جورج حبش يتحدّث عن البواكير والرفاق والمسار: انفصال وديع حدّاد عن الجبهة الشعبية (الأخيرة)
استمع إلى الملخص
- يتناول الحوار تفاصيل تأسيس الحركة وأدوار الشخصيات البارزة، بالإضافة إلى العمليات السياسية والعسكرية التي نفذتها الجبهة، والانشقاقات اليسارية بين 1968 و1972.
- يبرز الحوار الاختلافات في الأولويات بين حبش وحداد، حيث كان حداد يركز على العمليات الخاصة، بينما كان حبش يهتم بالتحول الفكري نحو الاشتراكية، مما أدى إلى تباعد بينهما.
هذا الحوار وثيقة مهمة في تجربة جورج حبش ورفاقه الأوائل الذين أسسوا حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أنجزه في الجزائر سنة 1989 شريف الحسيني وسائدة الأسمر (حكمت نصّار). يتعلّق، في جزء كبير منه، بالقيادي المؤسس في الجبهة وديع حدّاد وخلافه معها ومع حبش. ويتضمن تفصيلات مهمة عن البدايات التأسيسية لحركة القوميين العرب، وعن الرفاق الأوائل، أمثال هاني الهندي ووديع حدّاد وأحمد الخطيب وصالح شبل وحامد الجبوري ومحسن إبراهيم وأحمد اليماني. كما يحتوي معلومات شائقة عن مرحلة النضال السياسي والعسكري، ولا سيّما عمليات خطف الطائرات التي برع وديع حدّاد في تخطيطها وتنفيذها، علاوة على الانشقاقات اليسارية التي خلخلت تنظيم الجبهة الشعبية بين 1968 و1972. وقد انتثلَ الزميل صقر أبو فخر هذا الحوار المطوّل، والذي لم ينشر من قبل، من أوراقه الفلسطينية وحقّقه ووضع حواشيه وقدّم له. تنشر "العربي الجديد" حلقاتٍ منه، قبيل صدوره قريبًا في كتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفيما يلي الحلقة السابعة والأخيرة من الحوار.
***********
شريف: يبدو لي أن نظرتكم إلى الأشخاص لم تكن موحّدة بمن فيهم أنت ووديع. وديع كانت تهمه الفاعلية، أما أنت، ولا سيّما بعد حلّ حركة القوميين العرب، صار الموضوع النظري والفكري يهمّك أكثر، أو ربما أعطيته الاهتمام أكثر من اللازم. في زمن حركة القوميين العرب كانت هناك لجنة للفكر، وأنت لم تكن غارقًا فيها. ربما مع بداية المشكلات في الجبهة الشعبية أدركت أن ثمة ثغرة يجب أن نتنبه إليها. أما وديع فهذا الموضوع لم يكن ليعطيه الأهمية، لأن الأولوية لديه هي العمل المباشر.
الحكيم: صحيح.
شريف: اهتمام وديع كان ينصب على العمل فوق الأرض، وهو الأمر الذي يزيل التناقضات. ولهذا ظهر الخلاف على الأشخاص. أنا لا أخفي عنك، وبكلّ صراحة، كنا نشعر أن لدى الحكيم جورج نظرة تقويمية لأشخاص معينين ليست صائبة، وهو لا يحكم على الأشخاص بشكل شامل، بل يطرب لأي شاب يتحدّث عن القضايا النظرية أو مَن كان عنده بداية وعي فكري. الآخرون كانوا ينظرون إلى هذا الموضوع نظرة مختلفة. وعلى سبيل المثال عبد الله حمودة وثائر صلاح الدين(1). ومنذ البداية كنا نعرف ماذا سينجم عن عبد الله حمودة(2). وهذه المواقف التقويمية المتراكمة أدت إلى التباعد. وأنا أعرف تمامًا كم كان حرصك على موضوع التحوّل إلى الاشتراكية وضرورة الوعي النظري لهذا التحوّل. لكن لم يكن هذا الحرص متكاملًا، وأولوياتك أنت لم تكن أولويات وديع، ولم تكن هي نفسها أولويات أبو علي مصطفى ولا أولويات أبو ماهر اليماني أيضًا. ومن هنا لم أنظر إلى نتائج المؤتمر الثالث في مخيم البداوي، وإلى الأسماء التي ظهرت فيه، نظرة إيجابية، ولم يكن ذلك تمرّدًا على الحكيم، بقدر ما هو عدم اقتناعنا بهؤلاء. ثم راحت الأمور تتطوّر وتتراكم إلى أن صار وديع نفسه يخاف أن يحكي للحكيم أي شيء.
