استمع إلى الملخص
- في 30 سبتمبر 2022، وقع بوتين على اتفاقيات ضم "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين" ومقاطعتي خيرسون وزابوريجيا إلى روسيا، لكن السيطرة الكاملة لم تتحقق بعد وتواجه روسيا تحديات أمنية واقتصادية كبيرة.
- الباحث قسطنطين سكوركين يؤكد أن ضم المقاطعات الأوكرانية لم يحقق مكاسب لروسيا، بل أصبح عبئاً اقتصادياً وديمغرافياً، حيث المناطق الصناعية مدمرة والأراضي الزراعية غير صالحة، مما أدى إلى هجرة السكان وانخفاض مستوى المعيشة.
لم يتمكن الأستاذ في قسم العلاقات الدولية في الجامعة الوطنية للطيران في كييف مكسيم يالي، المتحدر من مدينة ماريوبول الواقعة في مقاطعة دونيتسك الأوكرانية، التي ضمتها موسكو تحت مسمى "جمهورية دونيتسك الشعبية" في 30 سبتمبر/أيلول 2022، من زيارة مدينته منذ زمن، نظراً إلى تبنّيه مواقف معادية للضم الروسي وإشهارها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. ودونيتسك مع لوغانسك هما جزء من منطقة دونباس الأوكرانية، الواقعة شرقي البلاد.
وروى يالي تجربته قائلاً لـ"العربي الجديد": "أتحدر من ماريوبول، ولا تزال لي أملاك ومعارف ومحل إقامتي الرسمية هناك حتى الآن، ولكن لحسن الحظ غادرتها قبل 24 فبراير/شباط 2022 (تاريخ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا) بعد التحاقي بالأكاديمية الدبلوماسية ثم دراسات الدكتوراه في كييف، فأصبحت أتنقل بين المدينتين". وحول امتناعه عن زيارة ماريوبول، أشار إلى أن مثل هذه الرحلة قد تنتهي بالاعتقال عند أول نقطة تفتيش، وتابع: "لا فرصة للسفر حتى لإعادة تسجيل الأملاك، لأن القادمين من حملة الجنسية الأوكرانية لا يسمح لهم بالسفر إلا عبر منفذ حدودي بمطار (شيريميتييفو) في ضواحي موسكو، حيث يخضعون لأشد إجراءات التفتيش بما يصل إلى مراجعة حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وأي شبهة ولاء لأوكرانيا يترتب عنها منع هؤلاء من السفر إلى روسيا لسنوات طويلة".
وبعد مرور عامين على الضم، أبدى يالي أسفه لتقبل أغلبية السكان المحليين الوجود الروسي، مضيفاً: "قَبِل قسم هام من سكان ماريوبول بالاحتلال. تركت الأهوال التي عاشوها في ربيع عام 2022 فيهم أثراً نفسياً يجعلهم يفكرون على طريقة (الأهم ألا يتكرر ذلك). أما السكان المتعاطفون مع أوكرانيا، فيترقبون نزعاً للاحتلال، ولكنهم يتعرضون لضغوط ومداهمات من قبل الأجهزة الأمنية الروسية، أوصلت الأمر إلى كف بعض معارفي عن التواصل معي خوفاً على سلامتهم، وكأن ستاراً حديدياً نزل بيننا".
مكسيم يالي: كأن ستاراً حديدياً نزل بيني وبين معارفي في ماريوبول
ضمّ المقاطعات الأوكرانية إلى روسيا
في 30 سبتمبر 2022، وفي مراسم مهيبة أقيمت في الكرملين، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على اتفاقيات انضمام "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين" الأوكرانيتين المعلنتين من طرف واحد، فضلاً عن مقاطعتي خيرسون وزابوريجيا الأوكرانيتين، إلى روسيا بصفتها كيانات إدارية جديدة إثر استفتاءات أحادية الجانب أجريت في المقاطعات الأربع. حينها، جرت مراسم التوقيع على اتفاقيات الضم بعد مرور ثلاثة أيام فقط على الإعلان عن نتائج التصويت في استفتاءات الانضمام إلى روسيا، التي أظهرت أن أكثر من 90% من المصوتين في مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا، ونحو 87% في خيرسون، صوتوا لصالح الانضمام.
وقطعت روسيا طريقاً طويلاً نحو دمج الأراضي "الجديدة" في الحياة السياسية والاقتصادية الروسية، ولكن من دون تمكنها من إحكام السيطرة الكاملة على كافة أراضي المقاطعات الأربع التي لا تزال مساحات شاسعة منها موضعاً لمعارك الكر والفر مع القوات الأوكرانية، ناهيك عن مواجهتها تحديات أمنية واقتصادية، وفق ما أقرت به عضوة الغرفة العامة لـ"جمهورية دونيتسك الشعبية" ناتاليا كوريانسكايا، معتبرة في الوقت نفسه أنه يمكن تجاوزها في حال قدمت السلطة الفيدرالية في موسكو دعماً لازماً لاستعادة مكانة دونباس، ولو جزئياً، قلعةً صناعيةً.
