"معاً ننتصر"، تحت هذا الشعار توحدت دولة الاحتلال الإسرائيلي داخلياً في حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة مدفوعة برغبة الانتقام، بعد أن عصفت بها منذ مطلع العام الحالي خلافات داخلية وحالة استقطاب غير مسبوقة قبل الحرب، على خلفية خطة التشريعات القضائية التي تقودها الحكومة، الرامية لتقويض جهاز القضاء، وعلى خلفية قانون التجنيد وقوانين أخرى.
لكن شعارها الرنان هذا، الذي دفع أيضاً حزب "المعسكر الرسمي" بزعامة بني غانتس للانضمام إلى حكومة طوارئ في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لا يخفي الخلافات الداخلية، سواء داخل حكومة الاحتلال نفسها أو في المجتمع الإسرائيلي، والتي عادت لتطل بأشكال مختلفة، منها ما هو مرتبط بالحرب في الوقت الراهن.
من الصعب الجزم في الوقت الحالي بالوجهة التي تسير إليها الحرب، تلك المرتبطة بحسابات داخلية وخارجية، خصوصاً أن إسرائيل بعد أكثر من 50 يوماً لم تحقق "إنجازات كبيرة" حسب مفهومها، حتى وإن ادّعت ذلك.
في المقابل، يبحث رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وقادة المؤسستين العسكرية والأمنية، عن إنجاز ما يقدّمونه للإسرائيليين، بعد الإخفاق الكبير الذي أفضى إلى نتائج "طوفان الأقصى"، وحبل نجاة يخفف من وطأة "يوم الحساب" الذي يلي الحرب، ولجان التحقيق التي قد تطيح برؤوس بارزة، فيما تستقيل أخرى قبلها.
ويحاول نتنياهو تأجيل كل ذلك بإطالة أمد الحرب، خصوصاً أنه لا يملك تصوراً واضحاً للمرحلة المقبلة، باستثناء ترديد شعار القضاء على حركة "حماس" ونزع قدراتها العسكرية والسلطوية.
وكلما طالت الحرب، طفت المزيد من الخلافات الداخلية على السطح، كما أن منسوب الدعم الداخلي للحرب قد يتراجع بشكل ملموس، خصوصاً بعد الهدنة المؤقتة، والتي انتهت صباح أمس الجمعة، وجعل قضية المحتجزين الإسرائيليين أولوية، على أثر ضغط عائلاتهم والضغط الشعبي الذي رافق ذلك، في حين بدا من قبل أن الأولوية هي للقصف والانتقام حتى بثمن قتل الإسرائيليين، ودلت على ذلك مواقف شخصيات بارزة في الحكومة.
وبدت الخلافات واضحة خلال جلسة في الكنيست الإسرائيلي في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حين ناقش قانون الإعدام للمقاومين الفلسطينيين، فيما توسّلت عائلات المحتجزين لأعضاء الجلسة أن يوقفوا القانون ويشطبوه من جدول الأعمال في ظل وجود ذويهم في غزة. ووجدت العائلات من يرد عليها من أوساط الحكومة بأنهم ليسوا أوصياء على الألم.
وقعت مواجهات في أولى أيام الحرب بين مطالبين بإطاحة نتنياهو وآخرين دافعوا عنه
قبل ذلك، وقعت مواجهات في الأيام الأولى للحرب بين متظاهرين طالبوا بإطاحة نتنياهو وإعادة المحتجزين في غزة، وآخرين خرجوا دفاعاً عن نتنياهو. وفي الأيام الأخيرة عايش الإسرائيليون "نشوة" استعادة العشرات من محتجزيهم في غزة بصفقة مع حركة "حماس"، وهو ما قد يزيد الضغط الداخلي لاستعادتهم جميعاً ويؤثر على سير الحرب. وهو ما حذّر منه معارضو الهُدن، خصوصاً أن ذلك قد يؤثر على تراجع التأييد الشعبي لمواصلة الحرب بشكلها الحالي، فضلاً عن منح المقاومة الفلسطينية بعض الوقت لترتيب أوراقها من جديد.
