أحيا مجلس النواب الأميركي، اليوم الأربعاء، مرور أسبوع على اقتحام أنصار الرئيس الخاسر دونالد ترامب مبنى الكونغرس في محاولة لعرقلة التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة، بمحاكمة ترامب ووضعه أمام محاولة عزل للمرة الثانية، في سابقة بتاريخ الولايات المتحدة. أسبوع لم يهدأ فيه الديمقراطيون الساعون لعزل الرئيس قبل أيام من انتهاء ولايته، في ظلّ أجواء من التشنج ومخاوف أمنية متصاعدة من عنف مناصريه، لا سيما في يوم تنصيب بايدن في 20 يناير/كانون الثاني الحالي، وسط تعزيزات وحشد عسكري غير مسبوق لإتمام هذه العملية بدون مشاكل. ومع رفض نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، أمس الثلاثاء التجاوب مع طلب مجلس النواب تفعيل التعديل 25 بالدستور لتنحية ترامب، مضى الديمقراطيون اليوم الأربعاء، قدماً في مسعاهم لعزل الرئيس، من خلال التصويت مع عدد من الجمهوريين على بند مساءلة ترامب لتتجه الكرة إلى ملعب مجلس الشيوخ. ويأتي ذلك فيما يتواصل حائط الدعم لترامب بالتآكل، مع انفضاض مزيد من الجمهوريين من حوله، في حين أنّ آخرين من الحزب وإن لم يصوتوا لصالح عزل الرئيس لكنهم لم يعترضوا على إجراء الديمقراطيين، كما كان الحال في أوقات سابقة وقف فيها الجمهوريون سداً منيعاً للدفاع عن الرئيس ومساعدته على تجاوز سلسلة لا نهاية لها من الأزمات.
اتهامات لترامب بالتحريض على التمرد والعصيان
وقبل نحو أسبوع على انتهاء ولاية ترامب، انطلق مسار عزل الرئيس الجمهوري في مجلس النواب اليوم الأربعاء، مع التصويت على بند المساءلة الذي يتهمه بالتحريض على التمرد في خطاب أمام أنصاره الأسبوع الماضي، قبل أن يقتحم حشد منهم مبنى الكونغرس، في واقعة أودت بحياة خمسة أشخاص. ومما جاء في نص قرار العزل الذي نشرته وكالة "أسوشييتد برس" أنّ "مساءلة ترامب تأتي بسبب الجرائم والجنح الجسيمة التي ارتكبها". واتهم نص القرار ترامب بـ"التحريض على التمرد والعصيان" وأوضح أنّ المادة 3 من التعديل الرابع عشر للدستور "تحظر على أي شخص انخرط في تمرد تولي أي منصب". وأضاف: "تورط ترامب في جرائم وجنح جسيمة من خلال التحريض على العنف بما في ذلك في 6 يناير الحالي وقبله". وتابع النص: "عرّض ترامب أمن الولايات المتحدة ومؤسساتها الحكومية للخطر بشكل كبير، وهو يهدد سلامة النظام الديمقراطي، ويتدخل في الانتقال السلمي للسلطة، لذلك، سيظل تهديداً للأمن القومي والديمقراطية والدستور إذا سمح له بالبقاء في منصبه".
وخلال الجلسة، قال رئيس لجنة القواعد بمجلس النواب، الديمقراطي جيمس ماكغفرن، إنه "تنبغي محاسبة ترامب على الهجوم الذي شجعه ودعا له والذي استهدف الكونغرس"، مضيفاً: "الأضرار التي لحقت بالمبنى يمكن إصلاحها، لكن الضرر الذي لحق بديمقراطيتنا لا يمكن إصلاحه". من جهته، قال النائب الجمهوري توم كول إن "الأحداث الصادمة في 6 يناير ستظل في ذاكرتنا، لكن نحن كمؤسسة علينا أن نوحد صفوفنا، ولا أرى شيئاً يدعو للانقسام أكثر من هذا الإجراء. علينا أن نسعى للمصالحة".
