كان من اللافت أن يتحدّث المسؤولون الأميركيون عن إبرام الاتفاق البحري اللبناني - الإسرائيلي بلغتين مختلفتين.
في يوم التوقيع، تعاملت الإدارة معه بما يشبه الاحتفال. المنسق الإعلامي لمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي افتتح لقاءه الصحافي الذي كان مخصصاً يومها "لأولويات الإدارة الخارجية"، بالترحيب والتنويه بالحدث، وبما يفيد بأنه منتج أميركي بهندسته وضماناته. بعد أيام، اختلفت اللهجة. المتحدث باسم الخارجية نيد برايس قال، الأربعاء الماضي، إن الإدارة لعبت دور "المسهّل" فقط في التوصل إلى الاتفاق.
كذلك، حرصت مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بربارة ليف على وضعه في هذه الخانة، حين قالت إن الإدارة كانت "الشاهد" على الاتفاق. وأضافت المسؤولة في ندوة عن لبنان نظّمها الجمعة مركز "وودرو ويلسون" للدراسات بواشنطن أن الحدث أدى إلى التقارب "لكن ليس كفاية" بين لبنان وإسرائيل. وفي إشارة أوضح لحث لبنان، بل مطالبته ضمناً بالعمل على المزيد من هذا التقارب، قالت إن "الأمور الصعبة يمكن تحقيقها متى توفرت الإرادة السياسية".
وتناولت ليف مختلف جوانب الأزمة اللبنانية، التي توقعت أن "تسوء أكثر حيث قد تنتهي إلى سيناريوهات كارثية"، في ضوء "الفراغ السياسي غير المسبوق"، ما لم يبادر اللبنانيون إلى مساعدة أنفسهم. وربطت مساهمة واشنطن في المعالجة "بوجود حكومة تتمتع بالتفويض" اللازم، وهي التي لا تجهل واقع الوضع الحكومي اللبناني الراهن. الجهة اللبنانية الوحيدة التي حظيت بتنويه إيجابي في حديثها كانت المؤسسة العسكرية التي وصفتها بـ"الركيزة... المهمة لضبط الوضع الأمني الداخلي".
وعلى الرغم من الاعتراف بصعوبة وخطورة الوضع في لبنان، فقد خلا حديثها من الإشارة إلى أي موقف أميركي واعد لمساعدته على تخفيف معضلاته المستعصية، وحمولته الثقيلة التي يرزح تحتها، ولا حتى على صعيد قضية اللاجئين السوريين، بذريعة أن واشنطن "لا توافق على إعادتهم بالقوة"، مع أن هذا الخيار غير مطروح. ولا حتى في موضوع استجرار الغاز الطبيعي والكهرباء من مصر والأردن، بحجة أن هذه العملية "تحتاج إلى إجراءات من جانب البنك الدولي، ثم وزارة المالية الأميركية، لناحية منح إعفاء محدود من العقوبات على سورية، وبالتالي إفساح المجال لمرور هذه الإمدادات من أراضيها إلى لبنان".
وكان كيربي قد أكد أخيراً أن مسألة العقوبات هذه لا تغيير فيها، وأن الإدارة ليست في وارد رفعها عن سورية، وإن بصورة جزئية لتمرير الطاقة إلى لبنان، كمساعدة له رداً على توقيعه الاتفاق البحري. الرسالة أن تمرير الاتفاق لا يلزم واشنطن بمكافأة لبنان عليه. فهو كما تراه الإدارة بعد التوقيع جاء نتيجة سعي لبناني - إسرائيلي تقاطع عند مصلحة متبادلة ترغب واشنطن في تطويرها، بما يضعها على طريق التقارب المتبادل.
بذلك، خرج الآن الوضع اللبناني عن شاشة رادار الإدارة الأميركية، ما عدا مسألة انتخاب رئيس جديد، المتروكة حتى إشعار آخر. في بيانه الذي افتتح به مؤتمره الصحافي الجمعة في ألمانيا، بعد انتهاء اجتماعات مجموعة السبع، أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن جولة واسعة على الأزمات الدولية، والأدوار الأميركية من أوكرانيا، إلى هايتي، مروراً بإثيوبيا، وطبعاً الصين، من دون أي إشارة إلى الوضع اللبناني والاتفاق البحري.
في الأيام الأخيرة التي سبقت التوقيع، كان الموضوع في واجهة اهتمامات الإدارة، وجرى تقديمه كإنجاز لها. بعد ذلك، حرصت على الابتعاد عنه كضامن، ما طرح أسئلة حول الالتباس في موقفها، وما إذا كانت في ذلك تمهّد لترك تفسير البنود الملغومة في الاتفاق لإسرائيل وحدها، على اعتبار أنها ليست طرفاً فيه بل "شاهداً" عليه.