كشفت مصادر دبلوماسية غربية في القاهرة عن إجراء بعض السفارات الأوروبية اتصالات مع وزارة الخارجية المصرية، للإعراب عن قلقها جراء متابعة التعامل الأمني مع التظاهرات الشعبية الأخيرة. وكانت الاحتجاجات قد اندلعت في مناطق ريفية وحضرية متفرقة على مستوى الجمهورية خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، تخللها مقتل مواطن بقرية العوامية في الأقصر، في ظروف تؤكد عدم قدرة النظام المصري على الحد من جموح وسوء تصرف قوات الشرطة تجاه المواطنين، وتكرّس استغلال النظام للآلة الأمنية للبطش والتخويف.
وذكرت المصادر، والتي شاركت في الاتصالات السياسية بهذا الشأن، لـ"العربي الجديد"، أنه على الرغم من عدم إعلان مواقف أو بيانات من السفارات التي تابعت عن كثب هذه التطورات الميدانية في المشهد السياسي المصري، إلا أنها أصرت على إجراء تلك الاتصالات بالتنسيق مع عواصمها. وأشارت إلى أن السفارات تابعت محاولة النظام عدم الاعتراف بالطبيعة الشعبية الواسعة والمعارضة للحراك الجماهيري الأخير، ومحاولة تصويره باعتباره تظاهرات فئوية شهدتها بعض المناطق وحسب. وهو ما كان أيضاً العنوان الأبرز في ردود الخارجية المصرية خلال الاتصالات.
السجل السلبي للأجهزة الأمنية في عهد السيسي لا يمكن إغلاقه بأي ذريعة
وأوضحت المصادر أن السفارات أعربت عن قلقها بسبب ارتفاع عدد المواطنين المعتقلين على خلفية الأحداث، سواء خلال مشاركتهم في التظاهرات أو في إطار الحملات الأمنية للتخويف والحد من اتساع الحراك الشعبي. كذلك انتقدت بشدة استمرار حبس عشرات النشطاء السياسيين والحقوقيين، ممن تم اعتقالهم قبيل وعقب أحداث 20 سبتمبر 2019. وأبرزهم المتهمون في القضية المعروفة بـ"مجموعة الأمل"، الذين كانوا يحاولون التنسيق للمشاركة في انتخابات مجلس النواب (تبدأ المرحلة الأولى من 21 إلى 23 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي للمصريين في الخارج، و24 و25 أكتوبر للداخل)، ومنعتهم السلطات من حقهم السياسي باعتقالهم.
وأشارت المصادر إلى أن بعض الاتصالات التي جرت تمّت بتنسيق بين بضع عواصم، لتأكيد استمرار اهتمامها جماعياً بأوضاع حقوق الإنسان في مصر. وهو ما طرح تساؤلاً عن احتمالات تطور الموقف على المستوى السياسي أو الاقتصادي، غير أن المصادر استبعدت ذلك حالياً، في ظل ارتفاع وتيرة التعاون الاقتصادي والعسكري بين القاهرة وجميع العواصم الغربية الرئيسية. لكنها في المقابل، أشارت إلى وجود نقاشات في عواصم أوروبية مختلفة كبرلين وروما، لمراجعة مستوى التعامل الأمني مع الأجهزة المصرية والتنسيق في مجالات التدريب والمنح والمساعدات المالية واللوجستية، باعتباره من الملفات التي يجب أن تظهر فيها العواصم الأوروبية سلوكاً مغايراً لما تبديه في ملفات التعاون العسكري والاستثمار.
وشرحت المصادر ذلك بأن السجل السلبي للأجهزة الأمنية في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي لا يمكن إغلاقه بأي ذريعة، فهناك العديد من القضايا العالقة التي لم تحل حتى الآن كقضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، واعتقال مجموعات كبيرة من الحقوقيين واستمرار قتل المواطنين وتصاعد حملات الاعتقال بين الحين والآخر. وكشفت أنّ الدوائر الأمنية الأوروبية لاحظت خلال الأشهر الأخيرة تراخياً مصرياً من دون مقدمات في أحد الملفات، التي كانت القاهرة تسوّق على نطاق واسع قدرتها المطلقة على إدارته، وهو الخاص بالهجرة غير النظامية وضبط الحدود المصرية والسواحل المشتركة مع ليبيا. فقد بدأت تظهر موجات جديدة من راغبي الهجرة بصورة غير نظامية آتين من السواحل المصرية. وهو ما يفسره بعض الأوروبيين على أنه محاولة مصرية للتخويف والحصول على دعم مالي أكبر، بعد تعثر حصول النظام، قبل انشغال العالم بفيروس كورونا، على تمويل كبير لفعاليات مختلفة في القاهرة لتدريب الدول الأفريقية على الطرق الحديثة للتصدي لظاهرة الهجرة والتعامل الأمني والقانوني والإعلامي والاجتماعي مع ضحايا تلك الظاهرة. مع العلم أن الخطط المصرية تأتي في سياق رغبة السيسي في الاحتفاظ بصورة نظامه كمدافع عن استقرار أوروبا، بعدما تراجع الترويج للخطة الأوروبية التي كانت تطرحها حكومة النمسا ودوائر مختلفة بألمانيا وإيطاليا وفرنسا، لإقامة مراكز في مصر لتجميع ضحايا الهجرة غير النظامية واللاجئين الأفارقة غير المقبولين وإعادة تأهيلهم وإعادتهم إلى بلدانهم، على غرار المراكز القائمة في تركيا.