قد لا يغري شعار "معاً ننتصر" الإسرائيليين لوقت طويل، رغم تفاعلهم معه حتى الآن، خصوصاً أن شرائح واسعة في المجتمع الإسرائيلي، لا سيما عائلات قتلى 7 أكتوبر الماضي، يحمّلون نتنياهو وحكومته مسؤولية الإخفاق وما آلت إليه الأوضاع. والتقى نتنياهو في الأيام الماضية ممثلين عن المستوطنات والبلدات التي تضررت خلال الحرب، لكن عدداً من سكانها رفضوا لقاءه، ويطالبونه حتى اليوم بزيارة تلك الأماكن ولقاء سكانها وليس ممثلين عنهم.
وعلى الرغم من حظر التظاهرات في إسرائيل خلال فترة الحرب، حتى تلك التي تطالب بوقف الحرب واستعادة المحتجزين، نُظّمت بعضها، حتى في الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر، كان من ضمن شعاراتها المطالبة باستقالة نتنياهو. وهي أصوات مرشحة للارتفاع في فترات مقبلة.
الصوت الإسرائيلي المطالب بوقف الحرب لا يزال خافتاً نسبياً، لكنه مرشح للارتفاع، فمواصلة عملية الانتقام الدموية، منوطة بعوامل عدة، منها قدرة المجتمع الإسرائيلي على احتمال تبعات حرب طويلة وتخلي الإسرائيليين عن حياتهم الطبيعية وأعمالهم وتنقّلهم، وقدرة سكان البلدات الحدودية النازحين من الشمال والمناطق المحيطة بقطاع غزة على البقاء خارج بلداتهم، هذا عدا عن الخسائر الضخمة التي ألمّت بالاقتصاد في مختلف مرافقه، ما دفع إلى تسريح عدد كبير من جنود الاحتياط بعد تجنيدهم في بداية الحرب.
ومن العوامل التي قد تساهم في تراجع الدعم الداخلي للحرب إحصاء المزيد من الجنود القتلى في قطاع غزة، بعد تكبّد جيش الاحتلال خسائر كبيرة، وتأكيد القيادة العسكرية والسياسية مراراً أن الثمن الذي يُدفع في غزة باهظ. قد يقود ذلك إلى تصادم مع من يؤيدون استمرار الحرب بأي ثمن.
إسرائيل على مفترق طرق
تقف دولة الاحتلال الإسرائيلي على مفترق طرق، وربما تتفاقم الخلافات الداخلية حين سيتوجب عليها الاختيار، على الأرجح، بين اثنين من أهدافها كأولوية، فهي التي حددت هدف القضاء على حركة "حماس"، قبل أن يتراجع ذلك إلى سلب الحركة قدراتها العسكرية والسلطوية وهدف استعادة جميع المحتجزين.
خطان متوازيان لا يلتقيان، برأي الكثير من المراقبين، على الرغم من إصرار جهات في الحكومة والجيش على أن توجيه ضربات أعنف للمقاومة يساهم في استعادة المزيد من المحتجزين الإسرائيليين، فيما يطالب آخرون بصفقة شاملة تعيد جميع الإسرائيليين، حتى لو كان الثمن "الجميع مقابل الجميع" أي مقابل تبييض السجون وإطلاق إسرائيل سراح جميع الأسرى الفلسطينيين، وهو ما يعارضه أقطاب في الحكومة.
أعلن حزب "القوة اليهودية" بزعامة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عدم موافقته على أي طرح من هذا النوع لو حدث، علماً أنه كان قد هدد أخيراً بالاستقالة من الحكومة إن أوقفت إسرائيل الحرب. وأعلن أعضاء في حزب "الصهيونية الدينية" خلال مقابلات مع وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام الأخيرة أن هذا الأمر مرفوض وأنه غير مطروح أصلاً، لا هو ولا أي حديث عن صفقة شاملة.
