استمع إلى الملخص
- استطلاعات الرأي تشير إلى استمرار الغضب الشعبي تجاه سياسات ماكرون، مع إمكانية تقويض غالبيته البرلمانية وإجباره على التعايش مع حكومة يمين متطرف بعد حملة انتخابية قصيرة استمرت ثلاثة أسابيع.
- الدورة الثانية من الانتخابات تحمل أهمية كبرى في تحديد مستقبل الحكومة الفرنسية، حيث قد يضطر ماكرون لتعيين رئيس حكومة من اليمين المتطرف، مع احتمالية وقوع أزمة سياسية واسعة النطاق إذا لم تحصل أي قوة على الغالبية اللازمة.
يدلي الفرنسيون، اليوم الأحد، بأصواتهم في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون، وسط أجواء متشنجة، نظراً لما يُرجح أن يترتب على انتخابات فرنسا من نتائج، علماً أنها تجري بعد تصدّر اليمين المتطرف الفرنسي نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، التي أجريت بين 6 و9 يونيو/حزيران الحالي.
وتتراوح النتائج المتوقعة لانتخابات فرنسا، والتي من المقرر أن تجري دورتها الثانية في 7 يوليو/تموز المقبل، بين احتمال سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة للمرة الأولى في تاريخ هذا البلد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحكومة فيشي، ودخول فرنسا في أزمة دستورية بالغة التعقيد، في حال لم تحقق أي قوة سياسية غالبية كافية تخوّلها تسلم رئاسة الحكومة في نظام شبه رئاسي، صحيح أنه يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، لكنه يحجز أيضاً لرئيس الحكومة ووزرائه مكانة مهمة في السلطة التنفيذية، مع وجود برلمان نافذ بدوره لناحية مراقبة الحكومة ومحاسبتها، فضلاً عن دوره التشريعي.
انتخابات فرنسا الاستثنائية
وفي ختام حملة انتخابية استثنائية من حيث قصر مدتها التي لم تتجاوز ثلاثة أسابيع (كان ماكرون قد دعا إلى انتخابات مبكرة مباشرة بعد صدور نتائج الانتخابات الأوروبية)، يبدو مرجحاً أن يكرس الفرنسيون من خلال هذه الدورة ما سبق أن عبروا عنه في انتخابات البرلمان الأوروبي من غضب حيال سياسات ماكرون وأن يعملوا على معاقبته مجدداً، بإلحاق المزيد من التقويض لغالبيته البرلمانية، وذلك قبل ثلاث سنوات من انتهاء ولايته الرئاسية الثانية في 2027، مع إرغامه على تعايش صعب مع رئيس حكومة من اليمين المتطرف، سيكون جوردان بارديلا، رئيس حزب "التجمع الوطني" (حزب مارين لوبان)، في حال صدقت التوقعات، ولم يلتف الطيف السياسي الجمهوري والناخبون خلف مرشحي تحالف اليسار، الجبهة الشعبية الجديدة، في الدورة الثانية المقرّرة الأحد المقبل.
أحد السيناريوهات المحتملة، أن يفوز اليمين المتطرف بالأغلبية المطلقة في البرلمان، أي 289 مقعداً
فهذه الانتخابات التي باغت بها ماكرون الفرنسيين والطبقة السياسية بمجملها، أعقبت النتائج بالغة السلبية التي أحرزها حزبه، "النهضة"، وحلفاؤه في الانتخابات الأوروبية، حيث تراجع إلى المرتبة الثالثة (نحو 15%) على خريطة القوى السياسية بعد "التجمع الوطني" الذي حقّق اختراقا بارزا وحلّ في الطليعة (نحو 37% إن جمعت أصوات التجمع الوطني والحزب الثاني، استعادة فرنسا Reconquête)، وأيضا بعد القوى اليسارية التي انتعشت بعد فترة من التقهقر واحتلت المرتبة الثانية، فقررت التحالف في جبهة عريضة في انتخابات فرنسا المبكرة، لقطع الطريق أمام حكم اليمين المتطرف.
راهن ماكرون عبر قراره حلّ الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) والدعوة إلى هذه الانتخابات المبكرة، على إحداث صحوة في أذهان الفرنسيين تدفعهم إلى مراجعة حساباتهم وإدراك فداحة سقوط الحكومة للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة (1958)، بقبضة اليمين المتطرف وتجنيبه سيناريو التعايش مع هذه القوة السياسية المتطرفة. واعتبر ماكرون وفقا لما أعلنه في معرض تبريره حلّ البرلمان، أن هذا القرار بدا ضرورياً لتوضيح الصورة السياسية للبلاد، وأمعن بذلك في تجاهل عمق الرفض الشعبي لشخصه ولسياساته، وظنّ أن ما أدلى به الناخبون في الانتخابات الأوروبية هو مجرد فورة أو هفوة قابلة للتصحيح، وهو ما تكذبه استطلاعات الرأي التي تعطي اليمين المتطرف في انتخابات فرنسا التشريعية نفس النسبة تقريباً من نيات التصويت الذي ناله في 9 يونيو الحالي.
