انتخابات البرتغال: قضية فساد "المصافحة الذهبية" تحيي آمال اليمين المتطرف للتحول إلى بيضة قبان السياسة
أمام الحزب الاشتراكي البرتغالي، بزعامة رئيس الوزراء أنطونيو كوستا، في الانتخابات البرلمانية التي تنطلق في البرتغال غدا الأحد، لاختيار 230 برلمانيا، مهمة صعبة للاستمرار في الحكم. فالرئيس كوستا اختار الاستقالة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، على خلفية قضية فساد تسمى "المصافحة الذهبية" (تقديم رشوة تقدّر بنصف مليون يورو إلى طرف مقرب منه)، بالرغم من أنه شخصيا غير متهم في القضية.
وطوال 8 سنوات، قدم "الحزب الاشتراكي" (بارتيدو سوشياليستا- Partido Socialista (PS)) نفسه إلى الناخبين كحزب قادر على تحقيق نجاحات، مثل النمو الاقتصادي وزيادة التوظيف، حيث حصد في 2022 نحو 41 في المائة من الأصوات. تلك النتائج مكّنته من الحكم منفردا دون التحالفات مع اليسار الشيوعي. مع ذلك وجد أنطونيو كوستا نفسه وسط دوامة قضية فساد، وتأثير سلبي لركود الأجور وزيادة التضخم، ما سرّع إسدال الستار على فترة النجاحات.
ذلك على الأقل ما تقوله غالبية الاستطلاعات، وبينها ما نشرته صحيفة "ببليكو" الخميس الماضي. ويبدو من أرقامها أن معسكري يسار ويمين الوسط لن يحققا أغلبية مريحة. واللافت في هذه الاستطلاعات القفزة الكبيرة التي يحققها اليمين المتشدد في حزب "تشيغا" (وتعني ترجمته إلى العربية "كفاية")، المتوقع له التحول إلى "بيضة قبان" الانتخابات. فالحزب الذي تأسس في 2019 يتوقع له تحقيق أفضل نتيجة منذ انتهاء الديكتاتورية العسكرية في أواسط سبعينيات القرن الماضي.
فهذه المرة، وبعد نحو 50 سنة من إلغاء الديكتاتورية اليمينية في لشبونة، تُكسر قاعدة ثنائية التنافس بين كتلتي يسار ويسار وسط ويمين ويمين وسط من خلال تقدم "تشيغا". وسيتعين على معسكر اليمين التقليدي مواجهة معضلة ما إذا كان سينهي تابو الاعتماد على برلمانيي اليمين المتشدد (تشيغا). وبالطبع ترغب كتلة اليمين في الوصول إلى الحكم بعد خسارته في 2015، لكن هذا سيتطلب دعما من "تشيغا"، ومن حزب "المبادرة الليبرالية".
إذاً، تساوي كتلتي السياسة في الانتخابات الحالية يثير قلقا. فيصبح من غير المعروف كيف ستتصرف كتلة اليمين مع مقاعد تشيغا، كما كتبت على "إكس" (تويتر سابقا)، مديرة قسم العلوم الاجتماعية في جامعة لشبونة، مارينا كوستا لوبو. وأبرزت لوبو موقف يمين الوسط الرافض مجددا التعاون مع اليمين المتطرف، ما يخلق معضلة في "تحول شيغا إلى صانع الملوك".
وتشير الاستطلاعات التي نشرتها الجمعة الماضية صحيفة "كوريو دا مانها"، إلى تراجع "الاشتراكي" من نحو 41 في المائة إلى حوالي 29 في المائة. وفي المقابل، فإن حزب "تشيغا" ربما يتجاوز 19 في المائة من أصوات الناخبين، أي أكثر من ضعف ما حققه في انتخابات 2022، كانت نتيجته 7 في المائة، وفي 2019 لم يحقق سوى 1.3 في المائة من الأصوات.
أما يمين الوسط، وفي معادلة ثنائية حكم إما يسار الوسط أو يمين الوسط، في حزب "الديمقراطي الاجتماعي"، ( بارتيدو سوسيال ديموكراتا-PSD، المصنف على معسكر الليبرالي المحافظ)، فمنحته الاستطلاعات نحو 26 في المائة، بتراجع نقطتين تقريبا عن الانتخابات السابقة (27.8 في المائة و77 مقعدا).
ومن الواضح وفق الاستطلاعات يوم أمس السبت، أن "التحالف الديمقراطي" (يمين الوسط) الذي يجمع "الديمقراطي الاجتماعي" و"حزب الشعب" ومجموعات انتخابية صغيرة، لن يستطيع تجاوز الـ34 في المائة، ما يجعله بحاجة لأصوات "تشيغا".
