توحيد المؤسسة العسكرية... معضلة بلا حلول في ليبيا

10 يونيو 2021
توحيد المؤسسة العسكرية من مهام المجلس الرئاسي (حازم تركية/الأناضول)
+ الخط -

ألقى حادث تفجير بوابة أمنية، شمال مدينة سبها، مساء الأحد الماضي، بظلاله على الأوضاع الأمنية المتردية في ليبيا، وإمكانية تأثيرها على العملية السياسية. لكن ملف توحيد المؤسسة العسكرية يبدو أنه أهم الملفات التي ستقفز إلى واجهة المشهد مجدداً، باهتمام دولي، بعد عودة ظهور بوادر الانقسام فيه.
وأعلن المبعوث الأممي الى ليبيا يان كوبيتش، في تعليقه على الاعتداء الذي تبناه تنظيم "داعش"، الذي أودى بحياة رئيس فرع جهاز البحث الجنائي بسبها الملازم إبراهيم عبد النبي وضابط آخر، إضافة إلى إصابة اثنين من حراسات البوابة، أن "تفجير سبها الإرهابي يؤكد الحاجة إلى بدء عملية توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية في ليبيا". واعتبر أن توحيدها "سيساهم في تعزيز أمن الحدود، والتصدي لخطر الإرهاب والأنشطة الإجرامية". 

وجدت الأطراف الليبية بتفجير سبها فرصة لتبادل الاتهامات

وفيما اكتفى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، الذي يحمل مجلسه صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة، باستنكار الحادث وتشكيل لجنة وزارية للتحقيق فيه، تفاعلت الأطراف الليبية مع الحادث بشكل آخر، إذ وجدت فيه فرصة لتبادل الاتهامات. ووجه المتحدث باسم قيادة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، أحمد المسماري، اتهاماً مبطناً لخصوم حفتر. وقال إن "التفجير رسالة من التنظيمات الإرهابية وتنظيم الإخوان مفادها أن هذا ما سيكون عليه مصير ليبيا لو ذهبتم للانتخابات". وفي مزيد من السعي لتوظيف الأحداث، عبّر المسماري، في تصريح لتلفزيون "الحدث" المملوك لصدام حفتر ليل الإثنين الماضي، عن رفضه بيان تنظيم "داعش" الذي أعلن فيه مسؤوليته عن الحادث. وقال "ننتظر نتائج التحقيقات بالمنطقة العسكرية في سبها حول الحادث الذي يحمل سمات التنظيمات الإرهابية". وذهب المسماري إلى أكثر من ذلك، باعتبار قرار المنفي حول تشكيل لجنة للتحقيق في الحادث منقوصاً، إذ عبر عن استغرابه من تغييب رئيس جهاز الأمن الداخلي من عضوية اللجنة، باعتباره طرفاً غير مرغوب به في طرابلس. واتهم رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة بشكل صريح بانحيازه للمجموعات المسلحة في غرب ليبيا.

وتعد مهمة توحيد المؤسسة العسكرية في البلاد من المهام الأصيلة الموكلة للمجلس الرئاسي، بنص خريطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي. لكن المجلس لم يتخذ أي خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، باستثناء مشاركته في بعض جلسات اللجنة العسكرية "5 + 5" التي تشكلت في المسار العسكري، أحد مسارات الحل الأممية الثلاثة للأزمة الليبية، والتي انبثق عنها اتفاق وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وأبرز قرارات المجلس المتعلقة بالمؤسسة العسكرية تكليفه لـ"جميع الوحدات العسكرية في الجنوب باتخاذ الإجراءات الفورية لتأمين وحماية الحدود الليبية الجنوبية"، على خلفية الأحداث التي شهدتها تشاد في إبريل/ نيسان الماضي. لكن الناشط السياسي الليبي مالك هراسة رأى في قرار المجلس، بشأن تشكيل لجنة وزارية للتحقيق، "مؤشر يعكس اضطراب الرئاسي بشأن المؤسسة العسكرية وتوحيدها، وربما اصطدامه بالواقع".
ولفت هراسة، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ الرأي العام يعرف أن الوحدات العسكرية المعنية في القرار الأول للمجلس في إبريل/ نيسان الماضي، والخاص بتكليف جميع الوحدات العسكرية في الجنوب باتخاذ الإجراءات الفورية لتأمين وحماية الحدود الليبية الجنوبية، هي مليشيات حفتر المتواجدة في سبها. واعتبر أن تجاهل أي إشارة للمليشيات في قرار تشكيل لجنة التحقيق في تفجير سبها يعكس إدراك المجلس لمدى حالة الانقسام الحالية، خصوصاً أن أي تكليف جديد لها يعني شرعنة المجلس لسيطرة حفتر على الجنوب، واستفزازاً لمعسكر غرب ليبيا.