ستقود نهاية الحرب إلى انتخابات جديدة على الأرجح للكنيست، وهو ما لا يريده نتنياهو ولا شركاؤه في الائتلاف في المرحلة الحالية، خصوصاً أن نتائج استطلاعات الرأي التي تُجرى منذ بداية الحرب تشير إلى انهيار الحكومة وأحزابها شعبياً.
إسرائيل لديها انفصام في الشخصية
وصف الصحافي والمعلّق الإسرائيلي نير فينيكس، في مقال نشره في موقع "والاه" يوم الأربعاء الماضي، إسرائيل في ظل بعض الخلافات الداخلية، بأنها تعيش حالة انفصام في الشخصية وتبحث عن حل.
وأشار في هذا السياق إلى أن "الرأي العام (الإسرائيلي) قد يتمنى إطلاق سراح المزيد من المخطوفين، وفي الوقت نفسه يحلم بالقضاء على حماس، إلا أن لحظة الحقيقة للحكومة تقترب، حيث إن هدفَي الحرب يسيران على مسار تصادمي... كما أن المشكلة لا تكمن في تصريحات قادة البلاد، ولكن في درجة ثقة الجمهور بأقوالهم".
نير فينيكس: هدفا الحرب يسيران على مسار تصادمي
وأضاف أنه "لو جلس الرأي العام في إسرائيل على أريكة الطبيب النفسي، فمن المحتمل جداً تحويلنا إلى علاج نفسي يشمل بعض الأدوية المثبّتة... يكفي أن ننظر إلى مخاوفنا، لنفهم أننا لسنا متصالحين مع أنفسنا".
واعتبر فينيكس أن إسرائيل غير قادرة على تحديد الأولوية بين الأمرين وأن "العجز عن اتخاذ القرارات، يشير إلى وجود انقسام حقيقي في الآراء بين تصورات مختلفة. وبهذا نقلت إسرائيل الحسم إلى العدو لكي يقرر من أجلها".
وأضاف: "حقيقة أخرى تلك التي تنعكس منذ 7 أكتوبر، وهي أننا بتنا يهوداً أكثر من كوننا ديمقراطيين وعلى كل واحد (منا) أن يفكّر ما إذا كان هذا جيداً أم سيئاً لليهود".
ولفت الكاتب إلى وجود أزمة ثقة بين جميع أقطاب القيادة الأمنية - السياسية من ضمنهم نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت والوزير في مجلس الحرب بني غانتس ورئيس هيئة الأركان هيرتسي هاليفي، وبين ضباط كبار وغيرهم.
وتساءل: "هل تغيب ثقتنا بالقيادة الإسرائيلية إلى هذه الدرجة؟ هل أزمة الثقة بين الشعب وقيادة المستويين السياسي والعسكري مجتمعة بهذه الخطورة؟ إذا لم يكن كذلك، فلماذا تقتنع دولة بأكملها بأن حفرة على شكل صفقة سحرية تشترط تبادل المخطوفين بالأسرى، في إطار وقف إطلاق النار، أصبحت تماماً تحت أقدامنا؟".
ورأى فينيكس أن الخبرة علّمت الإسرائيليين أن القرار سيكون في نهاية المطاف بيد شخص واحد، وأن رئيس هيئة الأركان في نهاية المطاف هو شخص يرتدي الزي العسكري لكنه يخضع للمستوى السياسي، وأن وزير الأمن أصلاً غير مرئي بالنسبة لرئيس الحكومة، في حين أن غانتس أثبت "في مرات سابقة" أنه لا توجد أي مراوغة من قبل نتنياهو لا تنطلي عليه، بمعنى أن مفتاح الحسم بيد رئيس الحكومة.
كما اعتبر أن انعدام الثقة بنتنياهو بات أيضاً منتشراً في أوساط ناخبيه ومؤيدي ائتلافه، وحتى في يمين اليمين "لا يثقون به ومتأكدون بأنه يخبئ وراء ظهره صفقة تتضمن أموالاً أميركية لإسرائيل، وأموالاً قطرية لغزة، والتطبيع مع السعودية كصفقة شاملة".
