استمع إلى الملخص
- **اشتراطات النظام السوري وضغوط روسيا**: النظام السوري يطالب بانسحاب القوات التركية ووقف دعم المعارضة، ويواجه ضغوطاً روسية للتقارب مع تركيا، لكنه غير قادر على تقديم تنازلات بسبب الضغوط الإيرانية.
- **الدوافع التركية للتقارب مع النظام السوري**: تركيا تسعى لمواجهة الهواجس الأمنية المتعلقة بالتنظيم الكردي، وتعزيز علاقاتها مع روسيا، وكسب غطاء شرعي لوجودها العسكري في سوريا، رغم دعمها المعلن للمعارضة السورية.
يوحي سلوك النظام السوري حيال المبادرات التركية المتكررة للتقارب معه بأنه يحاول عرقلة هذه المبادرات بكل السبل المتاحة، اعتقاداً منه أن محصلة هذا التقارب مع تركيا لن تصب في مصلحته، وقد تكون مدخلاً إلى نهاية حكمه، وفق التطورات التي قد ترافقها في وقت لاحق. وفي إطار هذه العرقلة كما يبدو، استهدفت قوات النظام السوري أمس الجمعة بخمس طائرات مسيّرة انتحارية، النقطة العسكرية التركية في قرية الصالحية والنقطة الأخرى في بلدة سرمين. كما استهدفت مسيّرات أخرى محيط بلدة سرمين، ما أدى إلى تضرر سيارات مدنية وآليات زراعية للمدنيين، من دون ورود معلومات عن خسائر بشرية، فيما أسقطت القوات التركية إحدى المسيّرات بعد استهدافها بالرشاشات.
وتتعرض المواقع التركية في سورية منذ أيام لاستهدافات مماثلة من جانب قوات النظام، خاصة في مناطق شرقي إدلب، حيث تنتشر المليشيات الإيرانية التي تقاتل إلى جانب قوات النظام. وتعرضت أول من أمس الخميس دورية تابعة للقوات التركية لاستهداف مباشر بقذيفة مدفعية ورشقات بالرشاشات الثقيلة، مصدرها مناطق سيطرة قوات النظام والمليشيات الإيرانية خلال تنقلها بين بلدتي النيرب وسرمين. كما استهدفت طائرة مُسيّرة انتحارية يوم الأربعاء الماضي، بوابة النقطة العسكرية التركية في قرية "كدورة" القريبة من بلدة دير سنبل في ريف إدلب الجنوبي، فيما استهدفت طائرتان مسيرتان انتحاريتان إيرانيتا الصنع الثلاثاء الماضي نقطة عسكرية تركية في منطقة النيرب جنوب شرق إدلب، ما أسفر عن احتراق خزانات وقود وتضرر آلية للجيش التركي، وإصابة جنود.
التقارب مع تركيا واشتراطات النظام
إلى جانب هذه التحرشات غير المعتادة بالقوات التركية من جانب قوات النظام، والمليشيات الإيرانية المنتشرة معها خاصة، يتمسك النظام السوري باشتراطاته القديمة بشأن التقارب مع تركيا، وفي مقدمتها انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وتوقف أنقرة عن دعم فصائل المعارضة السورية (الجيش الوطني)، برغم الليونة النسبية في خطاب النظام حيال تركيا، والتي جاءت بضغط روسي، كما هو واضح.
بلغ الضغط الروسي على النظام ذروته بزيارة الأسد إلى موسكو
وبلغ الضغط الروسي ذروته من خلال زيارة رئيس النظام بشار الأسد إلى موسكو الأربعاء الماضي، وهي التي لم يعلن عنها حتى أول من أمس الخميس، وقال الجانبان إنها تناولت قضايا المنطقة والعلاقات الثنائية، غير أن حقيقة أهداف الزيارة، يرجح أن تتصل مباشرة بالجهود الروسية لدفع التقارب بين أنقرة ودمشق، وصولاً إلى ترتيب لقاء بين الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، برغم أن النظام السوري قال عبر وسائل إعلامه الرسمية، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يطلب من الأسد الاجتماع مع أردوغان.
ورأى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن النظام السوري "غير قادر على تقديم أي شيء لأي طرف، لأن ذلك يشكل خطراً كبيراً على بنيته"، مشيراً إلى التجربة المماثلة لمحاولات التقارب العربي مع النظام، حيث قدمت الدول العربية بعض الطلبات له مقابل هذا التقارب، لكنه لم يستجب لأي منها.
وأعرب علوان عن اعتقاده بأن النظام غير قادر أيضاً على الاستجابة للمطالب التركية، حتى البسيطة منها، مثل فتح معبر أبو الزندين في الشمال السوري. وقال: "من يعيق فتح المعبر ليس تركيا أو المعارضة السورية، لأن فتحه يشكل اعترافاً من النظام بالوجود التركي، وهذا لا يستطيع تقديمه بسبب الضغط الإيراني الذي يمنعه من تقديم أي شرعنة أو تفاعل إيجابي مع الوجود التركي في سورية، خاصة المطلب التركي المتعلق بتعديل اتفاقية أضنة لعام 1998". وتتيح الاتفاقية للقوات التركية التوغل مسافة خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية لملاحقة المسلحين الأكراد، وتريد تركيا تعديلها لتصل إلى عمق أكثر من 30 كيلومتراً على طول الحدود المشتركة بين الجانبين والتي تصل الى نحو 800 كيلومتر.
