على الرغم من أن اندلاع مواجهة شاملة لا تخدم مصالحهما، إلا أن كل المؤشرات تدل على أن إسرائيل وحركة حماس تسلكان مسارا يقود إلى هذه المواجهة، بعد تراجع فرص إنجاز اتفاق تهدئة يسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في قطاع غزة. ولعل أهم مركب من مركبات بيئة التصعيد بين "حماس" وإسرائيل يتمثل في تعدد الأطراف المؤثرة في مسار التهدئة وتضارب مصالحها وتعارض المحددات التي تضبط مواقفها.
فمن ناحية نظرية، تجاهر القيادات السياسية ومحافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب بأن اندلاع مواجهة مع حركة حماس، لن يفضي إلى تحقيق أي هدف استراتيجي لإسرائيل، بل إن هذا التطور يمكن أن يقود إلى توريطها في قطاع غزة لأمد بعيد في ظل تعاظم مخاطر حالة انعدام اليقين على الجبهة الشمالية، ولا سيما بعد تفجر الأزمة الحالية مع روسيا وإصرار إيران على مواصلة التمركز عسكرياً في سورية.
من ناحية ثانية، تبين أن هناك خلافا جديا داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بشأن الشروط الواجب توفرها في مسار التهدئة. ففي الوقت الذي تتحمس هيئة أركان الجيش لإنجاز مسار التهدئة مع حركة حماس، فإن جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك" يرى أن "مصلحة إسرائيل تكمن في أن يتم منح التسهيلات الاقتصادية للغزيين بعد عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، على اعتبار أن تحسين الأوضاع الاقتصادية في ظل وجود حكم "حماس" يرسل برسالة مفادها بأن إسرائيل تخضع فقط للقوة، بحيث إن الطرف الذي يمارس العنف هو الذي يجني المكاسب، بينما الطرف الذي يرفض العنف، ويواصل التعاون الأمني، يجري المس بمكانته، وفقاً ليورام كوهين، الرئيس السابق لـ "الشاباك".
إلى جانب ذلك، فقد برزت الاعتبارات الداخلية كعراقيل أمام تحرك للمساعدة في إنجاز التهدئة، إذ إنه على الرغم من تشجيع الأغلبية الساحقة من الوزراء في حكومة نتنياهو لمسار التهدئة مع حركة حماس، إلا أن الموقف الرافض والمثابر الذي عبر عنه وزير التعليم نفتالي بنات، رئيس حزب "البيت اليهودي" المتدين، أحرج ممثلي اليمين الآخرين في الحكومة، وهو ما أفضى إلى تقليص اندفاع بعض الوزراء المؤثرين، ولا سيما وزير الحرب أفيغدور ليبرمان، الذي قال أخيراً إنه "لم يكن يؤيد التوصل لتهدئة مع حركة حماس".
من ناحية ثانية، وتحت ضغط عائلات الجنود الأسرى لدى حركة حماس، اضطر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أخيراً للالتزام العلني بعدم التوصل لاتفاق تهدئة، من دون أن يشمل حل ملف الأسرى والمفقودين الإسرائيليين لدى "حماس".
في الوقت ذاته، فإن تهاوي مستوى ثقة حركة حماس في نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كوسيط مع إسرائيل، قلّص إلى حدّ كبير من رهان الحركة على الجهود التي تبذلها القاهرة لإنجاز التهدئة. فإصرار نظام السيسي على تطبيق اتفاق المصالحة الوطنية وعودة السلطة إلى قطاع غزة قبل التوصل لمسار التهدئة فُسّر في غزة، على أنه "تجسيد كلاسيكي لموقف نظام السيسي الرافض لوجود حركة حماس في القطاع، على اعتبار أنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين". وفي "حماس" يحاججون بأنهم لا يرفضون تطبيق المصالحة ولا يعارضون عودة السلطة، بل ينادون أن يتم ذلك بناء على اتفاق المصالحة الذي رعته القاهرة.
إدراك الواقع المعقد دفع القوى الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة، التي تدير حراك مسيرات العودة ورفع الحصار، إلى تطوير أنشطة هذا الحراك من أجل محاولة التأثير على الموقف الإسرائيلي، ودفع تل أبيب للعمل بهدف تجاوز العراقيل التي تحول دون التوصل إلى مسار التهدئة.
ونظراً لأن الكثير من المؤشرات دل على أن إسرائيل مقبلة على انتخابات مبكرة في الشتاء المقبل بسبب الخلاف على قانون التجنيد، فإنه يمكن الافتراض أن نتنياهو سيكون معنياً بأن يتزامن الاستحقاق الانتخابي مع حالة هدوء أمني، حتى لا يؤثر ذلك على فرص الليكود بالفوز مجدداً.
من هنا، فقد جاء توسيع دوائر الاشتباك بين المشاركين في حراك العودة وقوات الاحتلال وتكثيف نشاطاته، من أجل تشتيت جهود الجيش الإسرائيلي، إذ تمّ للمرة الأولى إيجاد بؤرة احتكاك على الساحل، في أقصى شمال غربي القطاع، وبالقرب من قاعدة زيكيم البحرية الإسرائيلية، إلى جانب مشاغلة قوات الاحتلال ليلا ضمن استراتيجية "الإرباك الليلي"؛ لإيصال رسالة لصناع القرار في تل أبيب مفادها بأنه ليس بوسع تل أبيب احتواء حراك العودة والتعايش معه. لكن في حال لم يطرأ تغيير على موقف عباس من التهدئة أو حدث تحول دراماتيكي يقلص من تأثيره على هذا المسار، فإن الرهان على توسيع أنشطة حراك العودة وتكثيفها وتنويعها في توفير بيئة تساعد على تحقيق التهدئة، سيكون محدودا.