تزامنت زيارة الرئيس القبرصي نيكوس أنستاسيادس، القاهرة، أمس السبت، لعقد أعمال اللجنة العليا المشتركة المصرية القبرصية لأول مرة على المستوى الرئاسي، مع عدة مستجدات إقليمية مهمة في منطقة شرق البحر المتوسط، تتقاطع من خلالها السياسة مع الأهداف الاقتصادية للأنظمة الحاكمة. في السياق، تستعدّ مصر وتركيا لإجراء جولة مباحثات استكشافية جديدة يومي الثلاثاء والأربعاء المقبلين في أنقرة. في المقابل، أعلنت أبوظبي يوم الخميس الماضي، عن شرائها حصة شركة "ديليك" الإسرائيلية في حقل غاز "تامار" المملوك للاحتلال الإسرائيلي. كما صدّقت مصر رسمياً على ميثاق "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي يتضمن عدداً من المواد التي تفتح الباب لتغيير كبير في طبيعة التعاون بين دول المنطقة مستقبلاً، علماً بأن الدول الأعضاء كانت قد اتفقت على دخول الميثاق حيز التنفيذ في مارس/آذار الماضي. ويضمّ المنتدى: قبرص، مصر، فرنسا، فلسطين، إسرائيل، إيطاليا، اليونان، والأردن.
شراكة الإمارات مع إسرائيل أثارت قلق تركيا ومصر
وحول التطورات الجديدة، أفادت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد"، أن دخول الإمارات، وهي عضو مراقب في المنتدى، مع إسرائيل في شراكة كبيرة كالتي أعلن عنها أخيراً في حقل "تامار" أمر يثير قلق مصر وتركيا على السواء. ويعود السبب لأهمية هذا الحقل ودخوله مورداً أساسياً في صفقات تصدير الغاز إلى مصر والأردن، التي تُتّبع فيها القواعد التي تم الاتفاق عليها بين دول المنتدى. كما تعكس الشراكة رغبة الإمارات السريعة في ضخ استثمارات في حقول الغاز بالمنطقة، مما يصعب معه قبول استمرار حالة عدم التعاون بين دول المنتدى وتركيا من ناحية، وبين الأخيرة ومصر تحديداً من ناحية أخرى، خصوصاً أن الاستثمارات المصرية الرسمية في السوق ما زالت دون المطلوب، ومعظم الحقول المصرية وإن كانت مملوكة للدولة، إلا أنها تحت إدارة أجنبية.
ويمثل دخول الإمارات عنصر مزاحمة ليس فقط لدول المنطقة، بل أيضاً للشركات التي تستحوذ على أعمال التنقيب والاستخراج من إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وهولندا، في جميع دول المنطقة تقريباً، مما يجعل الانخراط في العمل السريع لتفعيل ميثاق المنتدى أولوية بالنسبة للجميع.
وأضافت المصادر أن التحرك الإماراتي لم يكن ليحدث دون رغبة أكيدة من إسرائيل لفتح مجال التعاون مع الدول الخليجية في هذا الملف، من أجل تكوين شراكات يمكن استغلالها مستقبلاً للضغط على مصر أو الأردن أو السلطة الفلسطينية، والتي يعتبر ملف ترسيم الحدود واقتسام المناطق الاقتصادية بينها وبين الاحتلال من أهم المواضيع العالقة على طاولة المنتدى. وتحاول مصر في الوقت الحالي حلحلته سريعاً، رغم أنه لا يمكن فصله واقعياً عن ملفات أخرى كتبادل الأسرى وإعمار غزة والتهدئة في الضفة الغربية المحتلة.
وتبعاً لذلك؛ أوضحت المصادر أن هناك مصلحة مشتركة أكيدة لمصر لضم تركيا إلى المنتدى، من أجل ضمان تعدد فرص الاستثمار والشراكة والتصدي للاتفاقات الجانبية بين الاحتلال والإمارات، وكذلك بينهما وبين قبرص واليونان، أخذاً في الاعتبار التنسيق المستمر بين الدول الأربع، والتي لا تكون مصر مطلعة على تفاصيله كافة في أحيان كثيرة.