الحكيم: بعض ما ذكرته صحيح. فبعدما بدأنا عملية التحوّل إلى الماركسية، أصبح لدي تقويم لأهمية العامل النظري في التحوّل.
شريف: وديع أم أنت؟
الحكيم: أنا. وفي الوقت الذي كان وديع يشدّد على الممارسة، أصبحتُ، في ضوء تجربة حركة القوميين العرب، وفي ضوء المطالعات الفكرية الجديدة، أبدي اهتمامًا متزايدًا بالموضوع النظري، وراح هذا الموضوع يتخذ مكانة أساسية في تقويم الأمور. والتجربة المديدة جعلتني مقتنعًا بعدم إهمال الممارسة إطلاقًا مهما بلغ التركيز على النظرية، تمشيًا مع المقولة اللينينية: "لا حزب ثوريًّا من دون نظرية ثورية". لكن جاءت فترة صرت أعتبر المسألة النظرية المقياس الأساس الذي يجب أخذه في الحسبان حتى ننجز عملية التحوّل بنجاح. صحيح كان هناك أبو علي إربد [حميدي العبد الله] ووليد قدورة [أبو خالد] وأبو شهاب، لكن في المقابل ثمة كوادر صلبة في الجبهة نشأت وتطوّرت نتيجة الخطّ الذي اتبعته الجبهة ودفعت أنا به إلى الأمام؛ كوادر مبنية نظريًّا وتتسلم مسؤوليات في القيادة وفي الأرض المحتلة. أنا مطلّ على واقعنا التنظيمي في الأرض المحتلة وعلى دور الجبهة في انتفاضة عام 1987، وهو أمر يدعو إلى الاعتزاز. وأنا أعيد ذلك إلى الموضوع النظري والمطالعات في السجون؛ فقد درس رفاقنا تجارب فيتنام وكوبا والاتحاد السوفييتي، ما أكسبهم تلك الحماسة. مع أن هناك حدًّا أدنى من الخطأ، وهذا طبيعي. أنا لا أقول إن جميع المراهنات كانت سليمة، أو إن جميع النباتات التي زرعناها كانت نضرة. لا تقف أمام نبتة اسمها عبد الله حمودة الذي انهار في أول اعتقال. يجب أن تأخذ الحديقة كلها، وليس بضع نباتات منها. إن اتجاه تلك الحديقة نجح في الحقيقة.
كانت تصل إليّ أخبار أن وديع شارف على إعلان انشقاقه وكنتُ أستبعد إعلان الإنشقاق كلية. وكم تمنيتُ أن تنصلح الأمور بسرعة بيننا
سائدة: بعد كل ما مر به وديع حدّاد في الجبهة الشعبية، وكان قادراً على تأسيس تنظيم مستقل، وقادرًا على استقطاب كثير من رفاقه، وكان هناك من دفعه وشجعه على الاستقلال التنظيمي بما في ذلك بعض الدول. هل كنتم تتوقعون أن يُقدِم وديع على مثل تلك الخطوة؟
الحكيم: كنت أستبعد ذلك جدًّا.
سائدة: من أي منطلق؟
الحكيم: من منطلق معرفتي بوديع، الشريك في هذا التنظيم الذي اسمه الجبهة الشعبية، ولا يمكن أن يسيء إليه. وأنا عشت مع وديع ولمست مدى إدانته للعمليات الانشقاقية مهما كانت مبرّراتها، من منطلق العلاقات الأخوية التي ربطتني به، وربطتنا بعدد من الرفاق. كانت تصل إليّ أخبار عن أن وديع شارف على إعلان انشقاقه، وأنا كنت أستبعد إعلان الانشقاق كلية.
سائدة: ربما لأنك كنت تتوقّع أن تنصلح الأمور بينكما؟
الحكيم: كم تمنّيت أن تنصلح الأمور بسرعة بيننا. وكنت أعرف أن وديع يريد أن ينفرد بقيادة العمليات الخاصة ومتطلباتها كالجانب الأمني والمالي والاتصالات السياسية. وهو صارت لديه قناعة من خلال التجربة أن هذا الموضوع يجب ألا يُبحث في الهيئات القيادية لأنه موضوع أمني ذو طبيعة سرية. وكان ثمّة رأي يقول إن على وديع حداد أن يخبر الأمين العام على الأقل عن برنامجه. لكن حتى هذا كان صعبًا في ضوء ما قاله شريف الحسيني هنا في هذا الحوار عن أن وديع كان يعتبر أن الحكيم يريد، بصفته مسؤولاً عن المكتب السياسي للجبهة، أن يطلع المكتب السياسي على ما يفكر فيه وديع وما يخطّط له، بينما يرى وديع أن طريقة قيادة العمليات الخارجية بجوانبها الأمنية والمالية والسياسية يجب ألا يطّلع عليها أحد. وهناك أمر آخر يتعلّق بنظرة وديع إلى عملية التحوّل، فقد كان حذرًا من المراهنة على هؤلاء الناس، والمقياس الأساس لديه هو الممارسة، أما النظرية فتأتي بعدها.
