عاد حزب العمّال الكردستاني لاستهداف مواقع حسّاسة في تركيا، عبر تفجير انتحاري جديد استهدف مقر مديرية الأمن العامة التابعة لوزارة الداخلية في العاصمة أنقرة، أول من أمس الأحد، وذلك بعدما أعلن انتهاء وقف إطلاق النار من جانب واحد في يونيو/ حزيران الماضي، ليؤكد الحزب استمرار وجوده وتأثيره رغم تأكيدات الحكومة التركية سابقاً أنها اقتربت من القضاء على الحزب داخل البلاد.
ويفتح الهجوم، الذي أسفر عن مقتل المهاجمين الاثنين، وجرح شرطيين بإصابات طفيفة، الباب أمام فصل جديد من المواجهة في الفترة المقبلة بين الحكومة التركية و"الكردستاني"، خصوصاً أن الهجوم وقع بالقرب من ميدان "قزل آي" في أنقرة وعلى بعد مسافة قريبة من المؤسسات التركية الحسّاسة، مثل قيادات القوى العسكرية المختلفة والبرلمان والوزارات، وتزامن توقيته مع عودة البرلمان إلى العمل، ما حمل رسائل عديدة.
"الكردستاني" ينهي وقف إطلاق النار
وأعلن "الكردستاني"، المصنف إرهابياً في تركيا ودول غربية عدة، مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري الذي شهدته أنقرة الأحد. وقال الحزب لوكالة "إيه أن أف" القريبة من الحركة الكردية، إن "عملاً فدائياً نُفّذ ضد وزارة الداخلية التركية من جانب فريق تابع للواء الخالدين". وكان "الكردستاني"، الذي يخوض نزاعاً مسلحاً ضد الجيش التركي منذ عام 1984، قد أعلن من طرف واحد عن وقف لإطلاق النار بعد وقوع الزلزال في 6 شباط/ فبراير الماضي، وأعلن لاحقاً في يونيو عن انتهائه، فيما واصلت القوات التركية عملياتها المسلحة ضد مخابئ الحزب داخل تركيا وشمال العراق وشمال شرقي سورية.
"كتيبة الخالدون" التي نفذت العملية عبارة عن خلايا نائمة تابعة للكردستاني وموضوعة كقوى احتياطية
من جهتها، أعلنت وزارة الداخلية التركية في بيان أن أحد منفذي الهجوم هو عضو في "الكردستاني"، وبعد عملية التحري تم التحقق من هوية أحد المنفذين، فيما يتم التحري عن هوية المهاجم الآخر. وكشفت التحقيقات الجارية بحادثة التفجير أن منفذي الهجوم قتلا تقنياً يعمل في عيادة بيطرية بولاية قيصري ثم سرقا سيارته وتوجها بها إلى أنقرة لتنفيذ الهجوم المسلح، بحسب وزارة الداخلية، وهو ما يعتبر أمر جديداً في عمليات الحزب.
وتصنف أنقرة حزب العمال الكردستاني إرهابياً، وتوجه إليه أصابع الاتهام في معظم الهجمات التي استهدفت البلاد. وهجوم أنقرة هو الأول منذ 2016 الذي يضرب العاصمة التركية، ورداً عليه أعلنت وزارة الدفاع التركية تدمير 20 هدفاً تابعاً للحزب في شمالي العراق، مساء الأحد، بغارات جوية استهدفت معاقلهم في متينا وهاكورك وقنديل وكاره.
وأفادت الوزارة في بيان، أمس، بتدمير "20 هدفاً تضم مخابئ ومخازن ومغارات استخدمها المسلحون، ومن بين المستهدفين قياديون". وأضافت أنه "تمّ خلال العملية اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون إلحاق الضرر بالمدنيين الأبرياء والعناصر الصديقة والأصول التاريخية والثقافية والبيئة".
بدوره، كتب رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين ألطون، مساء الأحد، في منشور على حساباته بمنصات التواصل الاجتماعي، بحسب ما نقلت عنه وكالة "الأناضول"، أن "تنظيم بي كا كا (العمال الكردستاني) الإرهابي تلقى ضربة موجعة أخرى عبر غارات جوية ناجحة نفذها الجيش التركي شمالي العراق". وأضاف أن "الغارات الجوية الناجحة التي نفذها الجيش التركي شمالي العراق، مؤشر مهم إلى مواصلة أنقرة التضييق على الإرهاب ليس فقط داخل البلاد وإنما خارج حدودها أيضا".