وهنا تكمن إشكالية تتمثل في أن ميثاق المنتدى يحظر ضم أي دولة إلا بعد إجماع الدول المؤسسة على قبولها، وفي حالة تركيا تبدو المشكلة الرئيسية مع اليونان، التي ما زالت متمسكة بأي إجراء يعزل أنقرة عن محيطها الإقليمي، لكن مرونة الاحتلال وقبرص في هذا الموضوع تجعله ممكناً بممارسة المزيد من الضغوط على أثينا أو منحها حوافز معيّنة.
ينصّ ميثاق المنتدى على ضرورة إجماع أعضائه لقبول انضمام أي دولة إليه
وذكرت المصادر أن القاهرة لا تمانع في إشراك أثينا ونيقوسيا بشكل غير مباشر في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع أنقرة، والتي باتت قريبة، خصوصاً أن اليونان وقبرص أبلغتا مصر سابقاً عدم ممانعتهما في التوصل إلى اتفاق شامل لترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة في المنطقة، وتأجيل حسم الصراع على بعض المناطق، أو الامتناع عن استغلال مناطق بعينها.
وكانت مصر قد نشرت في مارس الماضي خريطة لمناقصات البحث عن مكامن المواد الهيدروكربونية في أقصى غرب منطقتها الاقتصادية الخالصة، المشكّلة بموجب اتفاق ترسيم الحدود مع اليونان، بناء على اتصالات ومفاوضات سياسية وفنية. ويعود السبب إلى تضرّر أثينا من الخريطة السابقة التي طرحتها القاهرة في حينه، تلافياً للدخول في المناطق التي أعلنت أنقرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 توقيعها اتفاقاً بشأنها مع حكومة الوفاق الليبية السابقة. وهي اتفاقية رفضتها مصر واليونان وقبرص بشدة، وأرسلت شكاوى بشأنها إلى الأمم المتحدة.
ولم تعترض تركيا على الخريطة المصرية الجديدة، مما عكس رغبة الجانبين في التوصل إلى حلول تبعد شبح النزاع عن المنطقة كاملة، علماً بأن الأمم المتحدة سجلت الاتفاق التركي الليبي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ثم صادقت رسمياً على خريطة ترسيم الحدود المصرية اليونانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مما أبقى الأوضاع كما هي من دون حسم. وبحسب المصادر، فإن الجولة الثانية من المباحثات الاستكشافية في أنقرة ستتطرق بشكل أساسي إلى ترسيم الحدود، بعدما تفاهم الطرفان حول اتخاذ خطوات تسهّل مفاوضات تقسيم المناطق الاقتصادية لاحقاً، وكذلك التفاهم في قضية المنتدى.
وحتى الآن لم تتمّ بلورة مقترحات للتعاون بين تركيا وبعض دول المنتدى، لكن النقاشات الجارية في هذا السياق تعكس ضرورة العمل على توحيد مصالح جميع الأطراف، بدعم جهودها لإثراء سوق المنتجات الهيدروكربونية وحماية أنشطة الاستكشاف والاستخراج وتقريب الأسعار في عقود التوريد. ويحصل ذلك على خلفية الشكوك التي تجتاح الدوائر الاقتصادية المختلفة، حول استمرار اعتماد أوروبا على الغاز والمنتجات الهيدروجينية في العقود المقبلة، في ظل توجه دول أوروبية عدة إلى التوسع في استخدام الطاقة النظيفة وسن تشريعات لضمان ذلك.
في هذا السياق يبدو من المهم تقريب وجهات النظر لاستغلال الأراضي التركية، إلى جانب قبرص واليونان، كمحطات لوجستية للمشاركة مع مصر والاحتلال في مشروعهما الطموح لتصدير الغاز إلى أوروبا، بعد إسالته بوحدتي دمياط وإدكو في مصر، والذي سيكون جزء كبير منه تابعاً للاحتلال، في إطار الشراكة بين البلدين والتي أعلن انطلاقها بداية العام بالربط بين حقل "ليفاثان" والوحدتين عن طريق خط الأنابيب البحري.