شريف: هل شعرتَ، في أي يوم، منذ عهد حركة القوميين العرب، بأن وديع يُخبّئ عنك مهمّاته؟
الحكيم: أبدًا.
شريف: أو أبو محمود؟
الحكيم: أبدًا، أبدًا، أبدًا.
شريف: هل حصل مثل هذا الشعور في مرحلة الجبهة؟
الحكيم: نعم.
شريف: لعل هذا ما حصل في فترة ما بعد الخروج من الأردن؟
الحكيم: نعم، نعم.
شريف: أحاول أن أفهم كيف كان وديع حدّاد ينظر إلى الأمور، وكم كان يعطي أهمية لبعض القضايا، أنتما الاثنان كنتما قريبين جدًا أحدُكما من الآخر، لكنكما، في الوقت نفسه، كنتما تختلفان في نظرتكما إلى بعض الأمور، خصوصًا في مرحلة حركة القوميين العرب.
الحكيم: لم تكن ثمة خلافات في أيام الحركة. وعليك أن تطرح سؤال لماذا؟
شريف: لماذا؟ أنا واحد من الناس، على الرغم من جميع الخلافات، لم أكن أتصور أن تصل الأمور بينكما إلى هذا الحدّ.
سائدة: وأنا أعتقد أن الدكتور والحكيم ما كانا ليتصورا أن الخلافات يمكن أن تحدث بينهما.
الحكيم: طبعًا.
شريف: حتى في التعارضات داخل الجبهة، وفي أزمات الانشقاق التي حدثت بعد انفصال الجبهة الديمقراطية، وموضوع لحمة الجبهة ووحدتها كانت، عندي، حتمية؛ فلا أتصور نفسي في تنظيم منفصل، لأن ارتباطي بالجبهة ليس ارتباطًا تنظيميًّا، بل ارتباط تاريخي وحياتي. وأعتقد أن كثيرًا من الناس كانوا هكذا، وكثيرًا من العناصر عندنا كانوا يشعرون الشعور نفسه.
سائدة: أبو هاني هو الذي جعلنا نعيش هذا الجو. وديع مات، لكن هذه القضية ظلّت واضحة في ذهنه. الجبهة واحدة مهما حصل. وكان يمازحنا بالقول: "أنا عضو مفصول".
الحكيم: البعد أدى دورًا في منع التفاعل بيننا. لكن ليس البُعد هو السبب الوحيد، أو الأساس. إن الانزواء والبعد هما اللذان منعا عملية التفاعل المكثّف بيننا في تلك الفترة في سبيل التغلّب على الصعوبات. وأنا كنت متحمّسًا بعد المؤتمر الثالث لاستعادة وحدة الجبهة ومعالجة الثغرات التي أفرزتها التجربة، وكنت ألمس أننا نخطو خطوات في هذا الاتجاه. أما وديع، بسبب بُعده عنا، فبقي لديه الانطباع بأن عناصر الظاهرة اليسارية أو التي تدّعي اليسار ستعيق نجاح الجبهة في عملية التصحيح، وتعميق الأسس التنظيمية. ثم إن طبيعة مهماته كانت ترغمه على البقاء في معظم الوقت خارج المركز. وهذا كله كان له شأن كبير في تثبيت قناعاته، ولا سيّما في قضايا "المجال الخارجي". وأصبح لدى وديع ثقة عالية بالنفس، وكان يردّد: "هذا الموضوع شغلي، لا الحكيم بيفهم فيه ولا أي واحد بيفهم فيه". ولا أتصوّر أن الناس التي كانت تحيط بوديع دفعته إلى أي اتجاه سلبي. فوديع ليس من السهل التأثير فيه. وأتصور أن هناك من حاول تحريضه على الجبهة، لكن وديع لا يتأثر بطريقة تجعله يبني مواقفه في ضوء ذلك.
