بلحاف: صراع السياسة والثروة

01 سبتمبر 2021
توقفت المنشأة عن العمل منذ إبريل 2015 (مروان نعماني/فرانس برس)
+ الخط -

تلخّص التوترات التي تلفّ ميناء بلحاف، المطل على بحر العرب في محافظة شبوة اليمنية، صراع السياسة والثروات الذي تكرّس منذ بدء الحرب في اليمن قبل أكثر من ست سنوات، وتداخل المصالح الخارجية والنزاعات الداخلية لتعطّل واحداً من أهم المشاريع الاقتصادية في البلاد، وتمنع موارد هائلة عن خزينة الحكومة الشرعية التي تعاني آثار حرب طويلة وسقوط الكثير من مؤسساتها وإيراداتها بيد الحوثيين.

قصة ميناء بلحاف، أكبر مرفق لتصدير الغاز المسال على ساحل بحر العرب، تعود إلى منتصف العام 2015، فالمنشأة النفطية التي تديرها شركة "توتال" الفرنسية، توقفت عن العمل منتصف إبريل/نيسان 2015، عندما أعلنت الشركة اليمنية للغاز الطبيعي المسال، بعيد انطلاق الحرب اليمنية، حالة القوة القاهرة في مرفأ التصدير ومحطة الإنتاج، وأجلت موظفيها بسبب تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد، وتوقف إنتاج الغاز في اليمن. وعلى الرغم من سنوات الحرب الطويلة والتنافس الكبير على المنطقة، لم يتعرض المشروع للتدمير، لتسعى السلطة المحلية في شبوة إلى إعادة تشغيل المشروع، فاصطدمت بسيطرة الإمارات على المنشأة والميناء الذي يحتضن خزانات للغاز الطبيعي المسال بسعة 140 ألف متر مكعب لكل خزان، ورصيفاً بحرياً بطول 680 متراً لتحميل الغاز المسال إلى ناقلات الغاز البحرية. وعلى الرغم من دعوات الحكومة الشرعية للسماح بتصدير الغاز من منشأة بلحاف، للدفع نحو انفراج الأزمة الاقتصادية والإنسانية في اليمن، إلا أن كل الضغوط والدعوات تلك لم تلقَ آذان صاغية، على الرغم من أن محافظة شبوة محررة من الحوثيين.

عودة التوترات

تسيطر الحكومة الشرعية على محافظة شبوة، إلا أن القوات الموالية لأبوظبي تمنع تصدير الغاز من ميناء بلحاف المطل على بحر العرب، وحوّلته إلى قاعدة عسكرية، تضم مئات المقاتلين، خصوصاً من المجموعات التابعة لـ"المجلس الانتقالي الجنوبي". لكن قيادة شبوة المدعومة من السلطة الشرعية، رفعت أخيراً مطالبتها للإمارات بالرحيل واتخذت قراراً بتشغيل المنشأة وتصدير الغاز، وتمكّنت من تشكيل قوة ودربتها وأهّلتها لحماية المنشآت النفطية في شبوة بما فيها منشأة بلحاف، لتصدير الغاز من ميناء بلحاف، وهي رسالة أن قيادة شبوة المدنية والعسكرية والأمنية مستعدة حتى عسكرياً لطرد القوات الموالية لـ"الانتقالي". في ظل هذا الواقع، تصاعد التوتر العسكري بين القوات الحكومية من جهة، والقوات الإماراتية و"النخبة الشبوانية" التابعة لـ"الانتقالي" والمتواجدة في منطقة بلحاف، من جهة أخرى، وشهدت الأيام الأخيرة اشتباكات متقطعة بين الطرفين بعد أن حشدت القيادات المحلية التابعة للشرعية قواتها في بلحاف وفرضت حصاراً على المنطقة من جميع الجهات عدا الجهة البحرية، مطالبة بخروج القوات الإماراتية والقوات التي تدربها. وتمكنت قوات الحكومة من اقتحام البوابة الرئيسية في بلحاف وأسر العديد من عناصر "النخبة الشبوانية" التي كانت في معسكرات التدريب الإماراتية في بلحاف، وفق ما أكده مصدر عسكري في قيادة محور عتق لـ"العربي الجديد".