وكانت تركيا في السابق تتصدى لمشروع توسيع شبكة الأنابيب المقامة بين مصر وإسرائيل، المملوكة حالياً لشركة جديدة أسست خصيصاً لامتلاك شبكة الأنابيب، بين شركتي "نوبل إنيرجي" الأميركية و"ديليك" الإسرائيلية (التي باعت حصتها في حقل تامار لأبوظبي) وشركة "غاز الشرق" المملوكة حالياً للدولة، ممثلة في جهاز المخابرات العامة وهيئة البترول. وتشمل عملية توسيع الأنابيب قبرص أيضاً، بهدف الاستفادة من مصنعي إسالة الغاز في مصر، واللذين ستستفيد منهما الاحتلال أيضاً.
وينص ميثاق "منتدى غاز شرق المتوسط" على تبني التعاون وخلق حوار منظم ومنهجي في ما يتعلق بموضوع الغاز الطبيعي، وعمل برنامج من أجل صياغة السياسات الإقليمية بهذا الشأن. ويدعو إلى دعم جهود البلاد المنتجة و/أو البلاد ذات احتياطي غاز بالمنطقة، من أجل التعجيل باستثمار الاحتياطي الحالي والمستقبلي، من خلال تبني التعاون في ما بينها ومع دول العبور والدول المستهلكة في المنطقة. وينصّ على إيجاد طرق لاستغلال البنية التحتية الموجودة وتطوير مزيد من خيارات البنية التحتية، لاستيعاب الاكتشافات المستقبلية حسب الحاجة.
يجري المصريون والأتراك مباحثات استكشافية في أنقرة
كما ينص الميثاق على دعم تشكيل سوق غاز إقليمي يفيد الأعضاء، من خلال تأمين العرض والطلب وتحسين تطوير الموارد وتحسين تكلفة البنية التحتية والتسعير التنافسي وتحسين العلاقات التجارية، عبر تعزيز التعاون بين الحكومات. بالتالي، تقوم الدول المنتجة والدول المستهلكة ودول العبور والدول ذات الاحتياطي من الغاز في المنطقة، بالتعاون في المواضيع الفنية والاقتصادية، وبناء العلاقات التجارية المستدامة وتطوير بنية تحتية اعتمادية، بهدف الأخذ في الاعتبار طرق إتاحة استجابة فعالة وسريعة لتغيرات السوق.
ومن المقرر أن تتطرق المباحثات الاستكشافية في أنقرة، أيضاً إلى الأوضاع في ليبيا والاشتباكات الأخيرة في العاصمة طرابلس، وملف الوجود العسكري التركي هناك. ويمثل الوجود العسكري حساسية خاصة بالنسبة لمصر حتى مع تحسن العلاقات الواضح مع الحكومة الليبية الحالية، وابتعادها خطوات عن الدعم اللامحدود ميدانياً لمليشيا شرق ليبيا بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، مع استمرار دعمه بالسلاح والتدريب والمساعدات اللوجستية.
وتتمسك تركيا بوجودها العسكري في عدد من القواعد غربي ليبيا، باعتباره "أثراً طبيعياً" لاتفاقيات سياسية مع الحكومة الشرعية في طرابلس، شأنها شأن باقي النتائج التي ترتبت على الاتفاقيات الثنائية مع حكومة الوفاق السابقة، طالما لم تلغها الحكومة الحالية. ويعكس أداء الحكومة الليبية التفاهم المصري التركي الحالي، رغم محاولات الإمارات للتركيز على النقاط الخلافية وتأليب الأوضاع، بعد التراجع الميداني الكبير الذي مُني به حلفاؤها وعلى رأسهم حفتر، والذي لم يعد فرس الرهان المصري في المشهد السياسي الليبي.
وبحسب المصادر، فإن شروط مصر للقبول بالوجود العسكري التركي في ليبيا مع استمرار التفاوض الإيجابي لتطبيع العلاقات، ما زالت تتمثل في الالتزام الكامل باتفاق وقف إطلاق النار الموقع في ديسمبر الماضي، وعدم إدخال أسلحة جديدة إلى الأراضي الليبية. وتشترك مصر في البدء بجدولة انسحاب العناصر التركية خلال العام الحالي، فضلاً عن إبداء الجدية في وقف جلب العناصر الأجنبية (المرتزقة)، والمضي قدماً في إعادة المقاتلين غير الليبيين إلى أراضيهم "وهو ما أبدت فيه تركيا مرونة أكبر من باقي الشروط".