حسابات الردع والحرب في إسرائيل

09 اغسطس 2024
إسرائيل مطار بن غوريون، 6 أغسطس 2024 (غيل كوهين ماغن/فرانس برس)
+ الخط -

اغتالت إسرائيل، في الأسبوع الماضي، القائد العسكري في حزب الله اللبناني فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران. اغتيالان جاءا بعد أيام من زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة، وعزّزا قناعة العديد من وسائل الإعلام والمحللين في إسرائيل بأن نتنياهو وجّه ضربة صعبة لمساعي التوصل إلى صفقة تبادل ووقف إطلاق النار في قطاع غزة مع "حماس"، على الأقل في المدى القصير. ويرى العديد من هؤلاء المحللين أن المؤسسة العسكرية الراغبة في إتمام الصفقة لا تملك الأدوات اللازمة للدفع نحوها، وتنجر نحو تصعيد أمني واسع.

عمليات الاغتيال بدّلت المزاج العام في إسرائيل من الحديث عن ضرورة التوصل إلى اتفاق مع "حماس"، وربما التوصل بعدها إلى اتفاق مع لبنان لتهدئة الجبهة الشمالية أيضاً، إلى أحاديث وأجواء الحرب والانتظار والترقب والقلق. الأسئلة الحارقة في الإعلام وبين الإسرائيليين هي، هل سيأتي رد حزب الله وإيران على عمليتي الاغتيال؟ وكيف سيكون؟ وهل سيؤدي الرد إلى توسيع الجبهة الشمالية وصولاً إلى حرب إقليمية؟ وكيف سيكون الرد الإسرائيلي على الرد؟

قبل عمليتي الاغتيال لم تكن إسرائيل بأفضل حال في الجانب الاستراتيجي. فالجيش لم ينجح في منع هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ولم ينجح في حسم حرب الإبادة على قطاع غزة منذ عشرة أشهر. كما لم يردع جيش الاحتلال حزب الله والحوثيين في اليمن من توسيع الجبهات وإطلاق صواريخ تجاه إسرائيل، ولم يردع إيران في إبريل/نيسان الماضي من الرد على اغتيال القيادات العسكرية في مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق. ناهيك عن أن كافة التحليلات الإسرائيلية الجدية تدعي أن الجيش غير مهيأ لخوض حرب واسعة في جبهة الشمال، وهناك نقص في المعدات والذخائر والقوى البشرية. عمليات الاغتيال لم تغيّر من هذا الواقع، بل زادت من تعقيداته وفاقمت أزمات إسرائيل.

الحالة الإسرائيلية تشهد تغيرات لم تشهدها في الماضي. في السابق كانت إسرائيل تغتال وتقتل وتجتاح، من دون أي اعتبارات جدية لردود فعل الطرف المستهدف، ومن دون الخشية من أن يؤدي ذلك إلى حروب واسعة أو إلى ثمن جدي قد تدفعه إسرائيل. أما الحسابات الإسرائيلية الحالية فهي معقّدة للغاية، وتختلف إلى حد بعيد عن السابق، حتى عن أحداث إبريل الماضي بعد اغتيال القيادة العسكرية الإيرانية في دمشق والهجوم الصاروخي الشكلي الذي نفّذته طهران، ولو كان حجمه كبيراً وشكّل سابقة ليست بسيطة. أما الآن، فيأتي التهديد برد من قبل حزب الله وإيران معاً. وتقول إسرائيل، على لسان محللين وخبراء، إنها تخشى رد حزب الله أكثر من رد إيران.

في حالة إيران هناك العديد من أدوات الردع والضبط، والمسافة البعيدة بين البلدين توفر إنذاراً مبكراً لإسرائيل، وتساعد على إسقاط الصواريخ والمسيّرات المتجهة نحو إسرائيل. وهناك القوات الأميركية التي تجنّدت بالكامل للدفاع عن دولة الاحتلال. أما حزب الله فيملك، وفقاً للمصادر الإسرائيلية، عشرات آلاف الصواريخ ومن أنواع مختلفة، تحتاج إلى دقائق قليلة للوصول إلى أهدافها في إسرائيل، ناهيك عن استعماله أنواعاً من المسيّرات التي نجحت لغاية الآن باختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية وإلحاق أضرار في الجبهة الشمالية. كما أن قدرات وأدوات الردع الأميركية لا تعمل بذات الحزم أمام حزب الله.

