حكم سورية... حركة بين المحاور وألغام النظام السابق

26 ديسمبر 2024
أحد شوارع دمشق، 24 ديسمبر 2024 (عمر حاج قدور/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تشهد سورية اهتمامًا دوليًا وعربيًا متزايدًا بعد فترة من العزلة، مع زيارات المبعوثين الدوليين والعرب إلى دمشق، مما يعكس أهمية التحولات السياسية وتأثيرها المحتمل على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

- تتباين مواقف الدول تجاه الحكم السوري الجديد؛ حيث ترحب الولايات المتحدة وأوروبا بشكل مشروط، بينما تدعم تركيا وقطر بفضل علاقاتهما السابقة مع المعارضة، وتظهر السعودية ومصر حذرًا، في حين يتبنى الأردن موقفًا إيجابيًا.

- يواجه الحكم السوري الجديد تحديات كبيرة مثل إثبات استقلالية القرار، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، والتعامل مع القضايا المعلقة كالمسألة الكردية والتهديدات الإسرائيلية والإيرانية، مما يتطلب دبلوماسية فعالة لتحقيق الاستقرار.

تعود سورية إلى دائرة الاهتمام الدولي والعربي، بعد زمن طويل بقيت فيه معزولة عن العالم، لا يقصدها إلا المبعوثون الروس والإيرانيون. ومنذ وصول الحكم الجديد إلى دمشق، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي، تشهد سورية زيارة عدد من المبعوثين الدوليين والعرب من أجل استطلاع الوضع والتعرف إلى مسؤولي المرحلة، أو الترحيب بالتحول وإبداء الدعم وتقديم المساعدة. يعكس الحراك الدبلوماسي، وحضور العدد الكبير من وسائل الإعلام الدولية والعربية في دمشق مدى أهمية الحدث والمسارات التي سيأخذها حكم سورية الجديد، والآثار المترتبة على التغيير على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

ليست جميع الدول الأجنبية والعربية على موجة واحدة، وهذا أمر طبيعي تحدده عدة اعتبارات، الأول هو المسافة من النظام السابق والحكم الجديد، وطبيعة المصالح مع كل منهما. الاعتبار الثاني هو مدى القرب والبعد الجغرافي عن سورية، وتأثير ما يحصل فيها داخلياً وخارجياً، خصوصاً على المحيط الجغرافي القريب، كونها تحتفظ بحدود دولية طويلة مع كل من تركيا والأردن والعراق وفلسطين المحتلة. ويشكّل هذا الجوار مصدر قلق لبعض هذه الدول بعد عام 2011، من ذلك على مستوى تهريب المخدرات بالنسبة للأردن، وتشكيل إدارة ذاتية كردية في شمال شرقي سورية، تعتبرها تركيا تهديداً لأمنها القومي. أما الاعتبار الثالث فهو التفاعلات التي يمكن أن يثيرها الحدث السوري على المدى البعيد، واحتمال تحوّل سورية إلى نموذج جديد في المنطقة، وهذا يعني بالنسبة لدول الربيع العربي التي واجهت ثورة مضادة مثل مصر وتونس، والدول المتضررة من التدخل الإيراني المباشر في شؤونها الداخلية وتشكيل مليشيات محلية موازية للدولة كما هو حال العراق واليمن ولبنان. ويلعب استمرار النفوذ الإيراني دوراً مباشراً في مواقف بعض هذه البلدان من الحكم الجديد في سورية.

موقف الولايات المتحدة من حكم سورية الحالي ليس بعيداً عن أوروبا، إذ تعبّر الوفود الزائرة لدمشق عن الشروط والمخاوف ذاتها. أما تركيا وقطر فهما متقاربتان، نظراً للعلاقات المتميزة بين البلدين، بينما لكل من العراق والأردن والسعودية ومصر مواقف متباينة، تتراوح بين الترحيب بصوت عال كما هو حال الأردن، والفتور من جانب العراق، والوقوف في منتصف الطريق من جانب السعودية، واكتفاء مصر بالتأكيد على أهمية استقرار سورية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ومن خلال قراءة ما بين سطور البيانات، والاتصالات الدبلوماسية المصرية، يتجلى عدم ترحيب القاهرة بالتحوّل، الأمر الذي يفسر عدم رفع العلم الجديد فوق مبنى السفارة السورية في العاصمة المصرية، كما حصل في عدة عواصم، بما فيها واشنطن.