كما ذكرت وكالة "الأناضول" أمس، أن "وحدات تابعة للاستخبارات التركية تمكنت من تحييد القيادي في بي كا كا مزدلف تاشكين، في عملية بمدينة القامشلي بمحافظة الحسكة، شمال سورية".
"كتيبة الخالدون" التي نفذت العملية، وفق تبني "الكردستاني"، لم يسبق أن سجلت لها عمليات مسلحة داخل تركيا، وهي عبارة عن خلايا نائمة تابعة للحزب الكردي وموضوعة كقوى احتياطية، وفق تصريحات سابقة لمسؤولين في الحزب. وسبق أن كشف عنها القيادي في الحزب مراد قره يلان في عام 2016 خلال لقاء صحافي، وقال إنها "كتيبة مستعدة وجاهزة للقيام بعمليات فدائية عند الضرورة في حال حصل أي هجوم يستهدف زعيم الحزب عبد الله أوجلان".
تتواصل قدرة الحزب على تنفيذ عمليات في أماكن حساسة، رغم الإعلان عن تقييد حركته
ولاقت العملية ردود فعل محلية كبيرة، أبرزها من الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي اعتبر، الأحد، من مقر البرلمان أن "العملية الإرهابية" تمثل "الأنفاس الأخيرة للإرهاب"، مضيفاً أن "الأنذال الذين استهدفوا سلامة وأمن مواطنينا لم ينجحوا في تحقيق مبتغاهم، ولن ينجحوا أبداً"، مؤكداً أن قوات بلاده "ستواصل الكفاح بكل عزيمة إلى حين القضاء على آخر إرهابي في الداخل أو الخارج". كما صدرت ردود فعل كبيرة إقليمية وعربية ودولية.
أبعاد الاعتداء واحتمالات التصعيد
وتحمل العملية الأخيرة في أنقرة أبعاداً عديدة تكشف عن تواصل قدرة الحزب على تنفيذ عمليات في أماكن حساسة، رغم الإعلان عن تقييد حركته ونشاطه من قبل الحكومة التركية عبر عمليات عسكرية داخلية وخارجية. كما لجأ المهاجمون إلى أسلوب جديد بقتل شخص وسرقة سيارته ومواصلة الطريق لعمل هجوم انتحاري، فضلاً عن حجم الأسلحة التي ضبطت بعد الهجوم. وقد أفادت وزارة الداخلية في بيانها بأن عمليات التحري في مكان الهجوم كشفت عن "9 آلاف و700 غرام من مادة "السي 4" شديدة الانفجار و3 قنابل يدوية وقاذف صواريخ ومسدس من طراز "غلوك" مزود بكاتم صوت، ومسدس من طراز "بلو" ورشاش من طراز "إم 4" ورشاش كلاشينكوف.
كما أن الهجوم جاء في اليوم الذي بدأ فيه العام التشريعي الجديد وعودة البرلمان للعمل، ما يوجه رسالة من "الكردستاني" بأنه لا يزال موجوداً في الحياة السياسية التركية، ولا يمكن تجاوزه، إضافة إلى أن الهجوم يأتي تنفيذاً لوعود سابقة من "الكردستاني" بالرد على الحكومة نتيجة العمليات العسكرية الجارية داخل تركيا وشمال العراق وشمال شرق سورية. كما يأتي الاعتداء في وقت يتصاعد فيه الاستقطاب السياسي في البلاد نتيجة أجواء الانتخابات التي لم تنته، حيث أن الانتخابات المحلية تجري في نهاية مارس/ آذار المقبل، في وقت انتهت فيه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو/ أيار الماضي.
ورغم عملية "الكردستاني" والتوقعات بتصاعد المواجهة مع الحكومة في قادم الأيام، إلا أن الحزب الكردي مُدرك لتأثير عملياته في تعزيز موقف الحكومة من قتال الحزب في تركيا وشمالي العراق وسورية، إضافة إلى أن صورة العملية الانتحارية تضر بشكل كبير بسمعة الحزب على الصعيد المحلي والدولي، وهي مؤشرات إلى احتمال أن تكون عملية محدودة وبين فترة وأخرى للتذكير فقط باستمرار وجود الحزب وفعاليته، وعدم تمكن الحكومة من القضاء عليه رغم العمليات المستمرة والضغط المكثف عليه.