شريف: عندما أقرّ في المؤتمر العام انتخاب الهيئات والمراتب، هل كان وديع مقتنعًا حقًّا بهذا القرار؟ وهل كنت تشعر بأنه في داخله كان مقتنعًا حقًا بصواب هذا الخط؟ أم أنه كان يغلّب الخط السائد في الحركة الذي ينطلق من أن القيادة للأكفأ؟
الحكيم: يؤسفني ألّا أكون متمكنًا من إعطاء جواب حاسم لسببين: إن هذه الفترة التي تشير إليها كانت قصيرة ورافقتها التناقضات الكثيرة. ومن الناحية النظرية المبدئية عندما وضعنا النظام الداخلي كان ثمة اتفاق على مسألة الانتخابات، ولم أشعر أن لدى وديع وجهة نظر تدافع عن وجهة النظر القديمة في حركة القوميين العرب.
بقي لدى وديع حدّاد، بسبب بُعده عنا، الإنطباع بأن عناصر الظاهرة اليسارية أو التي تدّعي اليسار ستعيق نجاح الجبهة في عملية التصحيح، و تعميق الأسس التنظيمية
شريف: هل كان فرديًّا؟
الحكيم: عنيد وفردي (يضحك). عنيد نعم، ويحب أن يكون ملمًّا بجميع التفصيلات. وفردي بمعنى أن قناعته، خاصة في الفترة الأخيرة، كانت ثابتة.
شريف: لو أردتَ أن تحدّد الصفة الأساسية لوديع، هل يأتي العناد في المكان الأول؟
الحكيم: نعم، ومن الخطأ أن يُقوّم وديع من هذه الزاوية وحدها. وديع متفانٍ، وديع التزام، وديع إخلاص للقضية، وديع كان يعمل 24 ساعة، وديع عناد وإصرار حتى ينجح في مهماته، وديع صاحب مواقف التحدّي في أثناء الصعوبات، وديع كتلة نشاط، وديع عمل، وديع ممارسة. هذا هو وديع. ثم إن وديع بشر، وحين يسمع حكايات سلبية عنه يضبط نفسه، ومن الطبيعي أن يتألّم، ثم قد يتطوّر لديه موقف من هؤلاء الذين يحيكون الحكايات عنه. وحتى نكون عادلين والصورة كاملة، فإن وديع شكّل مجالًا للنقد، الأمر الذي تحوّل استفزازاً وعدم إنصاف وظلماً أحاط بوديع، لأنه كان لا يريد أن يتدخّل أحدٌ في أمور "المجال". وكان يسمح لنفسه في تلك الفترة، أن ينفق بمعزل عن الأمين العام. وأنا في الكلمة التأبينية التي ألقيتها في جنازته [في بغداد في 31/3/1978] شعرت أنّ من واجبي أن أنصفه في ضوء هذه الصفات، من دون أن أتملَّقه أو أتملَّق أهله أو أي جهة. نحن عرب، وعندنا تقليد أن نذكر المحاسن في التأبين. وقلت لنفسي: ماذا كان يمثّل وديع في الجانب الإيجابي؟ لم أعرض تقويمًا في كلمتي يتناول ما هو سلبي وما هو إيجابي، بل سمحت لنفسي أن أقول ماذا يمثل وديع على صعيد إيجابي، وكل ما قلته كان صحيحًا تمامًا. إن تجربتي مع وديع رسّخت لدينا موضوع الالتزام، وكذلك إخلاصه الشديد، ووقوفه الصلب أمام التحدّيات. وكان يريد إرهاب "الجماعة" التي أرهبت شعبه، غير أني اضطررت إلى أن أتطرّق إلى ما هو سلبي، وكل إنسان فيه سلبيات. خذ جورج حبش مثلًا، فيه جوانب إيجابية وفيه جوانب سلبية، وهذا أمر طبيعي.
شريف: وديع كان معنيًّا بالعمليات الخارجية أولاً، لكنه في واقع الأمر كان العمل لديه متكاملًا، فقد انصب اهتمامه على الداخل والأردن والطائرات. هل كان هناك خلاف بينكما في موضوع العمليات الخاصة؟
الحكيم: في ما يتعلق بالعمليات الأولى، بما في ذلك عملية مطار الثورة [داوسن فيلد]، لا أذكر أنه كان هناك أي خلافات. لكن مع استمرار هذه العمليات، وجدنا أن من مصلحة الجبهة، وقد صارت قوة ولها علاقات سياسية عربية ودولية(3)، وقف تلك العمليات، وأعلنّا ذلك في المؤتمر الذي أعقب المؤتمر الثالث. آنذاك تطور لدي شعور بأهمية تسييس كل عمل حتى تكون محصّلته إيجابية. وترافق ذلك مع موضوع التناقضات في داخل الجبهة، ومع رغبة وديع في السير وحده في هذا الخطّ. ومن هنا حدثت خلافات لها طابع تنظيمي. وكان من غير المعقول تنفيذ عمليات خارجية باسم الجبهة من دون أن نعلم عنها سلفًا، بل نُفاجأ بها. وتثور أحيانًا خلافات في شأن الهدف السياسي منها.