وسبق للقاهرة أن استضافت مشروعاً لتأهيل الشرطة وقوات الأمن الأفريقية لمواجهة الهجرة غير النظامية، بتمويل مادي وفني وتدريبي مباشر من الحكومة الإيطالية، استمر من ربيع عام 2018 وحتى خريف العام الماضي. مع العلم أنه كان أحد صور التعاون الأمني "غير المعلن" بين البلدين، رغم توتر العلاقات الأمنية والقضائية وحتى السياسية، على خلفية المماطلة والتسويف وادعاء التعاون من قبل النيابة العامة المصرية مع روما في قضية ريجيني. وتضمنّ التدريب 6 حصص سنوية، أسبوعان لكل حصة في أكاديمية الشرطة بالقاهرة الجديدة، واستفادت منه أكثر من 20 دولة أفريقية، وسوّقت مصر له باعتباره إحدى ثمار رئاستها للاتحاد الأفريقي (2019 ـ 2020).
وكان التعاون قد بدأ في عهد وزير الداخلية الإيطالي الأسبق ماركو مينيتي، الذي كان، رغم خلفيته الاشتراكية، أحد أكثر السياسيين الإيطاليين حرصاً على الاستثمار في العلاقة مع السيسي لوقف الهجرة غير النظامية. في الوقت نفسه كان من الممكن أن يتم وقف هذا التعاون في أي لحظة، بسبب الرفض البرلماني الواسع في إيطاليا تخصيص ميزانية لهذا التدريب، في ظل الملاحظات الحقوقية المتتالية على نظام السيسي. لكن وزير الداخلية الإيطالي السابق اليميني المتشدد ماتيو سالفيني، الذي كان على صلة قريبة بالسيسي، دافع عن الاستمرار في هذا المشروع حتى خروجه من الحكومة في سبتمبر/ أيلول 2019.
تتراخى مصر في ملف الهجرة غير النظامية بحسب السفارات الأوروبية
وقد تعثرت أخيراً مساعي القاهرة لتجديد هذا التعاون وأنشطة مشابهة مع عواصم أخرى في العالم الحالي، ليس بسبب كورونا وانخفاض مستوى المساعدات المالية الأوروبية المخصصة لدول المنطقة فقط، بل أيضاً بفعل دفع دوائر يسارية في العواصم الأوروبية الكبرى لوقف التنسيق الأمني مع النظام المصري. حتى إن بعض العواصم افتقدت الحماسة إزاء مشاركة السيسي في أنشطة اجتماعية ذات صلة بملف الهجرة غير النظامية. فقد كشفت مصادر مطلعة أن النظام فشل في اجتذاب تمويل أوروبي لمشروع كان يعدّ لتحضيره تحت مظلة منتدى الشباب السنوي، الذي تديره المخابرات العامة، لرفع كفاءة الحكومات الأفريقية في التعامل مع مشاكل الشباب، وعلى رأسها البطالة، من خلال تحفيز إقامة مشروعات صغيرة وإدارتها ودعمها مالياً من قبل الحكومات. ويعتبر السيسي أن التجربة المصرية في دعم هذه المشروعات منذ عام 2014 "رائدة ويجب نقلها للدول الأفريقية، وذلك بدعم من الأطراف الأوروبية، بحجة أن رفع كفاءة القارة في هذا المجال سيسهم في الحد من أنشطة الهجرة غير النظامية".
وكانت وكالات الدعم والمساعدات الأوروبية قد سجّلت ملاحظات عدة، بشأن تراجع كفاءة استغلال القروض والمنح التمويلية السابق تخصيصها لأغراض اجتماعية وثقافية للحكومة المصرية في السنوات الثلاث الأخيرة. وبالتوازي ساءت أوضاع العمل الخيري والاجتماعي والدراسي الألماني الرسمي في مصر، وتقلّصت المساحة المتاحة أمام الجهات الرسمية للرقابة على كيفية الإدارة والإنفاق أو مباشرة ذلك، بواسطة مؤسسات تابعة لها أو متعاقدة معها.
وفي فبراير/ شباط الماضي أجرت سفارات أوروبية اتصالات تنسيقية لاتخاذ خطوات "موحدة وجادة"، في سياق الضغط على النظام المصري لتحسين أوضاع حقوق الإنسان على خلفية أحداث عدة، من بينها اعتقال الباحث بجامعة بولونيا الإيطالية باتريك جورج. كذلك راقبت السفارات التوسع في ظاهرة تدوير القضايا، عبر استحداث قضايا بوقائع واهية وغير منطقية، لاستمرار حبس النشطاء السياسيين والمعارضين لفترات أطول مما ينصّ عليه القانون، كما حدث مع رئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح ونائبه محمد القصاص وقتها. وحينها رُفض طلب السفارة الألمانية بالقاهرة من الجهات الدبلوماسية والقضائية والأمنية الاطلاع على مجريات التحقيق مع عدد من الحقوقيين والسياسيين المصريين الذين تم اعتقالهم العام الماضي، وعدم جدوى اللقاء الذي جمع بين السفير الألماني سيريل نون ووزير العدل عمر مروان في هذا الصدد.