شهدت الأيام الأخيرة اشتباكات متقطعة بعد أن حشدت القيادات المحلية التابعة للشرعية قواتها، مطالبة بخروج القوات الإماراتية

وإزاء هذا الوضع، تدخّلت السعودية لخفض التوتر ووقف اقتحام قوات الشرعية لبلحاف، مقابل التزام أبوظبي بإخراج قوات "النخبة الشبوانية" التي استقدمتها عبر البحر لتدريبها، بعد أن تم طرد هذه القوات منذ سنتين. ووصلت لجنة سعودية برئاسة قائد قوة الدعم والإسناد لقوات التحالف الذي تقوده الرياض، اللواء الركن يوسف الشهراني، صباح الإثنين الماضي إلى بلحاف بطائرة عسكرية، بعد ساعات من تصاعد التوتر العسكري وملامح انفجاره. ووفق مصادر سياسية ومسؤولين في السلطة المحلية في شبوة تحدثوا لـ"العربي الجديد"، فإن اللجنة السعودية التقت محافظ شبوة محمد صالح بن عديو والقيادات العسكرية والأمنية في منتجع شوران في محيط منشأة بلحاف، التي تحتشد فيها قوات الشرعية، وتبلّغت من مسؤولي شبوة مطالبتهم بإخلاء الإمارات والمليشيات الموالية لها منطقة بلحاف فوراً وبشكل كامل، وتسليمها لقوات الشرعية. كما تم تسليم اللجنة السعودية ملفاً حول الخروقات الإماراتية لاتفاق الرياض من خلال تحشيد المليشيات المسلحة في بلحاف، ومنع إعادة تشغيل المنشأة التي تُعتبر أهم مشروع اقتصادي قد يساعد في توحيد كل الطاقات والموارد نحو مواجهة الحوثيين.

وقالت المصادر إن اللجنة السعودية التقت بالإماراتيين في منشأة بلحاف، وأبلغتهم مطالب قيادة الشرعية في شبوة، ليرد الإماراتيون بعد نقاشات معهم بطلب مهلة من شهرين إلى ثلاثة للانسحاب من بلحاف، مع طرح خيارات عدة على الطاولة، من بينها التزام أبوظبي بوقف دعم وتدريب أو تجميع قوات "الانتقالي"، وعدم استخدام منشأة بلحاف ومينائها لأي أعمال عدائية ضد السلطات الشرعية في شبوة، وطرد كل قوات "النخبة الشبوانية" المتواجدة في بلحاف من معسكرات التدريب هناك، فضلاً عن السماح بتصدير الغاز المسال عبر ميناء بلحاف، بعد تشغيل المنشأة. لكن المصادر ذكرت أن قيادة شبوة ممثلة بالمحافظ بن عديو رفضت كل ذلك، وطالبت بالرحيل الفوري للقوات الإماراتية والمليشيات الموالية لها من منطقة بلحاف والميناء، وتسليمها لقيادة شبوة وقوات الحكومة فيها، التي تم تدريبها وتأهيلها خلال الفترة الماضية لتتولى حماية المنشآت النفطية في المحافظة.

طلب الإماراتيون مهلة من شهرين إلى ثلاثة للانسحاب من بلحاف

ووفق مصادر أخرى في شبوة، فإن قيادة السلطة المحلية وقيادة محور عتق العسكري، حسمت أمرها بضرورة إخراج القوات الموالية للإمارات من شبوة، لا سيما من منطقة بلحاف، وإعادة تصدير الغاز المسال، على أن تكفل القوات التي دربتها قيادة محور عتق العسكري حماية المنشآت النفطية في المحافظة. وقبل بضعة أيام، شنّ بن عديو هجوماً على الإمارات، متهماً إياها باستخدام منشأة بلحاف التي تديرها شركة "توتال" الفرنسية معقلاً عسكرياً ومقراً لنشر الفوضى ودعم الانقلابات ضد الحكومة الشرعية والسلطات المحلية في شبوة، وأن آليات عسكرية مخصصة لمكافحة الإرهاب تقصف مؤسسات الدولة، متحدثاً عن أن أرتالاً من التعزيزات يتم الدفع بها لإسقاط عتق عاصمة شبوة.