ويؤدي التصويت في مجلس النواب اليوم تلقائياً إلى محاكمة الرئيس أمام مجلس الشيوخ الذي لا يزال يسيطر عليه الجمهوريون. ويتعين موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ لإدانة ترامب، وهو ما يتطلب موافقة 17 جمهورياً على الأقل من أعضاء المجلس المائة لصالح الإدانة. وفي حين أن التطورات سريعة، إلا أنها لا تضمن إجبار ترامب على ترك منصبه قبل تنصيب الديمقراطي جو بايدن في 20 يناير الحالي. فتوقيت المساءلة في مجلس الشيوخ غير واضح، وقد يمتد إلى رئاسة بايدن. وسيتولى الديمقراطيون السيطرة على مجلس الشيوخ في 20 يناير. وكان زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، قال في وقت سابق إنه لا يمكن أن تبدأ المحاكمة قبل عودة المجلس من العطلة في 19 يناير الحالي. لكن زعيم الأقلية الديمقراطية بالمجلس تشاك شومر قال للصحافيين في وقت سابق إنه يمكن استدعاء مجلس الشيوخ لنظر القضية.
لم يحث زعماء الجمهوريين نوابهم على التصويت ضد العزل
ومضى الديمقراطيون، اليوم، قدماً بإجراء التصويت على مساءلة ترامب تمهيداً لعزله، بعدما رفض مايك بنس أمس الثلاثاء، طلبهم بتفعيل التعديل 25 بالدستور لتنحية الرئيس. وقال بنس في رسالة إلى نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب: "لا أعتقد أن مثل هذا الإجراء يصب في مصلحة أمتنا أو يتفق مع دستورنا". وأقر مجلس النواب مساء الثلاثاء، قراراً، بات رمزياً، يطالب بنس رسمياً بالتحرك. وصدر القرار بأغلبية 223 صوتاً مقابل 205.
في غضون ذلك، ظهر مزيد من العلامات على تراجع سيطرة ترامب على حزبه، مع تصويت عدد من الجمهوريين لصالح مساءلته للمرة الثانية، في حدث لم يسبق أن تعرض له رئيس أميركي. وكانت النائبة ليز تشيني، إحدى قادة الأقلية الجمهورية في مجلس النواب، قد قالت إنّ ترامب "جمع هذا الحشد... وأشعل هذا الهجوم" على مبنى الكونغرس يوم السادس من يناير الحالي. وأضافت تشيني، ابنة ديك تشيني النائب الجمهوري السابق للرئيس جورج دبليو بوش، في بيان "سأصوت لمساءلة الرئيس". وهو التوجه نفسه الذي أعلن عنه نواب جمهوريون آخرون.
ولم يحث زعماء الجمهوريين في المجلس نوابهم على التصويت ضد عزل ترامب. لا بل إنّ صحيفة "نيويورك تايمز" وشبكة "سي أن أن"، ذكرتا الثلاثاء، أن ميتش ماكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ والذي يتمتّع بنفوذ كبير في الحزب، ليس مستاء من حملة الديمقراطيين لمساءلة ترامب، ملمحاً إلى أن الحزب الجمهوري كان يتطلع للتخلي عنه بعد الهجوم على الكونغرس. وذكرت "نيويورك تايمز" أن ماكونيل يعتقد أن حملة المساءلة ستسهل عملية تخلص الحزب من ترامب. لكنّ ماكونيل لم يحسم موقفه بشأن ما إذا كان سيصوّت في نهاية المطاف لعزل الرئيس أم لا، لأنّه ينتظر الاطلاع على تفاصيل القرار الاتهامي ليبني على الشيء مقتضاه. وقد يكون ماكونيل المفتاح لنتيجة هذا الإجراء التاريخي، لأن تصريحاً علنياً واحداً يمكن أن يشجع أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين على إدانة الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة.