لا اتفاق في إسرائيل على منع الحرب

هناك تصور عام في إسرائيل بأن توسيع الحرب مع حزب الله يمكن أن يؤدي إلى حرب إقليمية واسعة تشمل إيران والحوثيين في اليمن وقوات الحشد الشعبي في العراق، وربما قوات إضافية من سورية، وأن ثمن الحرب سيكون مرتفعاً جداً في الجبهة الداخلية. إسرائيل غير مستعدة لمثل هذه الحرب في هذه المرحلة، خصوصاً بعد عشرة أشهر من حرب الإبادة على قطاع غزة، واستنزاف قدرات الجيش الإسرائيلي، وفق ما يرشح عن مراكز أبحاث الأمن والمحللين وبعض صنّاع القرار لدى الاحتلال.

هناك أصوات في إسرائيل تطالب وتشجع على الحرب وتوجيه ضربة استباقية لحزب الله وربما لإيران

ترجّح كافة التقديرات الإسرائيلية بأن حرباً واسعة مع حزب الله تعني آلاف القتلى والجرحى في إسرائيل، من قوات الجيش والمدنيين، وشل الحركة في غالبية المستوطنات الإسرائيلية من حيفا إلى الحدود الشمالية، مع احتمال أن تطاول الحرب مناطق في وسط إسرائيل أيضاً. كذلك من من المتوقع وقوع دمار كبير لمراكز عسكرية ومدنية وبنى تحتية.

إلا أن كل هذه التقديرات والتقارير والتحليلات لا تمنع وجود أصوات تطالب وتشجع على الحرب، بل تطالب بتوجيه ضربة استباقية لحزب الله وربما لإيران. من بين تلك الأصوات تلك الصادرة عن وزراء مركزيين في الحكومة ومحللين جديين في الإعلام والأكاديمية. وكان مفاجئاً بعض الشيء أن يطالب الوزير السابق بني غانتس، يوم الأربعاء الماضي، والذي استقال قبل أقل من شهرين من حكومة نتنياهو، بتوجيه ضربة استباقية إلى حزب الله، تشمل ضرب بنى تحتية مدنية في لبنان، لافتاً إلى أن حزبه همحانيه همملختي (المعسكر الرسمي) سيدعم الحكومة في ذلك. الادعاء الأساسي لكل هؤلاء أن الحرب مع حزب الله ستأتي عاجلاً أم آجلاً، وأن ثمن تأجيلها سيكون أكبر بكثير من المواجهة الآن. لذلك من مصلحة إسرائيل أن تبادر الآن للهجوم على حزب الله ولو كان ثمن ذلك باهظاً.

فترة ترقب وانتظار

هذه ليست أول مرة تواجه فيها إسرائيل معضلة اتخاذ قرار ببدء حرب أو الانتظار لتكون الخطوة الأولى من قبل الطرف العربي. الوضع الحالي يعيدنا إلى الأحداث التي سبقت العدوان الإسرائيلي في يونيو/حزيران 1967 على ثلاث دول عربية، احتلت خلاله الضفة الغربية والجولان السوري وسيناء المصرية. حينها سُميت الفترة التي سبقت الحرب إسرائيلياً "فترة الانتظار أو الترقب"، إذ تخبّطت إسرائيل، كما اليوم، بكيفية التصرف وفي سؤال هل تبادر بشن هجوم على الجيوش العربية، أم تنتظر التحركات العربية؟

الجيش الإسرائيلي ضغط حينها بشدة للبدء بالهجوم ومفاجأة الجيوش العربية. وقال إن التردد يضر بمكانة إسرائيل وقدرة الردع ويشجع الدول العربية. وكان موقف دولة الاحتلال الرسمي أنها لا تريد الحرب وتبحث عن حلول دبلوماسية لمسألة إغلاق مضيق تيران (بين جزيرة تيران وشبه جزيرة سيناء من جهة شبه الجزيرة العربية) ودخول الجيش المصري إلى سيناء. كان لهذا التردد اعتبارات دبلوماسية وسياسية وعسكرية.