واشنطن خطت خطوة مهمة وهي إرسال وفد رفيع المستوى بقيادة مساعدة وزير الخارجية باربارا ليف التي تعرف المنطقة جيداً، وسبق لها أن خدمت فيها لوقت طويل، في العراق والإمارات، وهي تجيد اللغة العربية. يتجاوز هذا الموقف الاهتمام إلى إبداء الترحيب المشروط، والذي يسبق الاعتراف الرسمي. ومن خلال إسقاط الجائزة التي كانت وضعتها لتقديم معلومات حول رئيس الإدارة الجديدة أحمد الشرع، قالت إنها لم تعد على موقفها السابق من "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقاً)، وتنتظر منها أن تتجاوب مع قائمة الشروط كي تتخذ خطوات أخرى تتمثل بالاعتراف، ورفع سورية عن لائحة العقوبات وتسهيل العقبات أمام المساعدات الدولية وعملية إعادة الإعمار.

وغير بعيد عن موقف واشنطن من حكم سورية الجديد تقف الدول الأوروبية، لكن بدرجات متفاوتة، وهناك تلاق ملحوظ بين كل من لندن وبرلين وباريس، التي كانت ذات موقف متميز من النظام السابق ورافض للتطبيع معه، ولعبت دوراً مهما على صعيد عرقلة التحركات التي قادتها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني. فقد قررت ميلوني فتح السفارة الإيطالية في دمشق، يوليو/ تموز الماضي، وقادت حملة داخل أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف لدعم نظام الأسد.

مواقف واضحة

وتصدر أوضح المواقف بشأن حكم سورية الجديد  في ما يخص دعم التغيير، عن أنقرة والدوحة. يعود ذلك في جانب منه إلى خصوصية العلاقات التركية القطرية من جهة، وموقف كل من البلدين على حدة من النظام السوري ودعم الشعب السوري. ومن المعروف أن تركيا حاولت اللقاء مع النظام السوري السابق من أجل تطبيع العلاقات على أساس عودة اللاجئين السوريين وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015 حول الانتقال السياسي)، ومن المؤكد أنها لعبت دوراً مهماً في المساعدة على إسقاط نظام الأسد. بينما وقفت قطر ضد محاولات التطبيع مع النظام، وأبقت على سفارة المعارضة لديها من دون سائر بلدان العالم. ويشترك البلدان في استقبال السوريين ودعم اللاجئين.

حضور الدوحة وأنقرة اليوم في الشأن السوري هو في جانب منه استمرار للمواقف السابقة لكل من البلدين

حضور الدوحة وأنقرة اليوم في الشأن السوري هو في جانب منه استمرار للمواقف السابقة لكل من البلدين، ما يفسر زيارة دمشق من قبل كل من وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ووزير الدولة القطري للشؤون الخارجية محمد الخليفي. كل منهما على صلة مباشرة مع الملف السوري منذ عدة أعوام، وعلى تواصل مع قادة التغيير، فالوزير التركي من موقعه السابق في رئاسة جهاز المخابرات ربطته معرفة مباشرة مع قادة "الهيئة" والأطراف السورية العسكرية الأخرى. الأمر ذاته بالنسبة للوزير القطري الذي يشرف على ملف الوساطات القطرية، التي استقبلت وحاورت وساعدت أغلبية أطراف المعارضة السورية، وعلى أرضها تشكل الائتلاف الوطني عام 2012، وهي البلد الوحيد الذي فتح سفارة له، وسلمه كرسي سورية في القمة العربية التي انعقدت في الدوحة عام 2013.

يشكل الموقف الأردني علامة بارزة بين المواقف الدولية والعربية نتيجة طبيعة العلاقة مع سورية من جهة، ومن جهة ثانية كون عمّان استضافت اجتماع العقبة في 14 من الشهر الحالي، صدر عنه البيان الذي يضع شروطاً قاسية على السوريين تصل إلى حد الوصاية. ومن هنا تكتسي تصريحات نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، أهمية خاصة بعد لقائه الشرع في دمشق، الاثنين الماضي، إذ قال إنه "يجب أن تأخذ الإدارة الجديدة في دمشق فرصتها. وهناك بداية جديدة تستحق الدعم". ومن شأن الموقف الأردني الإيجابي أن يشجع بعض الأطراف العربية والدولية المترددة أن تغادر هذه الدائرة، كما يطمئن الدول ذات المخاوف، ويرفع الشروط التي وضعها بيان العقبة.

