تعتبر المعارك الانتخابية بين مختلف التيارات التي تشق أوساط المحامين في تونس بمثابة المرآة العاكسة لما يعتمل داخل الطبقة السياسية التونسية.
وجاءت نتائج انتخاب العميد الجديد للهيئة الوطنية للمحامين مفاجئة للكثيرين، وكشفت عن متغيّرات لم تكن واضحة بالقدر الكافي. إذ بدل أن يتمكّن المعارضون للسلطة الحالية، وتحديداً للرئيس قيس سعيّد، من تحقيق انتصار كاسح، مستفيدين من الأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة التي تمر بها البلاد، حصل العكس تماماً، إذ نجح أنصار الرئيس في الفوز بمنصب العميد، ومني الخصوم بانتكاسة مدوية، على الرغم من قلة الفارق بين المرشحين. فماذا حدث ويحدث في النفوس والعقول؟ وما هي دلالات ذلك وانعكاساته على موازين القوى ومستقبل الأوضاع في تونس؟
جدل حول توجهات عميد المحامين التونسيين الجديد
يستمر الجدل في تونس حول الانتماء السياسي للعميد الجديد، المحامي حاتم مزيو، إذ إن البعض يعتبره موالياً للسلطة و"يسارياً متخفّياً"، في حين يصرّ هو على القول إنه مستقل عن جميع الأحزاب، وإنه خارج دائرة الحسابات السياسية، معتبراً نفسه حاملاً "لأفكار تقدمية وأنه ناشط حقوقي" وأن "المشاركة في الشأن العام لا تعني بالضرورة أن تكون في الموالاة أو في المعارضة".
وعلى الرغم من أنه خرج من معركة حامية الوطيس بلغت حد التشابك بالأيدي، قدّم العميد الجديد خطاباً تجميعياً، على الرغم من تأكيده "رفض كل محاولات توظيف مهنة المحاماة للمصالح الشخصية"، ملتزماً بـ"محاسبة كل من تورط في الاغتيالات السياسية"، و"كشف الحقائق كاملة، ومحاسبة كل من أوصل البلاد إلى هذا الوضع الصعب على كل المستويات".
وهذا خطاب مقبول من الجميع، على الرغم من أن البعض رأى فيه تأييداً مبطناً لسياسة السلطة في السياق الحالي الذي يشهد توسعاً في عدد الموقوفين لأسباب وتهم سياسية.
رأى البعض بخطاب نقيب المحامين الجديد تأييداً مبطناً لسياسة السلطة
الأهم في هذا السياق أن انتخابات عميد المحامين اعتبرت مؤشراً على تراجع شعبية الإسلاميين وحلفائهم، وأن الرابح الرئيسي مما حدث هو سعيّد. وهو انطباع صحيح إلى حد كبير. فحركة النهضة وقفت في الضفة المقابلة إلى جانب محامٍ عُرف باستقامته ومصداقيته، وظنت أنه سيحظى بدعم بقية الأطراف، غير أنه لم يتمكن من تجميع كل القوميين حوله الذين انقسموا بشأنه، إذ فضّل بعضهم دعم منافسه الذي فاز عليه بأقل من مئتي صوت فقط.
ملف التسفير
ابتلع النهضويون الهزيمة بصعوبة ومرارة، والتفتوا لمواجهة ملف قضائي وسياسي أكثر تعقيداً. عاد الحديث من جديد عن ملف تسفير بعض الشباب السلفي إلى سورية. ملف وإن طوته الأحداث والتطورات المتلاحقة، إلا أنه بقي عالقاً في ذاكرة التونسيين، واستمر كورقة ضغط بيد خصوم "النهضة" الذين يتهمونها بـ"الوقوف وراء موجة الإرهاب" التي عرفتها البلاد بعد ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
تم إلى حد كتابة هذا المقال اعتقال خمسة شيوخ عُرفوا بتوجهاتهم السلفية إلى جانب بعض الأمنيين السابقين، وأُلحق بهم حبيب اللوز الذي كان من بين القياديين في حركة النهضة قبل أن يعلن استقالته أو انسحابه، مكتفياً بعضويته بمجلس شورى الحركة.
واللوز كان من أهم المتحمسين مع القيادي في الحركة صادق شورو لفكرة الحوار والتقارب مع حركة "أنصار الشريعة" التي تعتبر إحدى واجهات تنظيم "القاعدة"، وسبق لهما أن حضرا المؤتمر الأول لهذه الجماعة التي ستقود لاحقاً عمليات العنف المسلح ضد الدولة ومؤسساتها.
التهمة المعلنة وراء هذه الحملة هي "التسفير". والقضية مفتوحة على العديد من الاحتمالات التي قد يكشف عنها البحث والذي سيشمل 126 شخصاً، قيل إنّ من بينهم سياسيين وكوادر أمنية سابقة وأئمة ومحامين وأشخاصاً تحمّلوا مسؤوليات في جمعيات خيرية، ورجال أعمال مثلما حصل مع صاحب شركة "سيفاكس" محمد فريخة، الشخصية المالية المعروفة داخلياً وخارجياً، والمتهم بـ"تسخير شركته من أجل نقل الإرهابيين إلى سورية" عبر إنزالهم بمطار "صبيحة" التركي.
استهداف حركة النهضة
واضح أن المستهدف الرئيسي من هذه الحملة هي حركة النهضة التي يحاصرها الرئيس سعيّد بملفات المرحلة السابقة الحارقة والمعلقة، وفي مقدمتها الاغتيالات السياسية وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر.
تبرأت الحركة من أن يكون لها يد في هذا الملف الذي يندرج ضمن ما تسميه بسياسة "تشويهها" لدى الرأي العام، ووصفت ما حدث في بيان لها أخيراً بأنه "محاولة لصرف الرأي العام عن القضايا الحارقة، في ظلّ انسداد الآفاق وفشل خيارات السلطة وفقدان السلع الرئيسية".
هناك إصرار من قبل السلطة وخصوم "النهضة" على الاستمرار في الضغط عليها بمختلف الوسائل
لكن في المقابل هناك إصرار من قبل السلطة وخصوم "النهضة" على الاستمرار في الضغط عليها بمختلف الوسائل من أجل إضعافها وتفكيكها وإخراجها من المشهد السياسي، على الرغم من أن المحاكم نظرت في العديد من القضايا ضد أشخاص تم إيقافهم وأثبتت التحقيقات براءتهم من التهم التي وجهت إليهم. وكان آخر هؤلاء المدير العام السابق للحدود والأجانب لطفي الصغير، الذي أطلق سراحه بعد ساعات من إيقافه يوم الأربعاء الماضي، في قضية التسفير الجارية حالياً.
كذلك سبق أن أصدرت المحاكم التونسية عقوبات بالسجن على متهمين في قضايا التسفير شملت 61 متهماً، وبلغت أحياناً ثمانين عاماً، وذلك بتاريخ 2 مارس/ آذار 2021.
واللافت للنظر أنه لم يثبت في هذه القضايا تورّط مباشر لأحد أعضاء "النهضة"، على الرغم من أن القيادي السابق في هذه الحركة المحامي سمير ديلو أكد مجدداً أن كل شخص أخطأ يتحمل مسؤولية أفعاله.
في زحمة هذه التطورات، دلّت نتائج آخر استطلاعات الرأي (لمؤسسة سيغما كونساي) أن 50 في المائة من المستطلعة آراؤهم يعتقدون أن تونس تسير في الطريق الخاطئ، بينما يبيّن الاستطلاع أن 70 في المائة من الشباب متشائمون، وأن نسبة المتفائلين في صفوف المواطنين في تراجع واضح.