في تلك الفترة تعامل الإعلام الإسرائيلي مع رئيس الحكومة حينها ليفي أشكول، على أنه غير مهيأ وغير ملائم لقيادة إسرائيل في تلك المرحلة. وصوّر أنه رئيس حكومة ووزير أمن (شغل المنصبين في آن منذ 1963) ضعيف ومتردد، ما اضطره إلى توسيع الحكومة وإدخال حزب الليكود وتعيين موشي ديان وزيراً للأمن قبل الحرب بأسابيع. في نهاية المطاف، وفي جلسة للحكومة الإسرائيلية بتاريخ الرابع من يونيو 1967 التي ترأسها ديان، بدل أشكول، وصفت بعد عقود على أنها شهدت نوعاً من أنواع التمرد من قبل قيادة الأركان العامة الذين دفعوا الحكومة لاتخاذ قرار الحرب وبدء الهجوم.

كذلك كان هناك حالة ترقب وانتظار واستعداد قبيل حرب أكتوبر 1973، حين وصلت أخبار ومعلومات أن الجيشين المصري والسوري يتحضران لشن هجوم في الأراضي المحتلة في الجولان وسيناء. حينها، على عكس حرب 1967 لم تتخذ الحكومة الإسرائيلية قراراً بشن هجوم استباقي، لأسباب عديدة. ومن وجهة نظر إسرائيلية تسبب ذلك بدفع أثمان عسكرية وبشرية كبيرة، فيما حُمّل جهاز المخابرات العسكري مسؤولية الفشل الكبير.

مكانة وتأثير الجيش الإسرائيلي حالياً ليستا كما كانتا في الحروب السابقة لا سيما مع الدول العربية

الحالة الراهنة تختلف، إلى حد ما، عن الأحداث السابقة، فمكانة وتأثير الجيش ليستا كما كانتا، ولا يستطيع فرض إقرار ضربة استباقية، ولا أن يمنع قرار الحرب. السؤال المطروح على متخذي القرار الإسرائيلي هو هل تنتظر إسرائيل رد حزب الله وإيران، وتقرر تصرفها وفق طبيعة الرد ونتائجه، وتخاطر، من منظار إسرائيلي طبعاً، في استمرار تراجع وتآكل قدرة الردع وصورة إسرائيل الاستراتيجية؟ أم تبادر إلى ضربة استباقية، على الأقل ضد حزب الله، وتغامر في دفع المنطقة إلى حرب واسعة يقول الجيش الإسرائيلي بنفسه إنه غير مهيأ لها، وإن ثمنها باهظ جداً، ويمكن أن تخلق أزمة حقيقية مع الإدارة الأميركية، وتعرّض الاقتصاد الإسرائيلي إلى انتكاسة جدية تضاف إلى التراجع الحاصل منذ السابع من أكتوبر. في المقابل فشل الضربة الاستباقية يمكن أن يؤدي إلى زيادة ورطة إسرائيل الاستراتيجية وزيادة تآكل قدرة الردع، وكشف مواطن ضعف الجيش الإسرائيلي.

إسرائيل تريد ترميم مكانتها الاستراتيجية وإعادة بناء قدرة الردع، والمؤسسة العسكرية تبحث عن صور نجاح وانتصار لترميم مكانتها أمام المجتمع الإسرائيلي وتعزيز دورها في صناعة القرار الأمني والعسكري، بعد الضرر الكبير الذي لحق به في السابع من أكتوبر الماضي. ونتنياهو يبحث عن أدوات لترميم مكانته السياسية وإعادة صورة رجل الأمن وحامي إسرائيل. لكن جميعهم يدركون أثمان ذلك. السؤال هل ستفضّل إسرائيل خوض المغامرة ودفع الثمن الآن أم تؤجل الأثمان للمستقبل، في انتظار أوضاع استراتيجية وسياسية مختلفة، وتؤجل المواجهة مع حزب الله وإيران؟ في الأجواء والمعطيات الحالية، يبدو أن إسرائيل تميل للخيار الثاني. يمكن القول إن الحالة الراهنة تعد من المرات القليلة التي تكون فيها إسرائيل مردوعة من البدء في حرب وتخشى أثمانها.

المساهمون