مالك هراسة: كل الاستحقاقات التي تتطلبها المرحلة مرتبطة بفرض الأمن

وقد يدعم رأي هراسة الحدثان العسكريان في بنغازي ومصراتة في أقل من أسبوع، اللذان أشارا إلى استمرار حالة الاصطفاف المسلح في البلاد. فبعد الاستعراض العسكري الذي نظمه حفتر في بنغازي، قبل نحو 10 أيام، شارك الدبيبة ونائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، السبت الماضي في حفل تخريج نحو 400 منتسب، في الكلية العسكرية في مدينة مصراتة. ورغم تجاهل قادة البلاد الدعوة التي قدمت لهم لحضور العرض العسكري في بنغازي وهم، المنفي، والدبيبة، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، إلا أن المسماري شن حملة على الدبيبة حصراً، جراء مشاركته في حفل التخريج في مصراتة ومنحه رتباً عسكرية، معتبراً أنها محاولة لتسريب عناصر وصفها بـ"الإرهابية" ضمن المؤسسة العسكرية.
ولقاء هذه الاتهامات والتوصيفات المتبادلة، لا يرى هراسة وجود أفق قريب لتوحيد الجيش. ولفت إلى أن حالة الصراع المستمرة، التي أوجدها طموح حفتر العسكري في اتجاه الغرب، جعل الجنوب الليبي يعيش حالة فراغ أمني كبير، رغم وجود مفارز من قواته تعسكر في سبها، كبرى مدن الجنوب. ورأى هراسة أن وقوع الجنوب في دائرة خطر تداعيات الفوضى في شمال تشاد، خلال الأشهر الماضية، ومؤخراً بنجاح التنظيمات الإرهابية في استهداف بوابة أمنية في عمق الجنوب، مؤشران يكشفان عن هشاشة وقدرة المعسكرين على السيطرة من جانب، وعجز المجلس الرئاسي عن الإيفاء بمهامه وأهمها توحيد المؤسسة العسكرية، من جانب آخر.
وفيما رأى هراسة أن كل الاستحقاقات التي تتطلبها المرحلة، كالمصالحة الوطنية والانتخابات وتحسين الظروف الاقتصادية، مرتبطة بفرض الأمن الذي لن يتأتى إلا بوجود مؤسسة عسكرية، يمتلك المجلس الرئاسي قرارها بصفته القائد الأعلى، فإنه أكد أن المجتمع الدولي، الذي يستعد لعقد اجتماع في برلين في 23 يونيو/حزيران الحالي، لن يسمح بالتصعيد مع عودة ظهور ملامح الانقسام والتوتر. ورجح أن تتضمن أجندة لقاء برلين بشكل صريح إنشاء قوة أمنية مشتركة في ليبيا ستعمل، في ظل المستجدات الحالية، على إعادة النشاط لمسار لجنة "5 + 5"، الذي يحظى بدعم دولي وأممي، وإعطاء شرعية أوسع لها بعيداً عن تأثير القادة الحاليين.
من جهته، رأى الناشط السياسي الليبي منذر أبوشيبة أن ما شهدته ليبيا في الأيام الأخيرة ليس مجرد اتهامات متبادلة بين الأطراف، بل تعبير عن مواقف بدأت تعكس بوادر تصعيد جديد، خصوصاً أن المكتب الإعلامي للدبيبة نقل عنه أن تخريج الدفعة في مصراتة يعتبر بمثابة "تحديث للجيش الليبي، وضخ دماء جديدة فيه، من خلال دمجهم واستيعابهم وتدريبهم وتهيئتهم بشكل احترافي". وقال أبو شيبة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "توقيت الاحتفال بتخريج الدفعة لم يكن صدفة، فهو يوافق الذكرى الأولى لهزيمة حفتر جنوب طرابلس، علاوة على مكان الحفل في مصراتة، ورمزية الكلية العسكرية فيها التي كانت تشكل قاعدة مهمة لضرب قواته".