الكاتب الكردي فايق بولوط، تحدث لـ"العربي الجديد"، عن آفاق المواجهة بين الحكومة التركية والكردستاني في الفترة المقبلة. وقال بولوط: "سبق لحزب العمال الكردستاني أن أقدم على عمليات مشابهة، ولكن هناك رسالة عسكرية تظهر أن لديه قوة ويستطيع تنفيذ هجمات في العاصمة وفي قلب الحكومة ويمكن تعطيل عملها، وهي عملية انتقامية والمستهدف منها مديرية الأمن العام، والرسالة موجهة للحكومة والبرلمان وليست مصادفة اختيار يوم عودة البرلمان للعمل".
وأضاف الكاتب الكردي: "هي رسالة أن الحزب موجود ولن يركع وقادر على تعطيل أعمال الحكومة، ولكن أعتقد أن العملية ستنعكس سلباً عليه، وتؤثر على سياسة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي سيعاني من انتقادات في البرلمان ومن الحكومة التي ستكون لها تدابير أكثر حزماً تجاه عمليات من هذا النوع، وسيكون هناك ضغط على أنصار الحزب الكردي وعناصره وقد نشهد حملة اعتقالات واسعة في أنقرة وفي مختلف الولايات التركية".
فايق بولوط: العملية ستنعكس سلباً عل الكردستاني، وتؤثر على سياسة حزب الشعوب الديمقراطي
وحول مستقبل عمليات حزب العمال الكردستاني، استبعد بولوط "أن يكون هناك تصعيد". وقال: "هو احتمال قائم، ولكن العمليات الانتحارية غير معقولة ونتيجتها الفشل، بين الحين والآخر يمكن توقعها، ولكن ليس بشكل متتال، ربما بعد مدة معينة وفترة معينة". وأعرب عن اعتقاد بأن "ما يعاني منه أكثر بصورة سلبية أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي، هو أن هذا الحزب لا يضع مسافة بينه وبين الكردستاني، والحكومة ستعمل على استثمار العملية في الدعاية الانتخابية بأن الإرهاب لا يزال موجوداً في الأجندة السياسية التركية وأنها محقة في التركيز على محاربة الإرهاب".
وتوقع الكاتب الكردي أنه "وصولاً إلى الانتخابات المحلية إن لم تحدث عمليات من هذا القبيل، فستُنسى هذه العملية ولكن تكرارها سيدفع الحكومة مرة أخرى لكسب الأصوات من الناخبين وستوظف الحادثة وتقمع المعارضة، متحججة بهذه العمليات التي ستستفيد منها".
من جهته، اعتبر الكاتب والصحافي إسماعيل تشوكتان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة التركية تعمل منذ فترة طويلة على إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، وكان وزير الداخلية السابق سليمان صويلو يعلق أهمية كبيرة على هذا الموضوع في حين يستمر وزير الداخلية الحالي علي يرلي كايا على هذا النهج، لكن من الممكن بقاء بعض الفلول لهذا التنظيم". واستبعد أن يعني الهجوم الأخير "عودة التنظيم إلى الأراضي التركية".
من جهة أخرى، شدّد تشوكتان على أن حزب العمال الكردستاني "لم يكن منذ تأسيسه فاعلاً في المناطق الغربية مثل أنقرة أو مناطق أخرى بل كان دائماً فاعلاً في المناطق ذات الغالبية الكردية في الشرق". ورأى أن "قيام الحزب بمزيد من العمليات احتمال بعيد للغاية لأن تركيا تركز بشكل حازم على أن تكون المناطق الحدودية تحت السيطرة، وفي موازاة ذلك يعمل جهازا الاستخبارات والأمن على شنّ عمليات أمنية تستهدف الخلايا الإرهابية في المدن الكبرى بشكل شبه يومي، لذلك من المستبعد أن تتكرر أحداث كهذه في أنقرة أو إسطنبول"، بحسب رأيه.
وعن مستقبل المواجهة، أوضح تشوكتان أن "التقارير تفيد بأن المسلحين سرقا سيارة تجارية في مدينة قيصري وقتلا صاحبها ثم انتقلا إلى أنقرة ونفذا الهجوم". ورأى ضرورة التذكير بأن "هذا السيناريو يضر بأمن تركيا رغم الجهد الكبير الذي يقوم به جهازا الأمن والاستخبارات من أجل منع هذه الحوادث". وذكّر بـ"قصف سلاح الجو التركي مواقع تابعة لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق وتحقيقه إصابات مهمة (الأحد)"، معرباً عن اعتقاده بأن القوات التركية "ستركز على مزيد من هذه العمليات في شمالي سورية والعراق".