شريف: في عام 1973 اختطفت الطائرة اليابانية إلى ليبيا، فصدر قرار تجميد وديع، أليس كذلك؟ وهناك عملية سنغافورة؟
الحكيم: عملية سنغافورة، كما أذكر، لم يكن ثمة أي خلاف عليها(4).
شريف: ماذا عن عملية مظفر في الداخل الفلسطيني في سينما "حين"(5)؟
الحكيم: أيضًا لم يكن عليها أي خلاف.
شريف: هل نشأ أي خلاف على عملية "أوبك"(6)؟
الحكيم: لم يكن لدي أي علم بهذه العملية، وكان يجب أن نعلم عنها سلفًا، خصوصًا أن البيان سيصدر باسم الجبهة. وقيادة الجبهة يجب أن تكون على علم بالعملية كي تتحمّل المسؤولية.
شريف: أعود قليلًا إلى وديع في أثناء وجوده في الجامعة. فلا شك أنه كان يمثّل طاقة متعدّدة الكفاءات، ولذلك كان يُكلّف بمهمات تختلف عن مهمات الرفاق الآخرين. وتكليفه بالعمليات الخاصة جاء لأنه كان مميزًا بهذا الجانب(7). وفي ما يتعلّق بالجانب المالي يختلف وديع عن أبو ماهر. أبو ماهر تهمّه المحافظة على الأموال، بينما أبو هاني كان يهتم بالحصول على الأموال. وكان مكلّفًا بالاتصال بالعراق واليمنيين لهذه الغاية.
الحكيم: لم يفتقد وديع حدّاد، ولا مرّة، الرؤية الشاملة وإدراكه أهمية التكامل بين مهمّاته المتعدّدة، والتي من الممكن أن تنعكس إيجابًا على نضالنا في الداخل أو في لبنان. لكن وديع صار متخصّصًا بالعمليات الخارجية.
شريف: دُعي وديع إلى الاتحاد السوفييتي للاجتماع إلى القادة الأمنيين هناك. هل أخبرك بهذه الدعوة؟
الحكيم: لا أتذكّر. وعلى الأرجح أنه أخبرني، لكنني ما عدت أذكر الآن.
شريف: كنا جبهةً متناقضَين مع سياسة الاتحاد السوفييتي. وقد دُعي وديع بعد حرب 1973، وبالتحديد في عام 1974(8). وكنا جبهةً نحاول إجراء اتصالات مع السوفييت. ماذا كان هدفهم من هذه الدعوة؟
الحكيم: الجو العام كان جو الحرب الباردة لا الوفاق الدولي. والسوفييت آنذاك كانوا يعطون قيمة للجوانب العملية وللجوانب الأمنية. أعتقد أن الهدف من الدعوة هو استكشاف إمكانية التعاون في ضرب أهداف معادية. لكنني أذكر أنني تناقشت معهم طويلاً في موضوع خطف الطائرات. وكان ذلك في أثناء ذهابي إلى كوريا، وكانوا يصرّون على أن خطف الطائرات يسيء إلى النضال الوطني الفلسطيني لأن في تلك العمليات يوجد دائمًا طرف بريء. وكرّروا القول: لماذا تعقّدون قضيتكم؟ وفي الاستراحة انتحى بي أحد أعضاء الوفد السوفييتي جانبًا، وقال لي: "لماذا لا تقومون بهذه العمليات لكن من دون أن تعلنوها باسم الجبهة الشعبية؟"، أي إن في الإمكان توجيه ضربات للخصم الإمبريالي، لكن الطابع العام للنضال الوطني الفلسطيني يبقى تحرّريًّا، وفي سبيل قضية عادلة.
شريف: في داخل الجبهة لم يكن ثمة خلاف على خطّ العمليات الخارجية، ولم يكن الخطّ هو السبب في التناقضات الداخلية. كان وديع يريد طرح قضية فلسطين على الصعيد العالمي، ويريد أن يقول للعالم إن هناك قضية عادلة هي قضية الشعب الفلسطيني. هل كان هناك أي خلاف على هذا الخطّ؟
الحكيم: في البداية لم يكن هناك أي خلاف. الجميع يرقص فرحًا حين تحدث تلك العمليات. واستمر هذا الخطّ، لكن، كان يجب وضع ضوابط تنظيمية وسياسية له. وهنا بالتحديد نشبت الخلافات، ليس على الخطّ، لكن على موضوع الضوابط التظيمية والسياسية. بالنسبة إلينا جبهةً فإن الخط نفسه ما زال ثابتًا، غير أننا عمدنا إلى تنفيذ بعض العمليات بأسماء مختلفة، كي نحقّق هدف ضرب العدو، ولا نخلق للجبهة مشكلات وعوائق. الجبهة الآن لديها مِنَح في الاتحاد السوفييتي، ومِنَح في بلغاريا، ولديها وجود سياسي. وحين تكون ثمة حاجة إلى القيام بعمليات خارجية ننفّذ.