وهناك دلائل متزايدة على أن فصيلاً كبيراً من الجمهوريين يريد تطهير حزبه من ترامب، وفق ما تقول وكالة "أسوشييتد برس". وبالفعل، فقد استقال عدد من المسؤولين وأعضاء في حكومة الرئيس احتجاجاً على تصرفاته الأخيرة. كما أنه استغرق الأمر ما يقرب من أسبوع لنائب الرئيس مايك بنس، الذي توترت علاقته بترامب إلى حد كبير، ليعلن أنه لن يلجأ إلى التعديل الخامس والعشرين للدستور لعزل ترامب.
في المقابل، لا يزال الرئيس يتمتع ببعض الدعم الجمهوري. وقد قال نواب جمهوريون يعارضون مساعي المساءلة إن الديمقراطيين يبالغون نظراً لأن ترامب على وشك ترك السلطة. ومع أن ترامب أصبح أول رئيس في تاريخ أميركا يواجه مرتين نص اتهام في الكونغرس ضمن إجراء عزل، لكنه كان ما زال مقتنعاً أمس الثلاثاء بأن أحداً لن يعجّل مغادرته البيت الأبيض حتى نهاية فترة ولايته في 20 يناير. ومن ألامو في ولاية تكساس، حاول اتخاذ موقف أقل عدوانية مما كان عليه الأسبوع الماضي، مستحضراً وقت "السلام والهدوء". كذلك، رأى أن الإجراء الذي يستهدفه مجرد مناورة من الديمقراطيين، وهي "استمرار لأكبر حملة مطاردة في التاريخ".
ورغم ثقته الواضحة ودعم بعض المسؤولين المنتخبين المخلصين للغاية، أصبح دونالد ترامب أكثر عزلة من أي وقت مضى، ليس فقط سياسياً، بل أيضاً في الفضاء الإلكتروني، إذ علق موقع "يوتيوب" التابع لشركة "غوغل" أمس الثلاثاء موقتاً، قناته، وحذف تسجيل فيديو لانتهاكه قواعد الموقع التي تمنع التحريض على العنف.
السماح للحرس الوطني المنتشر في واشنطن بحمل أسلحة
في غضون ذلك، لا تزال الأنظار مركزة نحو حفل تنصيب جو بايدن الذي من المقرر أن يؤدي اليمين تحت حراسة مشددة في 20 يناير الحالي، مباشرة على درجات مبنى الكابيتول. وسمح البنتاغون الذي انتقد لتأخره الأربعاء الماضي في إرسال الحرس الوطني، هذه المرة بنشر 15 ألف جندي للحفاظ على الأمن خلال مراسم التنصيب، ووضعت العاصمة الفدرالية واشنطن تحت حماية أمنية مكثفة، ونُصبت حواجز إسمنتية لسد أبرز محاور وسط المدينة، كما أحاطت أسلاك شائكة بعدد من المباني الفدرالية بينها البيت الأبيض.
وبدأ عناصر الحرس الوطني المنتشرون في شوارع واشنطن القيام بدوريات مسلحة في ساعة متأخرة من الثلاثاء، في تحول كبير في موقف المسؤولين، قبيل تنصيب بايدن، بحسب وكالة "فرانس برس". وكانت قد تمت تعبئة الجنود أساساً لتقديم الدعم اللوجستي في الغالب لشرطة واشنطن. والإثنين قال الجنرال دانيال هوكانسون، مسؤول مكتب الحرس الوطني في البنتاغون، إنه لم يُسمح لهم بعد بحمل أسلحة. وأضاف هوكانسون إن تفويض عناصر الحرس للانتشار في مهمة لتطبيق القانون يسمح خلالها بحمل السلاح مع صلاحية القيام بتوقيفات، سيكون "الخيار الأخير" إذا خرج الوضع عن السيطرة.