ووصفت كوريانسكايا الوضع الراهن في دونباس، لـ"العربي الجديد"، بالقول: "يختلف الوضع الأمني من مدينة إلى أخرى، ولكن لا مكان آمناً تماماً في ظل اعتماد القوات الأوكرانية على المسيّرات لشن ضربات. تقدم مختلف الأقاليم الروسية دعماً لنا في مسألة إعادة الإعمار وبناء الطرق، وأجرينا عملاً دؤوباً من أجل تحقيق تناغم مع القوانين الفيدرالية، بعد أن عشنا عقوداً تحت التشريعات الأوكرانية ثم قوانيننا نحن".
وحول رؤيتها لأبرز التحديات التي تواجهها الأقاليم "الجديدة"، رأت كوريانسكايا: "لعل أبرز مشكلة نواجهها هي نقص الكوادر، لأن رجالنا يقاتلون على الجبهة منذ عام 2014، لا منذ عام 2022 كما هو حال عسكريي (روسيا الكبرى)، وقد قضى كثير منهم. أضف إلى ذلك الدمار الذي لحق بالمصانع، وسنحتاج إلى مدة لن تقل عن عقد لإعادة إعمارها في حال حصلنا على الدعم اللازم من السلطات الفيدرالية". وأقرت بوجود مشكلة التصرف في الأملاك في حال وجود أصحابها على أراض خاضعة لسيطرة كييف، مستطردة: "يتطلب التصرف في الأملاك إما حضوراً شخصياً، وهذا يكاد يكون مستحيلاً في ظروف استمرار القتال، وإما إصدار توكيل. إلا أن حتى الخيار الثاني غير متاح، لأننا لا نعترف بالتوكيلات الصادرة عن الموثقين الأوكرانيين، بينما يشكل اللجوء إلى موثق روسي خطراً على من هو موجود داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة كييف".
قسطنطين سكوركين: تشكل الحرب عبئاً على الاقتصاد الروسي وتؤدي إلى انخفاض مستوى معيشة الروس
في المقابل، جزم الباحث المختص في الشؤون الأوكرانية قسطنطين سكوركين بأن روسيا لم تحقق أي مكاسب جراء ضمها المقاطعات الأوكرانية الأربع، معتبراً أن الحرب في أوكرانيا تحولت إلى عبء على الاقتصاد الروسي. وأضاف سكوركين، لـ"العربي الجديد"، أنه "لا شك أن ضم أراضي شرقي وجنوبي أوكرانيا ألحق ضرراً كبيراً بكييف، ولكنه لم يحقق أي فائدة لموسكو أيضاً. صحيح أن مناطق جنوب شرقي أوكرانيا احتضنت منذ الحقبة السوفييتية مجمعات صناعية كبرى، بما فيها مناجم فحم ومصانع حديد وصلب، ولكنها اليوم إما مدمرة كما هو حال مصنع (آزوفستال) في ماريوبول، وإما لا تعمل بكامل طاقتها، ولا تحقق أرباحاً، بل تتطلب إنفاقاً هائلاً على ترميمها".
وقلّل سكوركين من أهمية المزاعم بأن في وسع روسيا تحقيق مكاسب ديمغرافية أو الاستفادة من الأراضي الزراعية الخصبة في الشرق الأوكراني، مضيفاً: "أصبح قسم كبير من هذه الأراضي غير صالح للاستصلاح والزراعة، بسبب زرع الألغام والقصف والصعوبات المتعلقة بنقل المنتجات. وديمغرافياً، لم تحقق موسكو أي مكاسب أيضاً نظراً لفرار السكان من مناطق القتال، لتصبح مدن دونباس مهجورة. أما الخسائر البشرية نتيجة لأعمال القتال، فتنسف الأوضاع الديمغرافية في روسيا وأوكرانيا كلتيهما". واعتبر سكوركين أن ضم دونباس لم يحقق لموسكو أي مكاسب باستثناء تعزيز حكم بوتين، قائلاً: "ستفوق الخسائر أي مكاسب محتملة لسنوات طويلة، إذ تشكل الحرب عبئاً على الاقتصاد الروسي وتؤدي إلى انخفاض مستوى معيشة الروس، بينما لم تعد الدعاية الحكومية المروجة لأحلام استعادة الإمبراطورية الروسية قادرة على اللعب على أوتار الأمزجة القومية والإمبريالية داخل البلاد، على غرار ما كانت عليه قبل عامين".
تاريخ دونباس
دونباس، أو "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) حسب تسميتها التاريخية، هي منطقة موالية لروسيا وكانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية قبل ثورة البلاشفة في عام 1917، وأدت دوراً في ثورتها الصناعية في القرن الـ19 بفضل احتياطياتها من الفحم. وبعد الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، تحولت دونباس إلى واحدة من أعمدة اقتصاد الدولة السوفييتية الكبرى وقلعتها الصناعية. وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، تعمدت قيادة الدولة الأوكرانية تهميش دونباس التي لم يبد سكانها درجة عالية من الولاء لكييف، مع استمرارهم في اعتماد اللغة الروسية في تعاملاتهم اليومية. وفي ربيع عام 2014، ألهمت تجربة ضم القرم إلى روسيا النشطاء الموالين لموسكو في دونباس للدعوة إلى إجراء استفتاء تقرير المصير لحذو حذو شبه الجزيرة، وهو ما قابله إعلان السلطات الأوكرانية الجديدة عن بدء عملية "مكافحة الإرهاب" في دونباس والتي تطورت إلى حرب مفتوحة شاملة بين روسيا وأوكرانيا بحلول عام 2022.