ومع ذلك، فإن بعض المراقبين ومصدراً سياسياً في "المجلس الانتقالي"، أشاروا في أحاديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن الإمارات قد لا تنسحب بشكل كامل، وطلبها مهلة للانسحاب من منشأة بلحاف قد لا يعني الخروج الكلي، بل قد تقصد الانسحاب من منشأة بلحاف الغازية والسماح لقوات محور عتق العسكري في شبوة في استلام المنشأة مع إمكانية تصدير الغاز، بينما قد تتواجد القوات الإماراتية في منطقة بلحاف لكن خارج المنشأة والميناء، بعد إنشاء مقر جديد للقوات الإماراتية في محيط منشأة بلحاف ومقر شركات "توتال"، وسحب ورقة تصدير الغاز من قيادة شبوة.

وفي رد فعل من "المجلس الانتقالي"، قال عضو هيئة رئاسة المجلس سالم ثابت العولقي في منشورات على حسابه في "فيسبوك"، مساء الإثنين، إن "‏الأوضاع في بلحاف مستقرة والتحالف رفض كل أنواع الابتزاز وحذر الإخوان من الاعتداء على أي مقر للتحالف، وانسحبت النقاط (التابعة لقوات الشرعية) من محيط بلحاف قبل قليل وأطلق سراح جنود النخبة الشبوانية الذين اختطفوا قبل أيام، وعاد الإخوان بخفي حنين"، حسب منشوره. وأضاف: "تصدير الغاز شأن يتعلق بالحكومة وبتوتال الفرنسية وبقية الشركاء الذين يرون أن وضع مأرب المنتجة للغاز معقّد وأن عملية تصدير الغاز تقف أمامها تحديات أمنية كثيرة في مأرب وشبوة".

وجاء التحرك السعودي بعد تواصل فرنسي مع الرياض ومع الحكومة الشرعية والسلطات في شبوة، ومع الإماراتيين، لمنع الانفجار العسكري وتخفيف التوتر عقب حشد السلطات في شبوة قوات عسكرية إلى محيط منشأة بلحاف الغاز، لاقتحام بلحاف وطرد القوات الإماراتية منها. ويتخوف الفرنسيون من تأثيرات أي انفجار للوضع العسكري على المشروع الاستثماري لها في بلحاف، ومقر شركة "توتال" التي تدير المشروع، ما دفع الفرنسيين للمسارعة والضغط على جميع الأطراف لوقف اقتحام بلحاف من قبل قوات الحكومة الشرعية، لتتوقف قوات الحكومة لا سيما أن "توتال" كانت قد تكفلت ببناء عشرات الأبراج السكنية في عتق عاصمة المحافظة، مساعدة منها في التنمية والتطوير التي تشهدها شبوة.

جذور التوترات

تعود التوترات في المنطقة بين القوات الحكومية والإمارات إلى سنوات عدة، وأواخر شهر أغسطس/آب 2019، تعرّضت القوات الانفصالية الموالية لأبوظبي في محافظة شبوة للهزيمة على يد القوات الحكومية، إلا أن الإمارات وعلى الرغم من إعلانها سحب قواتها من اليمن في أكتوبر/تشرين الأول 2019، احتفظت بوجودها العسكري في مناطق محدودة وعلى رأسها ميناء بلحاف. ومنذ طرد قوات النخبة الشبوانية التابعة لـ"المجلس الانتقالي"، شهدت محافظة شبوة، نهضة اقتصادية، كما عادت الأعلام الوطنية لترفرف في شوارعها ومقراتها الحكومية، باستثناء ميناء بلحاف الذي يبعد نحو 150 كيلومتراً عن مدينة عتق عاصمة المحافظة.

