في اللحظة التي شعر فيها جزء هام من الرأي العام في تونس بأن نافذة أمل قد فُتحت في وجوههم بمناسبة الزيارة الاستثنائية التي قام بها رئيس الحكومة هشام المشيشي إلى ليبيا مصحوباً بوفد اقتصادي موسع، انفجرت تسريبات تُقحم رئيس الجمهورية قيس سعيّد ومؤسسة الرئاسة بما قيل إنه مشروع انقلاب، وتفتح المجال واسعاً أمام فرضيات متعددة حول من يقف وراءها، وما هو الغرض منها، ولماذا تم اختيار هذا التوقيت بالذات لتفجير هذا اللغم الآن.
كان المشيشي وفريقه منتشيين، بعد الاتفاق الهام الذي تم التوصل إليه مع رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، والذي من شأنه أن يفتح الباب أمام الشروع في تحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين. زيارة ناجحة بكل المقاييس، وأتت في ظرف ملائم، إذ يحتاج كل طرف إلى الآخر لمواجهة الصعوبات الضخمة التي يعاني منها الشعبان. وأعلن المشيشي أن "كل العراقيل التي كانت موجودة في السابق أمام الليبيين لم يعد لها أي مبرر بما سيمكّن من تشجيع التنقل بين المواطنين وحركة الأموال والاستثمارات، وهو ما من شأنه أن يساعد على إنجاز الوحدة الاقتصادية الحقيقية". واعتبر أن الدورة الأولى للمعرض الليبي التونسي، الذي أقيم في العاصمة طرابلس بمبادرة من مجلس الأعمال التونسي الأفريقي، وشارك فيه أكثر من 150 شركة و1200 مستثمر، تمثل "الانطلاقة للديناميكية الحقيقية" لهذا المسار التكاملي.
حاول أنصار سعيّد التقليل من أهمية زيارة الوفد الحكومي لليبيا، واستمروا في انتقاد أدائه السياسي
لم تكن هذه الخطوة معزولة عن الزيارة الرمزية التي سبق أن قام بها سعيّد، والتي مهدت لما أقدم عليه المشيشي. كانت الخطوتان متكاملتين، على الرغم من عدم التنسيق المسبق بين رأسي السلطة التنفيذية، وبدلا من أن ترحب جميع الأطراف بهذا الإنجاز الذي سيمكّن من عودة التدفق البشري والسلعي بين البلدين، وهو ما من شأنه أن يخفف من حدة البطالة، خصوصاً في الجنوب التونسي، وينعش الحركة التجارية في البلاد، حاول أنصار سعيّد التقليل من أهمية الوفد الحكومي، واستمروا في انتقاد أدائه السياسي، والتأكيد على غياب الرؤية والجدية.
في هذه الأجواء التي اتسمت بالانقسام ومواصلة الحرب الباردة، فوجئت الدوائر السياسية بوثيقة نشرها موقع "ميدل إيست" البريطاني موجهة إلى مديرة ديوان الرئاسي في قصر قرطاج. الوثيقة عبارة عن مشروع خطة مفصلة مقترحة على رئيس الجمهورية، تدعوه إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور، نظراً "للوضع الغير عادي الذي تمر به الدولة" في ظل "وجود خطر داهم" بسببه "تعذر السير العادي لدواليب الدولة"، وبالتالي أصبح "من دور رئيس الجمهورية دستورياً تجميع السلطات بيده"، وأن يستأثر "بمطلق الصلاحيات"، وأن يقلص من صلاحيات رئيس الحكومة ليصبح "وزيراً أول تتقلص دائرة مهامه في صلاحيات تنفيذية لا تقريرية".
وعلى الرغم من أن هذه الدعوة متداولة منذ أشهر، لكن الجديد في الوثيقة أنها تضمّنت اقتراحات مفصلة حول كيفية تحقيقها على أرض الواقع، مثل الدعوة إلى اجتماع مجلس الأمن القومي في القصر الرئاسي، ثم تطويق أعضائه ومنعهم من الخروج، والاستعانة بالمؤسسة العسكرية، ووضع عدد من الأشخاص تحت الإقامة الجبرية، أي أن الوثيقة تضمّنت سيناريو القيام بانقلاب وصف بـ"الدستوري".
مرة أخرى تتم إعادة توجيه الرأي العام الذي بدل أن يركز على المسائل الاقتصادية الحامية، وجد نفسه يلهث وراء البحث عن أصحاب الوثيقة. استنكرت "قرطاج" (مقر الرئاسة) الوثيقة وما ورد فيها، ونفت بشكل مطلق أن تكون لها صلة بها، واعتبرتها "محاولة فاشلة للمس بهيبة رئاسة الجمهورية". من جهتهم، التقط خصوم حركة "النهضة" المناسبة لاتهامها بالوقوف وراء الوثيقة وتسريبها، وزعموا أن موقع "ميدل إيست" قريب من الحركة ويخدم مصالحها.
كما افترض هؤلاء أنه حتى في حال عدم تورط قيادة الحركة في مثل هذه "المناورة"، فإن أحد أجنحتها يمكن أو يكون الطرف الخفي الذي يقف وراء الوثيقة، كما رأوا فيها فرصة لتدمير ما راج حول حصول وساطة بين رئاسة الجمهورية وقيادة "النهضة" التي سارعت لإدانة الوثيقة، وأكدت أن "ما زاد من خطورتها أنّها تتساوق مع خطابات الأطراف المناوئة للمسار الديمقراطي والعاملة على إرباك الوضع العام بالبلاد"، ودعت إلى فتح تحقيق جدي وسريع حول الوثيقة لكشف جميع ملابساتها، وطمأنة الرأي العام الوطني والدولي. وطالبت بـ"الوقوف سداً منيعاً أمام كل مخططات الارتداد عن الخيار الديمقراطي وعن المكاسب التي حققتها الثورة".
مستشارة إعلامية سابقة في رئاسة الجمهورية: جميع مؤسسات الدولة أصبحت مخترقة
هناك جهات مختلفة من مصلحتها إشاعة حالة الاضطراب والغموض السياسي لتحقيق مصالح متعارضة وأهداف مختلفة. فالمستشارة الإعلامية السابقة في رئاسة الجمهورية رشيدة النيفر، التي استقالت منذ أشهر، أكدت في تصريح أن سعيّد لا علاقة له بالوثيقة، لكنها ميّزت بين الرئيس ومؤسسة رئاسة الجمهورية. وتحدثت عن أن جميع مؤسسات الدولة بما فيها رئاسة الجمهورية أصبحت مخترقة من جهات محلية وأخرى خارجية، وهو ما ترك الباب مفتوحاً أمام احتمال أن يكون داخل القصر الجمهوري من له مصلحة في ترويج مثل هذه الوثيقة.
يعمل البعض على الدفع نحو تغيير النظام السياسي في تونس بشكل فوقي والاعتماد على أساليب قهرية بما في ذلك اللجوء إلى الخيار العسكري، من أجل إجهاض التجربة الديمقراطية. لم يعد هذا الأمر خافياً على أحد. وعلى الرغم من أن هذا السيناريو غير قابل للتنفيذ، لأن شروطه غير متوفرة إلى حد الآن، فإن هناك من يعمل على إضفاء الطابع الدستوري على مثل هذه الاختيار. وقد تشهد الفترة المقبلة محاولات أخرى في هذا الاتجاه، إذا لم يتم التصدي بجدية لقطّاع الطرق الذين يختفون وراء بدلات سياسية وأحياناً تكون "أنيقة".