نسخة ثانية من انتخابات أوروبا
والمرجح وفقاً لآخر الاستطلاعات التي سبقت هذه الدورة الانتخابية الأولى، أن يجدّد الناخبون البالغ عددهم 45.5 مليون شخص، والذين من المرتقب أن يقبلوا بكثافة استثنائية على صناديق الاقتراع وبنسبة تتراوح بي 66 و68 في المائة، ما سبق أن بدر عنهم في الانتخابات الأوروبية، وأن يضعوا "التجمع الوطني" بزعامة جوردان بارديلا ومارين لوبان (التي تنوي الترشح مجدداً للرئاسة بعد ثلاث سنوات) في طليعة القوى السياسية بإعطائها نسبة 35% من الأصوات.
من جهتها، تحتفظ "الجبهة الشعبية الجديدة"، والتي تضم في عضويتها مجمل القوى اليسارية من اشتراكيين ويسار راديكالي وشيوعيين وأنصار بيئة، بالمرتبة الثانية، بحصة 29.5% من الأصوات وفق الاستطلاعات، وتتقدم على لوائح حزب تحالف الرئيس (معاً من أجل فرنسا) التي لن تحظى بأكثر من 20% من الأصوات في انتخابات فرنسا.
خاض ماكرون حملته مستهدفاً اليمين المتطرف والجبهة الشعبية اليسارية على حد سواء
وفي حال صحّت هذه التوقعات في الدورة الانتخابية الثانية، فهذا يعني أن اليمين المتطرف سيفوز بما يتراوح بين 210 و250 مقعداً من أصل 577 مقعداً تشكّل مجموع مقاعد البرلمان الفرنسي. أما "الجبهة الشعبية" اليسارية، فستفوز وفق التوقعات بما يتراوح بين 180 و220 مقعداً، فيما سيتراجع عدد نواب لائحة "معا من أجل الجمهورية" الموالية لماكرون، إلى ما بين 65 و110 مقاعد، مع استمرار حزب "الجمهوريون" اليميني الذي كان ديغولياً، في الانحسار، ليقتصر عدد مقاعده بعد انتخابات فرنسا المبكرة على ما بين 25 و35 مقعداً وفق ما تتوقعه الاستطلاعات، بعدما تحالف رئيسه إريك سيوتي مع اليمين المتطرف. أما المقاعد المتبقية فستتوزع على الأحزاب الصغيرة.
يتنافس في انتخابات فرنسا المبكرة الموزعة على 577 دائرة، وهو عدد المقاعد النيابية (يقوم نظام الاقتراع البرلماني في فرنسا على الدائرة الفردية)، 4 آلاف و5 مرشحين، وهو عدد منخفض مقارنة مع انتخابات عام 2022 التشريعية، والتي كان بلغ عدد المرشحين فيها، 6290 مرشحاً، وذلك نتيجة تحالف القوى اليسارية اليوم، بعدما كانت خاضت الانتخابات الماضية على لوائح منفصلة.
وتتوزع الدوائر الانتخابية على مجمل الأراضي الفرنسية وأقاليم ما وراء البحار في حين يجري اختيار النواب الـ11 الذين يمثلون الفرنسيين المقيمين في الخارج بواسطة الاقتراع الإلكتروني الذي أجري يوم الثلاثاء، والذي لن تعلن نتائجه قبل الإعلان عن النتائج الإجمالية اليوم. ويبلغ العدد الوسطي للمرشحين في كل دائرة هذه المرة، حوالي سبعة مرشحين، لكنه يتفاوت من دائرة إلى أخرى، فهناك دوائر يقتصر عدد المرشحين فيها على أربعة، وأخرى يرتفع فيها هذا العدد إلى حوالي 19 مرشحا.
ويخوض اليمين المتطرف هذه الانتخابات في 557 دائرة انتخابية، إذ ارتأى عدم تقديم ترشيحات في بعض الدوائر المعتبرة بمثابة معاقل تقليدية لقوى سياسية معينة. في المقابل، تخوض الجبهة اليسارية الموحدة انتخابات فرنسا المبكرة، في 567 دائرة، وحزب النهضة وحلفاؤه في 489 دائرة، وحزب الاسترداد الذي يمثل أقصى اليمين (بزعامة إريك زيمور) في 330 دائرة، علماً بأن حظوظ هذا الحزب في الفوز بمقاعد نيابية تبدو شبه متعذرة، خصوصا بعد انفصال ماريون ماريشال، ابنة شقيقة مارين لوبان عنه، وعودتها إلى تأييد "التجمع الوطني". وتتوزع الترشيحات الأخرى في هذه الانتخابات على عدد من الأحزاب الصغيرة متعددة التوجهات التي تجد في الاستحقاقات الانتخابية مناسبة لإسماع صوتها ولفت الانتباه إلى القضايا التي تعمل على الدفاع عنها، ومنها على سبيل المثال حزب الكفاح العمالي التروتسكي.