شريف: كانت عمليات وديع حدّاد نوعًا من العلاج بالصدمة لهذا العالم كي يقال له إننا موجودون. ومهما يكن الأمر، فهل تعتقد أن وديع كان يرى أن هذه العمليات هي بديل من العمليات العسكرية الموجّهة مباشرة إلى إسرائيل؟
الحكيم: لا. ومن غير الممكن أن يعتبر وديع العمليات الخارجية بديلًا من النضال الوطني المتعدّد المجالات. لكن، من الناحية العملية، كان وديع غارقًا في مهماته، واعتَقَدَ أن العمليات العسكرية المباشرة من مهمات القيادة، أما العمليات الخارجية فهي من صميم اختصاصه.
شريف: هناك سؤال عن منظمة "أبطال العودة".
سائدة: كنا ندفع لهم مبلغًا من المال. وظهر الخلاف في الجبهة على ذلك، فالبعض رأى أن لا حقّ لأبطال العودة في ذلك المبلغ. وكان اللوم موجّهًا إلى أبو هاني. وكان أبو هاني يقول إن هناك قرارًا في الدفع لهم، فيما أصرّ الآخرون على عدم إعطائهم المبلغ المحدّد. وقد وجدتُ مرجعًا في هذا الشأن علاوة على أن الدفع كان يتم بوجودي. والمرجع هو رسالة موجّهة منك في القاهرة إلى أبو هاني، وفيها تطلب منه إعلام أبو ماهر بمضمونها. والرسالة مُرسلة من القاهرة بعد خروجك من السجن في دمشق وذهابك إلى القاهرة. وقد جاء في الرسالة ما يلي: "أرجو أن لا تنسى موضوع أبطال العودة ، لقد وعدتهم أن نلتقي في بيروت بحدود 20 الجاري، وليس مؤكّدًا الآن أن أكون في بيروت بهذا التاريخ. المطلوب رؤيتهم أولًا والاعتذار إليهم بالنيابة عني، وشرح أسباب عدم مجيئي، والتأكيد لهم اهتمامنا بالموضوع. ثم المطلوب بعد ذلك أن نؤمن لهم حاليًّا مبلغ 6000 دينار، نضعه في البنك باسمك واسم واحد منهم، ويكون [بيننا] اتفاق صادق على أن يكون هذا المبلغ مرصودًا لهم في حالة تنفيذ المنظمة [أي منظمة التحرير الفلسطينية] تهديدها بقطع المساعدات. أرجو أن يكون واضحًا أنه لا يجوز استعمال المبلغ أو أي جزء منه لأغراض التوسّع أو شراء أي شيء، وإنما فقط لمواجهة قطع المساعدة في حالة حدوث ذلك. هذا هو المبلغ المطلوب تأمينه قبل نهاية هذا الشهر، وبعدها يصبح مطلوبًا منّا تأمين مبلغ آخر، بحيث يصبح المبلغ الإجمالي 24000 دينار، أي ما يكفي لمواجهة مصروفاتهم مدّة عام كامل. وهذا يجب أن يتم خلال الشهر الأول من العام الجديد. إن ذلك يحرّرهم من ضغط المنظمة وتأثير هذا الضغط على مواقفهم السياسية، كما أنه يتيح لنا بعد فترة إمكانية تصحيح أوضاعهم التنظيمية والمالية. لقد كان زكريا [أبو سنينة] موافقًا على ذلك، وكان تقديره أن الإخوان في الداخل سيوافقون أيضًا بعد أن نشرح لهم وجهة نظرنا بهدوء وتفصيل. فإذا كنت يا أخي من نفس الرأي، فأرجو العمل على تأمين المبلغ لأنه من العبث يا حكيم أن تطالبهم بكذا وكذا من دون إشعارهم بأنك ستكون سندًا حقيقيًّا لهم في حالة قطع المساعدة عنهم، نتيجة المواقف التي تطلبها [المنظمة] منهم. أرجو أن تلاحظ بأنني لم أرتبط معهم على ذلك باسم العمل، وإنما وعدتهم أن أسعى لذلك فقط. فالرجاء أن لا تفهم أنت، أو يفهم أبو ماهر، أنني وضعتكم أمام الأمر الواقع، هذا مع الملاحظة أن تصحيح أمورهم التنظيمية والمالية قد لا يكون أمرًا سهلًا بعد حديثي مع الأخ أحمد زميلهم هنا، الذي يعتقد بأن ضبط الأمور لن يكون سهلًا. أرجو إعلامي عما يتم بهذا الشأن".