ولم يتضح بعد ما الذي تغير مساء الثلاثاء، لكن ذلك يشير إلى ازدياد المخاوف من عنف ومخططات أنصار ترامب خصوصاً بعد الكشف عن العثور على قنابل محلية الصنع قرب مبنى الكونغرس عند اقتحامه. وقد أكد خبراء في مجال الأمن بالفعل، ازدياد الدردشات على مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة بين متطرفين ومناصرين لترامب بشأن القيام بمسيرات مسلحة والتهديد بأعمال عنف في العاصمة الأميركية ومدن أخرى. وحذّر مكتب التحقيقات الفدرالي "أف بي آي" في وثيقة داخلية من أنّ أنصاراً لترامب يخططون لتنظيم تظاهرات مسلحة في الولايات الخمسين خلال الفترة الممتدّة من نهاية هذا الأسبوع إلى موعد أداء اليمين الدستورية. من جهتها، قالت شبكة "إن بي سي" الأميركية، الثلاثاء، إن جماعات يمينية متطرفة تدعو لاستهداف مسؤولين حكوميين يوم تنصيب بايدن. وأضافت الشبكة أن تلك الجماعات تستخدم رسائل مشفرة وغرف محادثة سرية للتنسيق في ما بينها، وأن بعض أفرادها ينشرون معلومات لصناعة قنابل وأسلحة بشكل يدوي.
ازدياد المخاوف من عنف ومخططات أنصار ترامب
وتأتي هذه التحركات المفترضة لأنصار ترامب على الرغم من حملة الاعتقالات الواسعة ضد مقتحمي الكونغرس الأسبوع الماضي. وفي السياق، رجّحت وزارة العدل الأميركية أمس الثلاثاء أن تشمل اتهامات بحق مشاركين في اقتحام الكونغرس، العصيان والتآمر واللتين تصل عقوبة كل منهما إلى السجن 20 عاماً. وقال مدعي عام واشنطن مايكل شروين إنّه يتوقع رفع مئات الدعاوى الجنائية على خلفية اقتحام الكابيتول من قبل أنصار للرئيس الخاسر. بدوره، أشار ستيفن دانتونو، القائم بأعمال مدير المكتب الميداني لمكتب التحقيقات الفدرالي في واشنطن، إلى فتح "أكثر من 150 ملفاً" حتى الآن. وأوضح في مؤتمر صحافي أنّ "هذا الأمر لا يعكس سوى رأس جبل الجليد". وقال مايكل شروين "سبق أن وجهنا تهماً في أكثر من 70 قضية"، مضيفاً أنّ العدد الإجمالي "سيبلغ مئات، على ما أظن". وفي تفاصيل مثيرة جديدة عن يوم اقتحام الكونغرس، أفاد شروين بأنه تم العثور على قنابل محلية الصنع مزودة بأجهزة توقيت، بالقرب من مبنى الكابيتول أثناء اقتحامه في السادس من يناير الحالي.
وفي سياق متصل، برز موقف لافت لهيئة الأركان الأميركية المشتركة، التي تضمّ قادة القوات المسلحة بأفرعها كافة، والتي قالت في رسالة إلى العسكريين، إن الجيش ملتزم بحماية الدستور ضد جميع الأعداء الأجانب والمحليين، وإن بايدن سيصبح القائد الـ46 للقوات المسلحة في 20 يناير المقبل. واعتبرت الهيئة أن اقتحام الكونغرس من قبل مؤيدي ترامب "هجوم مباشر على العملية الدستورية". وشدّدت على أنّ "الحقّ في حرية التعبير والتجمّع لا يمنح أحداً الحقّ في اللجوء إلى العنف أو العصيان أو التمرّد". وحرصت الرسالة التي وقّعها خصوصاً رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، على تنبيه العسكريين الأميركيين كافة إلى أنّ من واجب كلّ منهم الدفاع عن الولايات المتحدة ودستورها ومؤسّساتها.