رأى الصيد عبد الحفيظ أن هناك إمكانية للانجراف لتصعيد أكبر في حال استمرار تعثر أعمال لجنة 5 + 5

وفي مزيد من مؤشرات استمرار الاصطفاف المسلح، أشار أبوشيبة إلى أن بيان مكتب إعلام الدبيبة أكد أنه شارك في حفل التخريج بصفته "وزيراً للدفاع"، لكن المؤشر الأكثر لفتاً للانتباه هو مشاركة اللافي بصفته نائب رئيس المجلس الرئاسي القائد الأعلى للقوات المسلحة، موضحاً ان "هذه الصفة التي يحملها المجلس الرئاسي مجتمعاً قد تخلق خلافات في مواقف أعضائه، خصوصاً أنّ اللافي هو من وقع بياناً يعبر فيه عن موقف المجلس الرئاسي الرافض للتصرفات الأحادية ذات الطابع العسكري"، قبيل استعراض حفل العسكري في بنغازي بيوم.
وسبق أن أثارت وسائل إعلام ليبية مشاركة الدبيبة واللافي بصفتهما "العسكرية" في الحفل الذي نظم في مصراتة. ونقلت تصريحات عضو المجلس الأعلى للدولة بطرابلس، عادل كرموس، الذي رأى فرقاً كبيراً بين استعراض بنغازي وحفل مصراتة. فاستعراض حفتر، من وجهة نظر كرموس، "انطلق من إرادته الشخصية بدون مراعاة التراتبية، أي دون أخذ الإذن من القائد الأعلى، المتمثل في المجلس الرئاسي"، أما في مصراتة فإن الحفل "أُجري بعد الحصول على موافقة القائد الأعلى، وترتّب عليه حضور رئيس الحكومة".
ووافق الخبير العسكري الليبي الصيد عبد الحفيظ على خطورة عودة ظهور ملامح الاصطفافات بين الأطراف المسلحة في البلاد. ورأى أن هناك إمكانية للانجراف لتصعيد أكبر في حالة استمرار تعثر أعمال لجنة "5 + 5"، معتبراً أنها "تمتلك الدعم الدولي وتتوفر على قبول وتقارب محلي"، وطوق النجاة الأخير لمؤسسة الجيش. ومنذ توقيع الاتفاق العسكري في أكتوبر الماضي، عقدت اللجنة أربعة اجتماعات في مقرها الرسمي بمدينة سرت، لبحث العديد من الملفات المتصلة بالاتفاق العسكري، من بينها ترحيل القوات الأجنبية والمقاتلين المرتزقة، وإخلاء خطوط التماس في سرت والجفرة، وفتح الطريق الساحلي الرابط بين شرق وغرب البلاد، وحصر وتصنيف المجموعات المسلحة في البلاد، تزامناً مع تشكيل قوة أمنية مشتركة لتأمين سرت والجفرة. لكن أياً منها لم يتحقق، باستثناء وقف مؤقت لإطلاق النار، وفقاً للخبير العسكري الليبي. واعتبر عبد الحفيظ أن البند المتعلق بعملية حصر وتصنيف المجموعات والكيانات المسلحة على كامل التراب الليبي يُعد العرقلة الأولى، موضحاً، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن معسكري الشرق والغرب يحملان مسمى الجيش، ويعتبران الآخر خارجاً عن المؤسسة العسكرية وقوانينها، وقبولهما بالتصنيف يعني التخلي عن مسماه وشرعيته.
وأضاف عبد الحفيظ أنه "في غياب كامل للثقة، لن يقبل كلاهما بالتخلي عن سلاحه ووحدة صفوفه، خصوصاً وأنهما لا يزالان في حالة تماس"، معتبراً أن تسلسل بنود الاتفاق، وعدم تقسيمه إلى مراحل زمنية، شكل العائق الأكبر. وأكد أن حجم قوة المعسكرين، وتسليحهما، غير معروف ولا يمكن ضبطه، خصوصاً مع وجود أطراف أجنبية داعمة لكليهما، إما بشكل معلن وشرعي كما في الغرب، أو بطريقة غير مباشرة كما في معسكر حفتر. لكنه في الوقت ذاته، رأى أن التصنيف السائد للقوات في ليبيا، بمعسكر الغرب ومعسكر الشرق، بات واقعياً لسببين، أولهما أن محاولة حفتر اكتساح المنطقة الغربية فشلت، والثاني توحد السلطة السياسية في البلاد وحل الحكومتين في الشرق والغرب ما أفقدهما السند السياسي.

المساهمون