إذًا، ما تعرّض له أبو هاني من ملامة كان نوعًا من الظلم، لأن أبو هاني التزم الاتفاق بين الحكيم و"أبطال العودة".
الحكيم: أنا كاتب هذه الرسالة يا رفيقة سائدة، لكنكِ لا تدرين ربما ما الذي حصل أو ما الذي اتُّخذ من قرارات بعد سنة في شأن "أبطال العودة". وموضوع التعارضات بين الجبهة وأبطال العودة له تاريخ طويل. ولكن، بعد ذلك اتُّخذت قرارت أخرى.
من الخطأ أن يقوّم وديع من زاوية العناد وحدها. وديع متفانٍ، وديع التزام، وديع إخلاص للقضية، وديع كان يعمل 24 ساعة، وديع عناد وإصرار حتى ينجح في مهمّاته
شريف: تقصد القرارات التي اتُّخذت في اجتماع وادي رميمين في الأردن في صيف 1969؟
الحكيم: نعم، في الاجتماع نفسه الذي أشرت إليه في وادي رميمين.
شريف: بحث الاجتماع موضوع "أبطال العودة" ودمجهم في نطاق الجبهة، وأضيف إلى اللجنة المركزية صبحي التميمي وتوفيق رمضان.
الحكيم: صحيح، والحاج فايز جابر أيضًا. وأضيف عدد من الرفاق الآخرين وأصبحنا جبهة واحدة.
شريف: وأحمد عواد، هذا الشاب الذي شارك في العملية الأولى، فهو من "أبطال العودة".
سائدة: هذا لا ينفي الاتفاق المالي، لأنهم كانوا يأخذون مبلغًا شهريًّا لهم وحدهم، ولم تكن ثمة ازدواجية مالية.
شريف: هل استمر دفع المبلغ بعد الدمج؟
سائدة: نعم، لأني جئت في عام 1970 إلى بيروت وكان الدفع ما زال جاريًا.
الحكيم: إذا كان ذلك صحيحًا، فهو يعني أن هناك قرارات جديدة مختلفة.
شريف: قرار الدمج جرى في صيف 1969، وهو يعني أنهم أصبحوا جزءًا من الجبهة وميزانيتها.
الحكيم: جزء لا يتجزأ.
سائدة: آنذاك لم يأخذوا إلا المبلغ المخصص لهم كي يدفعوه إلى العناصر المنتمية إليهم. نحن لم نكن نعطيهم أفرادًا.
الحكيم: أبطال العودة من الناحية التنظيمية، حتى بعدما تم الدمج، كانوا غير قادرين على فهم الأصول الحزبية والأصول التنظيمية. من هنا إذا كان الشهيد وديع قد واصل دعمه لهم، فهذا هو مصدر الخلاف بين الجبهة ووديع. كنا نريد ضبط أمورهم، ولا نريد أن نشجعهم على الاستمرار مجموعةً مستقلّةً.
سائدة: هل اتخذ قرار بفصل أبو هاني قبل القرار الأخير؟ ففي رسالة من رسائلك مؤرّخة في مارس/ آذار 1973، تقول إنه تقرّر فصل وديع.
الحكيم: غير ممكن.
سائدة: الرسالة تتضمّن عبارة "اتُّخذ قرار بفصلك". هل هو خطأ في التاريخ؟
الحكيم: لا أذكر ذلك، لم أعد أذكر. هذا الموضوع يحتاج أن تستفسري عنه من آخرين.
لم يفتقد وديع حداد، ولا مرة، الرؤية الشاملة وإدراكه أهمية التكامل بين مهمّاته المتعدّدة
سائدة: ما نعرفه أن قرارًا اتخذته القيادة يقضي بتجميد عملية الفصل فترة.
شريف: قرار التجميد اتخذ بعد عملية اختطاف الطائرة اليابانية إلى كوريا الشمالية(9).
سائدة: أعتقد أن ثمة اختلافًا في التاريخ، فبدلاً من 1976 ورد 1973.