ويبدو من تصريحات بعض المقربين من الإدارة الجديدة أن هناك تعويلاً على تطوير السعودية موقفها واتصالاتها التي اقتصرت على زيارة وفد بقيادة مستشار في الديوان الملكي (لم يحدد اسمه). وكانت الرياض قد قادت جهوداً دبلوماسية أعادت سورية إلى مقعدها في الجامعة العربية في قمة جدة، والتي حضرها بشار الأسد في مايو/أيار عام 2023. كما أعلن البلدان استئناف علاقاتهما الدبلوماسية الكاملة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قبل أن تسمي الرياض فيصل بن سعود المجفل، سفيراً في دمشق في مايو 2024.  يبدو من مروحة المواقف الدولية والعربية أن هناك تباينات صريحة بشأن حكم سورية في الوقت الراهن. بعض الدول مرحبة بالتغيير ومؤيدة له وعلى استعداد لدعمه، ودول أخرى لديها مخاوف وأسئلة حول العديد من خطوات المستقبل القريب. بينما تحكم المصالح مواقف بقية الدول، ما يرتب على الحكم الجديد أن يتصرف بانفتاح، يحافظ قبل كل شيء على شعرة معاوية مع كل هذه الدول، القريب منها والبعيد.

تحديات حكم سورية

مطلوب من حكم سورية الجديد أن يبرز عدداً من المواقف. أولاً، أن يثبت استقلالية القرار السوري سياسياً واقتصادياً وأمنياً، لا يقبل الإملاءات بخصوص القضايا الداخلية والمواقف الخارجية. يعدّ ذلك تحدياً صعباً جداً في ظل انعدام الخيارات والموارد والضغط الداخلي الكبير لتقديم حلول سريعة للاحتياجات المتراكمة من الحكم السابق، مثل الكهرباء، ومياه الشرب وخدمات النظافة والأمن. في حين أن النظام السابق ترك سورية دولة فاشلة اقتصادها على الأرض، ولا يوجد في البنك المركزي أكثر من 200 مليون دولار. ثانياً، أن تخطو الإدارة الجديدة خطوات فعلية على صعيد إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس مهنية، بعيداً عن رموز العهد السابق، خصوصاً في الجيش والأمن، والدبلوماسية والإعلام والاقتصاد. يمنحها ذلك ثقة داخلية تسلحها بأوراق قوة أمام المجتمع الدولي، فيما على السوريين وحدهم أن يقرروا شكل الحوار حول دستور الدولة. ثالثاً، حل القضايا المعلقة من دون تأثيرات أو ضغوط خارجية. وسيكون التعامل مع المسألة الكردية امتحاناً للإدارة الجديدة.

ألغام النظام السابق لا تقتصر على حل الجيش وتسريح الأمن والاحتفاظ بالسلاح لدى أوساط من مؤيديه

رابعاً، تفكيك الألغام التي تركها النظام السابق، وهي كثيرة، إذ لا تقتصر على حل الجيش وتسريح الأمن والاحتفاظ بالسلاح لدى أوساط من مؤيديه، بل تتجاوز ذلك إلى قطاعات متضررة من خسارة امتيازاتها التي حصلت عليها في العهد السابق، وهي لا تقتصر على طائفة بعينها. خامساً، التعامل مع التهديدين الإسرائيلي والإيراني. الأول يواصل قضم الأراضي وتهجير السكان من القرى الحدودية، والثاني يحرض على التحرك ضد الإدارة الجديدة. ويتطلب الأمر في الحالين دبلوماسية هجومية تتحرك على المستوى العالمي، لتقديم المذكرات حول الاعتداءات الإسرائيلية للأمم المتحدة والدول الكبرى ذات التأثير، وتأمين موقف عربي وإسلامي إلى جانب سورية. وفي الوقت ذاته لفضح نشاط إيران التخريبي ودورها المزعزع لاستقرار سورية والمنطقة، ومقاضاتها أمام المحاكم الدولية عن المرحلة الماضية التي ساعدت فيها النظام على قتل السوريين وتدمير مدنهم وقراهم وتهجير قرابة 12 مليوناً داخل سورية وخارجها.

المساهمون