وتابع علوان: "لذلك فإن النظام اليوم لا يقبل فتح المعابر ولا يقبل التقارب مع تركيا والتطبيع معها من دون جدولة الانسحاب التركي، وهو غير قادر على مواجهة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرق سورية بسبب حمايتها من الولايات المتحدة، ولن يكون جاداً في محاربة قسد، ولا في استقبال اللاجئين السوريين من تركيا، لذلك يُحجم عن الاستجابة إلى مبادرات التقارب مع تركيا في الوقت الحالي"، مشيراً إلى أن روسيا تدرك مخاوف النظام، لكنها تريد تحقيق مكاسب سياسية وقتية من رعايتها لهذا التقارب بين النظام وتركيا.
من جانبه، رأى الباحث في مركز جسور رشيد حوراني، في حديث مع "العربي الجديد"، أن النظام يعرقل التقارب مع تركيا بدفع من إيران، مشيراً إلى أن إيران "أبدت تخوفها من توسع النفوذ التركي في سورية منذ عملية غصن الزيتون (مارس/آذار 2018)، ويدرك النظام أن إيران أكثر ثباتاً من روسيا في ما يتعلق بمسألة رئاسة الجمهورية وأن يكون بشار الأسد على رأسها، وهذه النقطة إحدى النقاط الخلافية بين روسيا وإيران منذ التدخل العسكري الروسي في سورية".
وأضاف حوراني أن النظام يتخوف أيضاً من أن يقوده التقارب مع تركيا بضغط روسي إلى تعديل اتفاقية أضنة والسماح لتركيا بالدخول بعمق 30 كيلومتراً في الأراضي السورية، وهو ما يشرعن بالتالي تدخلها في سورية، وليس بإمكانه لاحقاً العمل على إخراجها سواء عسكرياً، بسبب تداعي قواته، ولا سياسياً.
الدوافع التركية
أما عن الدوافع التركية للتقارب مع النظام، فهي ترتبط كما يبدو بتراجع حضور الملف السوري على الساحة الدولية بعد 13 سنة من الصراع، وبروز أزمات أخرى أكثر سخونة، ما ترك أنقرة وحيدة غارقة في رمال الأزمة السورية، وباتت تبحث عن حلول، حتى لو وصل الأمر إلى التخلي عن سياستها السابقة التي كانت تعتبر الأسد ديكتاتوراً ومجرم حرب.
هشام غوناي: تركيا تخشى من امتداد الانقسام السوري إلى الداخل التركي
وقال الباحث التركي هشام غوناي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الدافع الأهم هو "الهواجس الأمنية التركية، حيث هناك تنظيم كردي مسلح، أسّس كينونة له في شرق سورية، ويسعى إلى تأسيس دولة منفصلة". وبرأيه، فإن تركيا "تخشى امتداد هذا الانقسام السوري إلى الداخل التركي، وهو ما يجعل التقارب ضرورة من وجهة نظر تركية لمواجهة هذه المخاطر، خاصة مع اتجاه العديد من دول المنطقة والعالم إلى التطبيع مع نظام الأسد، أو على الأقل التعامل معه أمراً واقعاً".
ويتعلق الدافع الآخر بسياسة الولايات المتحدة المعادية نوعاً ما لتركيا، خاصة في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن الذي لم يزر تركيا طيلة عهده، وهو ما دفع أنقرة إلى تعزيز علاقاتها مع روسيا في العلاقات الثنائية أو القضايا الإقليمية، وفي مقدمتها الوضع في سورية. أما الدافع الثالث، فهو يتعلق وفق غوناي، بتغيير أساسي في السياسة الخارجية التركية التي كانت تدعم المعارضة في بعض بلدان الربيع العربي مثل تونس ومصر وسورية، وأدى فشل الربيع العربي في هذه البلدان إلى دفع أنقرة لتغيير سياستها والتقارب مع الأنظمة في الدول التي كانت تدعم المعارضة فيها، وهو ما ينسحب أيضاً على الوضع في سورية.
وفضلاً عن هذه الدوافع، رأى مراقبون أن تركيا تسعى إلى كسب غطاء شرعي لوجودها العسكري من خلال التنسيق مع النظام السوري في حال قرّرت تنفيذ عملية ضد "قسد" التي تسيطر على أبرز الثروات المحلية في شرق البلاد، خاصة النفط والغاز والقمح والقطن. وتسعى تركيا كما يبدو إلى محاكاة نموذج الاتفاقية الأمنية مع العراق، التي أدّت إلى تصنيف بغداد حزب العمال الكردستاني على أنه كيان "إرهابي"، ومنع التنظيم من شن هجمات ضد تركيا انطلاقاً من الأراضي العراقية.
غير أن المعضلة التي تواجهها تركيا في حال حصول تقدم فعلي في جهود التقارب مع نظام الأسد، هي كيفية مواءمة سياستها الجديدة مع دعمها المعلن للمعارضة السورية، التي تسيطر على نحو 10% من مساحة سورية شمالي البلاد. وبعد موجة احتجاجات شعبية ضد هذه المساعي في تلك المناطق، قدمت تركيا تطمينات إلى المعارضة والمجتمع المحلي في الشمال السوري بأن هذا التقارب لن يكون على حسابهم، وأنها ما زالت ملتزمة بضرورة أن يكون حل القضية السورية وفقاً للقرار الدولي 2254، الذي يتضمّن العودة الآمنة للاجئين، وتشكيل حكومة انتقالية يشارك فيها النظام والمعارضة، وهذه مقاربة من غير الواضح مدة واقعيتها، ومدة قدرة أنقرة على الالتزام بها.