ومع ذلك، أصر حتى الساعات الأخيرة زعيم اليمين البرجوازي، لويس مونتينيغرو، على رفض التعاون مع "تشيغا"، الذي تعتبر عودته بقوة وكأن البرتغال تعيش "ردة سياسية" إلى ما كان قائما قبل "ثورة القرنفل"، التي أنهت تسلط الديكتاتورية اليمينية على مقاليد الحكم. وكانت تلك الثورة (25 إبريل/نيسان 1974) على يد ضباط معارضين للديكتاتورية، وبمشاركة المجتمع المدني، رفضت بالمطلق العقلية الاستعمارية البرتغالية في العالم الثالث، وأطاحت بنظام حكم "إستادو نوفو"، أو "الدولة الجديدة"، السلطوية والمستمرة منذ 1933، متخلصة نهائيا من حقبة أنطونيو دي أوليفيرا سالازار، وناقلة البرتغال إلى الديمقراطية. ومعظم الحكومات البرتغالية بعد 1974 كانت تنبذ الديكتاتورية واليمين القومي المتشدد، وتؤكد رفض أن تكون البلد قوة استعمارية.
المحرج الآن هو أن حزب "تشيغا" يمثل ذلك الوجه القبيح الذي رفضته الساحة السياسية في لشبونة على مدار العقود الماضية. فهذا التيار يقوم، شأنه شأن رفاقه الأوروبيين، على بث كراهية الأجانب وتطبيع العنصرية والتمييز، مع الكثير من الديماغوجيا.
حاول زعيم "تشيغا" أندريه فينتورا، تقديم حزبه على أنه "يتحدث عن القضايا التي تهم الناس"، لتطبيع مكانته في المجتمع. ومع أنه حاول جعل مسافة بينه وبين الأحزاب القومية المتشددة في أوروبا، لكنه سرعان ما كشف عن حقيقته (كالآخرين في القارة الأوروبية)، حين ظهر في حملته الانتخابية رفقة زعيم حزب "بوكس" (فوكس) اليميني المتشدد الإسباني، سانتياغو أباسكال. ولم يعد يتحرج كثيرا من علاقته والانتماء إلى الأحزاب القومية المتشددة في أوروبا، مثل علاقته بالهولندي المتطرف، خيرت فيلدزر، والفرنسية مارين لوبين، والأحزاب الشعبوية والقومية المتشددة في دول إسكندنافيا وعموم أوروبا.
تحركاته الأخيرة لتأكيد الانتماء إلى ذات المعسكر الأوروبي هدفها ذاته عند مكونات هذا المعسكر، وذلك لإشعار الناخبين والطبقة السياسية عموما بأنه "ليس منعزلا"، بل لاعتبار تقدمه مرتبطا بتقدم أحزاب التشدد الأخرى على مستوى القارة.
فينتورا، القادم من العمل كمعلق رياضي، إلى عالم السياسة، عرف من خلال خطاباته ضد الغجر. وفي برنامجه الانتخابي لم يتردد في طرح أفكاره، مثل العودة إلى عقوبة الإعدام والإخصاء الكيميائي لمرتكبي الاغتصاب ووقف الهجرة السرية. وكغيره أوروبيا يعتبر نفسه "مدافعا عن البرتغال وأوروبا"، وبأنه في مهمة إلهية، حيث ردد في الحملة الانتخابية ما ظل يكرره منذ 2020: "لقد عهد إليّ الله بمهمة صعبة ولكن مشرفة لتحويل البرتغال"، مدغدغا مشاعر التدين الكاثوليكي، بتصويرها أنها مهددة من "المهاجرين غير الشرعيين".
وكإخوته في السويد وألمانيا وفرنسا، لا يتردد حزب "تشيغا" في تقديم نفسه على صورة "شهيد الشيطنة"، متهماً وسائل الإعلام بشيطنته، وأنه لا يجوز تهميش معسكره أو عدم منحه موطئ قدم في السياسة. ومثل هذا الأمر أدى في دول أخرى إلى تراجع الطبقة السياسية التقليدية عن فكرة عدم منح اليمين المتشدد موطئ قدم، كما جرى على سبيل المثال في النمسا وإيطاليا والسويد وفنلندا، وهو ما يجري التمهيد له في هولندا وألمانيا، وغيرها من الدول التي تشهد تقدم معسكر اليمين القومي المتشدد.