الحكيم: ما أذكره أن رغبة جامحة كانت لدينا في ضبط أوضاعنا بعد المؤتمر الثالث. ومع الأسف ضُربت تلك الرغبة للمرّة الأولى من خلال عدم موافقة الجميع على الترتيبات القيادية التي حدّدتها بنفسي وفقًا للصلاحيات التي منحني إياها المؤتمر الثالث. ومع ذلك، نجحنا في ترتيب أوضاعنا القيادية مجدّدًا، وكنا مصمّمين على ضبط الأوضاع، خاصة أن الرفاق، من نوع أبو ماهر وأبو علي وأبو عيسى، صار هاجسهم تفعيل التعاون بين الجميع لضبط أوضاع الجبهة. ومن الجائز أن وديع ظل يعيش الجو السابق، وقرار التجميد كان نوعًا من التحذير، مع أنني لا أذكر أنه كان هناك قرار بالتجميد.
سائدة: في تلك الفترة كنتما متلاصقين ومتجاوبين، وخلال عامي 1974 و1975 كان هناك كثير من التفاعل. ولم تمرّ قضية بسيطة أو صغيرة إلا يبلغكم وديع بها بالرسائل. إذاً من غير الممكن أن يكون قرار الفصل قد اتخذ في هذا التاريخ، أي في عام 1973.
الحكيم: ليس في عام 1973.
سائدة: طبعًا ليس في عام 1973، بل في عام 1976، ولم يكن وديع في بغداد.
هوامش
(1) ثائر صلاح الدين هو سمير ناصر (الاسم الحقيقي).
(2) عبد الله حمودة يساريًا راديكاليًا في صفوف الجبهة. ولما وقع أسيرًا لدى الجيش الأردني في جرش في سبتمبر/ أيلول 1971، أُرغم على الظهور على شاشة التلفزيون ليوجّه انتقادًا قاسيًا لممارسات الجبهة الشعبية، الأمر الذي أدى إلى تجميد عضويته في الجبهة.
(3) يقول جورج حبش إن الجبهة الشعبية لم يكن لها أي اتصال خارجي غير العراق وجمهورية اليمن الجنوبي. وبعد تأليف "جبهة الرفض" في سنة 1974، بادر حبش إلى زيارة الجزائر وليبيا (أنظر: جورج حبش، الثوريون لا يموتون أبدًا، مصدر سبق ذكره، ص 131).
(4) عملية سنغافورة نفذتها مجموعة مشتركة من فدائيي "المجال الخارجي" في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي كان يقوده وديع حدّاد، ومن مقاتلي الجيش الأحمر الياباني. وفي ما بعد نفذ مقاتلو "المجال الخارجي" عملية ضد السفارة اليابانية في الكويت لإطلاق سراح فدائيي عملية سنغافورة.
(5) وقعت العملية في 11/12/1974 في سينما "حين" في ميدان ديزنغوف في تل أبيب. وقد قام شاب إيراني يدعى "مظفر" بإلقاء عبوات ناسفة في السينما ثم فجّر نفسه.
(6) وقعت عملية الأوبيك في 21/12/1975 حين اقتحمت مجموعة من المقاتلين بقيادة كارلوس (إيليتش راميريز سانشيز من فنزويلا) مقر مؤتمر وزراء دول الأوبيك في فيينا. وقتل في العملية يوسف الأزميرلي عضو الوفد الليبي، والملازم العراقي علاء حسن مرافق وزير النفط العراقي وكانت المجموعة تتألف من: كارلوس وأنيس النقاش وهانس يواكيم كلاين وغبرييل توجمان. وقد خطط العملية كارلوس ووديع حدّاد وفؤاد عوض وكمال خير بك الذي كتب بيان العملية وصدر باسم "ذراع الثورة العربية".
(7) كان رفيق عسّاف (أبو نظام) قائد الجهاز العسكري لحركة القوميين العرب. وبعد استشهاده في 21/10/1966 مع محمد اليماني وسعيد العيد سعيد في عملية الاستطلاع الثانية انهار الجهاز، فتولى وديع حدّاد قيادته، وراح يركز على المتفجرات ويخطط للعمليات الخارجية.
(8) في سبتمبر/ أيلول التقى وديع حدّاد يوري أندروبوف الذي كان آنذاك مديرًا للاستخبارات السوفياتية. وقد حصل وديع حدّاد من أندروبوف على أسلحة خاصة سُلّمت إليه في عدن.
(9) اختطفت مجموعة Rengi Sekigun اليابانية التي أسسها تسومو موري طائرة يابانية إلى كوريا الشمالية في 30/3/1970. وهذا المجموعة معادية للأميركيين، ودأبت على مهاجمة مستودعات الأسلحة الأميركية في اليابان. أما قائد المجموعة التي اخنطفت الطائرة فيدعى تارسكي أوكاموتو، وهو شقيق كوزو أوكاموتو الناجي الوحيد من عملية مطار اللد في 30/5/1972، والذي أُطلق بالتبادل في 21/5/1985.