اعتمد "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في حملته شعار "نحن في بلدنا" الذي يوجز ذهنية هذا الحزب الانطوائية وميله إلى رفض واستعداء كل ما هو مختلف أو وافد و"غريب". في المقابل، اختار هذا الحزب لملصقاته الانتخابية عبارة "من أجل حكومة وحدة وطنية"، معتبراً أنه القوة الأكثر حرصاً من سواه على المصلحة الشعبية الشاملة والأكثر قدرة على تجسيدها.
أما "الجبهة الشعبية الجديدة" فوضعت أولوية لها قطع الطريق أمام حصول اليمين المتطرف على غالبية برلمانية، وحملت ملصقاتها عبارة "اليسار لمواجهة اليمين المتطرف". أولوية يترجمها اسم التحالف بالدرجة الأولى، الجبهة الشعبية الجديدة، المقتبس من تحالف "الجبهة الشعبية" الذي جمع عام 1936 الشيوعيين والاشتراكيين في تحالف عريض إلى جانب قوى يسارية أخرى في انتخابات ذلك العام بهدف قطع الطريق أمام فوز اليمين المتطرف، وهو ما حصل حينذاك بقيادة الاشتراكي ليون بلوم والشيوعي موريس توريز.
أما تحالف الرئيس، فخاض حملته مستهدفاً اليمين المتطرف والجبهة الشعبية اليسارية على حد سواء، على اعتبار أن "التطرف" في الجهتين سيكون كارثياً على حاضر فرنسا ومستقبلها. وحملت ملصقاته الانتخابية عبارات من نوع "لا للإفقار عن طريق اليمين المتطرف" و"لا لتحالف العار مع اليسار المتطرف والقوى غير المتفقة لا على دعم أوكرانيا ولا مكافحة اللاسامية ولا على احترام المؤسسات"، في إشارة الى تباين الحساسيات بين مكونات هذه الجبهة اليسارية وانضواء حزب "فرنسا غير الخاضعة" اليساري الراديكالي في عضويتها، والمتهم بمعاداة اللاسامية بسبب موقفه المؤيد للقضية الفلسطينية، مع المزج الحاصل بموجب القانون في فرنسا بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. ويتغاضى الطيف الفرنسي الذي يتهم "فرنسا غير الخاضعة" (بزعامة جان لوك ميلانشون) بمعاداة السامية، عن حقيقة أن أي حكم قضائي لم يدن أياً من أعضاء هذا الحزب بمعاداة السامية، وأن الأحكام والتهم الجدية بمعاداة السامية والعنصرية وإنكار المحرقة تلاحق أكثر من 45 مرشحاً عن اليمين المتطرف، لا اليسار.
في ظل هذه المعطيات، تبدو فرنسا على عتبة مرحلة مفصلية يحدّد الفرنسيون ملامحها عبر مراكز الاقتراع التي تفتح أبوابها في الثامنة صباحا وحتى السادسة مساء، باستثناء المدن الكبرى ومنها العاصمة باريس وغيرها حيث تبقي مراكز الاقتراع أبوابها مفتوحة حتى الثامنة مساء.
لكن الأمور ستبقى معلقة إلى حين إتمام الدورة الانتخابية الثانية التي قد تؤدي نتائجها إلى فوز اليمين المتطرف بغالبية برلمانية مطلقة بفوزه بـ289 مقعدا نيابيا، ما يلزم ماكرون بتكليف أحد شخصياته تشكيل الحكومة الفرنسية على غرار ما حصل في ولايات رئاسية سابقة حين اضطر الرئيس إلى تعيين شخصية من حزب خصم له. وحصل ذلك مرتين فقط في الجمهورية الخامسة، الأولى بين 1986 حتى 1988 حين عيّن فرانسوا ميتران الاشتراكي جاك شيراك اليميني رئيساً للحكومة، والثانية في 1997 حين أصبح ليونيل جوسبان الاشتراكي رئيسا لحكومة شيراك نفسه.
وفي هذه الحالة، سيضطر ماكرون لتذوق مرارة التعايش ليس مع حزب جمهوري على غرار ما حصل مع شيراك، وإنما مع حزب يميني متطرف لم يسبق له أن خبر شؤون الحكم وممارساته وهو مدفوع بهاجس الانقضاض على المؤسسات لصالح طروحاته المبنية على التفرقة والعنصرية والكراهية.
إلا أن هذه الفرضية تقترن بتكهنات لا تقل عنها سلبية، وتتمثل بعدم حصول "التجمع الوطني" أو سواه من القوى السياسية على غالبية تخوله تشكيل الحكومة، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام أزمة سياسية واسعة النطاق، تضع ماكرون في عزلة تامة تفقده أي سيطرة على زمام الأمور وتجعله رهينة للاجتهادات الدستورية للخروج من مأزقه.