"، وملاحقتهم لمجموعات حزب الشاي في العقد الأول من القرن الحالي، ثم مشاكل ترامب مع "أف بي آي". ونقل "أكسيوس" عن كومر قوله إن "قلّة الثقة" تعود إلى إخفاق الإستخبارات في عهد جورج دبليو بوش، وغزوه للعراق.
ويسعى مكارثي أيضاً، لإنشاء لجنة تحقيق تتعلق بإدارة الوباء، وتستهدف من دون شكّ مدير المعهد الوطني للأمراض المعدية الأميركي، أنتوني فاوتشي، وهو هدف دائم لليمين المتطرف الأميركي منذ انتشار وباء كورونا. كما يسعى الجمهوريون إلى إنشاء لجنة تحقيق في "التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين"، بالإضافة إلى "استخدام الحكومة الفيدرالية كسلاح". كما يسعى الجمهوريون لتشكيل لجنة للتحقيق في عمل لجنة التحقيق الديمقراطية باقتحام الكونغرس، ولمنع تسليم الأخيرة وثائقها للأرشيف الوطني. ولا يستبعد أن يقوموا بفتح تحقيق في قضية الوثائق السرّية الجديدة، التي سلّمها محامو بايدن للأرشيف الوطني، بعدما اكتشفوا وجودها قبيل الانتخابات النصفية في أحد مكاتبه، بجامعة بنسلفانيا.
وقال مكارثي في رسالة لزملائه الأسبوع الماضي، إن اللجنة الأخيرة، ستكون على شاكلة لجنة قديمة أنشئت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وسُميّت لجنة الكنيسة، للتحقيق في عمل وزارة العدل و"أف بي آي" وأجهزة إنفاذ القانون، علماً أن اللجنة حينها كان هدفها التحقيق في انتهاكات حرب فيتنام. ومن المرشح أن يقود اللجنة جيم جوردان، من جناح اليمين المتطرف الذي قاد حملة الدفاع عن ترامب، حين حاول مجلس النواب السابق عزله على خلفية اقتحام الكونغرس.
ويبني الجمهوريون سرديتهم، على الكثير من نظريات المؤامرة، وحملات تشويه الحقائق، مثل أن بايدن يسعى إلى زيادة عديد أجهزة إنفاذ القانون (87 ألف)، لملاحقة كل أميركي وأميركية، والتأكد من جيوبهم، بأنهم لا يملكون المال الكافي لتمويل خطته حول مجانية التعليم الجامعي.
(العربي الجديد)