وتابع: "ربما يعرف نتنياهو شيئاً عن عدم القدرة على كسب الحرب بالطريقة التي تنتظرها إسرائيل، وربما يعتقد بأنه لا يمكنها الصمود على المدى البعيد في ظل عدم وجود دعم دولي".
لكن الكاتب اعتبر في الوقت نفسه أن المسؤولية لا تقع على عاتق نتنياهو وحده، ذلك أن أعضاء المجلس الوزاري المصغّر للشؤون السياسية والأمنية (الكابنيت) ومنهم نتنياهو حاولوا الادّعاء بأنه يمكن خوض الحرب من أجل تحقيق الهدفين المهمين للإسرائيليين معاً.
وأعرب فينيكس عن اعتقاده أن منح الأفضلية لتجديد القتال لا يقلل بالضرورة من احتمالات إنقاذ المحتجزين بأي طريقة، سواء كان ذلك من خلال القتال أو من خلال المفاوضات.
في المقابل رأى أن التوصل إلى صفقة شاملة (الجميع مقابل الجميع) يضاف إليها التزام إسرائيلي مع ضمانات دولية بوقف إطلاق النار كما تطالب حركة "حماس"، سيقضي كلياً على الهدف الثاني وهو القضاء على الحركة، وعليه لا بد من الاختيار بينهما والحسم.
ألوف بِن: على نتنياهو حسم قراراته بشأن المرحلة المقبلة من الحرب
ووافق رئيس تحرير صحيفة "هآرتس"، ألوف بِن، في مقال كتبه الأربعاء، بأنه سيتوجب على نتنياهو حسم قراراته بشأن المرحلة المقبلة من الحرب، لافتاً أيضاً إلى تأثير ذلك على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وأشار إلى عدم وجود ضغط داخلي حالياً في إسرائيل من أجل وقف الحرب أو تسوية مع "حماس"، وفي حال حدث ذلك، فسيتم التصدي له بالقوة من جانب الشرطة والنيابة العامة.
وأضاف بِن أن هناك مسارات تصادمية في المرحلة المقبلة قد تؤثر على الوضع الداخلي، منها عدم بحث إسرائيل المرحلة المقبلة على الرغم من المطالب الأميركية الحثيثة.
ومن بين المسارات التصادمية التي ذكرها، أن أي تراجع لنتنياهو عن تصريحاته الرافضة لعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، سيدخله في صدام مع بعض أقطاب حكومته، خصوصاً وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وبن غفير.
وقد يلتقي ما يقوله بِن مع تقارير ذكرت أخيراً أن الإدارة الأميركية تنظر إلى سموتريتش وبن غفير كعاملَين معيقَين في الحكومة. مع هذا تتبنى الإدارة الأميركية هذا الموقف منهما قبل الحرب، قياساً على عدة أحداث ومواقف سابقة، منها ما يتعلق بدورهما في تغذية أعمال المستوطنين العدائية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وتعزيز الاستيطان وقضايا أخرى.
غضب في المستوطنات الحدودية
قضية أخرى قد تغذي الخلافات الداخلية الإسرائيلية، تضاف إلى ما تقدّم، هي حال المستوطنات والبلدات الحدودية، سواء المجاورة لقطاع غزة أو القريبة من الحدود اللبنانية. يعيش سكان هذه المناطق مصيراً مجهولاً حتى اللحظة، في ظل بقائهم خارج مناطقهم منذ نحو شهرين، فيما تتصاعد المطالبة بتوفير حلول لهم.
غضب رؤساء السلطات المحلية في تلك البلدات بدا واضحاً في الآونة الأخيرة، خلال لقاءاتهم مع ممثلي الحكومة والجيش، خصوصاً في الشمال مطالبين بإبعاد "حزب الله" اللبناني عن الحدود، ومهدّدين بأن السكان لن يعودوا قبل ذلك. وتعطلت حياة الكثير من النازحين الإسرائيليين سواء من الجنوب أو الشمال في انتظار حلول لم تأت، بينما ينفد صبرهم.