وعقب سيطرة الانفصاليين على مدينة عدن قبل عامين، شكّلت محافظة شبوة عقبة رئيسية أمام طموحاتهم الرامية للتمدد على كامل تراب المحافظات الجنوبية، وتحديداً الغنية بالثروات النفطية والغازية مثل حضرموت، وفشلت المحاولات العسكرية لاستعادتها عبر هجوم بري من عدن، مع تمركز قوات الجيش الوطني وألوية الحماية الرئاسية في شقرة، وكذلك عبر انقلابات من الداخل تحت لافتة الاحتجاج السلمي. وفي ظل استحالة استعادة الانفصاليين شبوة عسكرياً أو عبر الحصول عليها رسمياً، من خلال اتفاق الرياض الذي رعته السعودية، وذلك بتعيين محافظ موالٍ لـ"المجلس الانتقالي" كما حصل في عدن، حاولت أبوظبي إعادة تجميع عناصر "النخبة الشبوانية" من جديد في معسكر العلم جنوبي مدينة عتق، ولكن تحت ضغوط شعبية ورسمية من السلطة المحلية لإخلاء المعسكر، لم يكن أمام القوات الانفصالية سوى الانتقال إلى ميناء بلحاف. في ميناء الغاز المسال، وهو أضخم مشروع صناعي ورأس مال استثماري في اليمن، لم تكن الضربات التي تعرضت لها الحكومة الشرعية مقتصرة على تعطيل مشروع حيوي يدر على خزينة الدولة نحو 700 مليون دولار سنوياً، ولكن في تحويله إلى "بؤرة للتمرد"، وفقاً لتصريحات أطلقها بن عديو، قبل فترة.

وإزاء ذلك، باتت العلاقة بين أبوظبي وقيادة السلطة الشرعية أشد توتراً، ومقابل تدريب الإمارات مجموعات تابعة لـ"المجلس الانتقالي"، فإن قيادة شبوة المدعومة من السلطة الشرعية، التي تصر على رحيل الإمارات واتخذت قراراً بتشغيل المنشأة وتصدير الغاز، تمكّنت من تشكيل قوة ودربتها وأهّلتها لحماية المنشآت النفطية في شبوة. كما ارتفعت وتيرة التحركات السياسية لإعادة تشغيل المنشأة. وأكدت وزارة التخطيط اليمنية أن قرار استئناف تصدير الغاز يتطلب إرادة سياسية فقط في ظل الجاهزية الفنية، كما شددت على ضرورة وجود ترتيبات لتأمين الحماية الأمنية للبنية التحتية للغاز، وكذلك توفير حماية أمنية للسفن التي ستقوم بنقل شحنات تصدير الغاز.

أكدت وزارة التخطيط اليمنية أن قرار استئناف تصدير الغاز يتطلب إرادة سياسية فقط

بالتوازي، عقد مسؤولون في الحكومة اليمنية وقيادة الشرعية لقاءات عدة مع مسؤولين فرنسيين، وبعثتهم الدبلوماسية في اليمن، فضلاً عن مسؤولي "توتال"، شددوا خلالها على ضرورة إعادة تشغيل منشأة بلحاف لتصدير الغاز عبر ميناء بلحاف المخصص من قبل من الشركة وحكومة اليمن لتصدير الغاز المسال للسوق العالمية، وفق مصدر في وزارة الخارجية اليمنية تحدث لـ"العربي الجديد". وأضاف أن العديد من المسؤولين الفرنسيين ومسؤولي "توتال" أبدوا رغبتهم في تشغيل المنشأة وتصدير الغاز، لأن التعطيل يتسبب للشركة بخسائر كبيرة. ووفق المصدر، فإن محافظ شبوة ومسؤولين يمنيين آخرين خاطبوا المسؤولين الفرنسيين أكثر من مرة للضغط على أبوظبي للسماح لهم بذلك، ووقف عسكرة ميناء ومنشأة بلحاف.

المساهمون