منذ إنشائها قبل نحو 200 سنة، مرت العاصمة السودانية الخرطوم بمراحل عصيبة من الحرب والعنف، لكن الاشتباكات الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع هي الأصعب في تاريخها الحديث.
وكانت الخرطوم الواقعة على ملتقى النيلين، الأزرق والأبيض، عبارة عن عدد قليل من الأحياء وأكواخ الصيادين، إلا أن خورشيد باشا وهو أحد القادة الأتراك الذين حكموا السودان (1820- 1885) حولّها في العام 1824 إلى عاصمة للدولة عوضاً عن مدينة ود مدني، وسط السودان، وبُنيت فيها سرايا الحاكم العامر "القصر الرئاسي حالياً" وثكنات الجيش، واهتم بتطوير نهضتها العمرانية. ومنذ ذلك الحين، تمددت وتوسعت المدينة، فصارت اليوم أكبر المدن السودانية من حيث المساحة والسكان، الذين فاق عددهم 10 ملايين نسمة.
وللخرطوم تاريخ طويل، مع العنف والحروب، حيث اقتحمها في 26 يناير/كانون الثاني 1885 الإمام محمد أحمد المهدي، قائد الثورة السودانية ضد الحكم التركي المصري، وحررها مع بقية أنحاء السودان. وفي الأيام الأولى من التحرير، تعرضت العاصمة لمجازر وصلت فيها أعداد القتلى للآلاف، من بينهم شيوخ دين كانوا قد وقفوا إلى جانب الحكم التركي المصري وأقليات دينية، وموظفو الدولة عدا الجنود الأتراك والمصريين، قبل أن ينقل المهدي العاصمة إلى مدينة أم درمان، ويطلق عليها تسمية العاصمة الوطنية.
وعادت الخرطوم عاصمة مرة أخرى بعد مجيء الاستعمار الإنكليزي المصري (1898-1956)، لكن دخول الإنكليز إلى الخرطوم من بوابة أم درمان صاحبته مجزرة تاريخية قتل فيها أكثر من 10 آلاف من أنصار الإمام المهدي في موقعة كرري، شمال أم درمان.
وقبل استقلال السودان بعامين، تحديداً في مارس/آذار 1954، زار الرئيس المصري محمد نجيب، الخرطوم، وقوبلت زيارته باحتجاجات من طائفة الأنصار الرافعين لشعار استقلال السودان والرافضين لمقترح الوحدة مع مصر، فخرجوا إلى الشوارع يحملون الأسلحة البيضاء، واقتحموا مقر وزارة الداخلية وجرى المزيد من أعمال العنف وقتل نحو 30 شخصاً وأصدر الاستعمار حكماً بإعدام عدد من المحتجين، لكنه عاد وألغى الحكم.
وفي مرحلة ما بعد الاستقلال 1956، عاشت الخرطوم في أمن، وعُدت واحدة من أكثر العواصم العربية والأفريقية أمنا، لكن يوم السادس من ديسمبر/كانون الأول 1964، وهو ما عُرف تاريخياً بـ"الأحد الدامي"، نسبة لحجم الدماء التي سالت في ذلك اليوم من السودانيين، وفيه تجمعت حشود من مواطني جنوب السودان لاستقبال وزير الداخلية وقتها، كلمنت أمبورو، بمطار الخرطوم، بعد جولة واسعة له في الأقاليم الجنوبية، تأخر هبوط طائرة الوزير، فظنها المحتشدون مؤامرة من أبناء الشمال، فبدأت أعمال عنف واسعة واشتباكات بين الشماليين والجنوبيين سقط نتيجتها مئات القتلى من الطرفين.
وفي 25 مايو/أيار1969، وقع انقلاب عسكري نظمه (تنظيم الضباط الأحرار)، الذي يجمع قوى يسارية متعددة، من بينها الحزب الشيوعي السوداني، وقاده العقيد جعفر محمد نميري، وبعد نحو عام من الانقلاب، وقعت ما عرفت بأحداث ودنوباوي والجزيرة أبا بين نظام نميري وجماعة أنصار المهدي وحزب الأمة.
وفي ودنوباوي، وهو واحد من أعرق أحياء مدينة أم درمان، قصف نظام جعفر نميري مسجد الأنصار في 29 مارس/آذار 1970 بالتزامن مع قصف مدينة الجزيرة أبا بولاية النيل الأبيض، التي تعد من أكبر معاقل الأنصار في السودان. وفي كلتا الواقعتين بلغ إجمالي الضحايا حوالي ألف شخص، منهم نحو 250 في مسجد ودنوباوي، بينما قتل الإمام الهادي، حفيد الإمام المهدي، على الحدود السودانية الإثيوبية.
ولم يدم شهر العسل بين الرئيس نميري والحزب الشيوعي طويلاً، فبعد سنتين وقع انقلاب عسكري في 19 يوليو/تموز 1971، اتهم نميري الحزب بتدبيره، وتمكن الانقلابيون، بقيادة الرائد هاشم العطا، من حكم البلاد لمدة 3 أيام فقط بمزاعم "الثورة التصحيحية" لانقلاب جعفر نميري. وقبل أن يستعيد نميري السيطرة، أثناء تلك الأحداث، وقعت مجزرة في بيت الضيافة بالخرطوم، قتل فيها أكثر من 30 ضابطاً اعتقلهم الانقلاب، وردّ نميري بعد ذلك بمحاصرة بيت الضيافة، وإنهاء الانقلاب.
ولاحقاً، نفذ نظام نميري قرارات محاكم عسكرية بإعدام عدد من القادة السياسيين، أبرزهم زعيم الحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب، والقيادي النقابي بالحزب الشفيع أحمد الشيخ، وعضو اللجنة المركزية جوزيف قرنق. وفي 5 سبتمبر/ أيلول 1975، وقعت محاولة انقلاب عسكرية ثانية بقيادة المقدم حسن حسين عثمان، لكن أحداث العنف هذه لم تكن كسابقتها، فيما جرت محاكمات عسكرية أفضت لإعدام قائد الانقلاب وآخرين.
وفي 2 يوليو/تموز 1976، نفذت الجبهة الوطنية المكونة من عدد من الأحزاب المناوئة لنظام الرئيس نميري مثل حزب الأمة والإخوان المسلمين والحزب الاتحادي الديمقراطي، هجوماً عبر الصحراء، على العاصمة الخرطوم بعد معارك بعدة مواقع، أشهرها دار الهاتف ووادي سيدنا وسلاح المدرعات والإذاعة والتلفزيون، وبعد 3 أيام أجهضت المحاولة، واتهم نميري نظام الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بدعمها وتبنيها، وكانت حصيلة الهجوم ضحايا كثراً من المدنيين والعسكريين وإعدامات لعدد من المشاركين فيه، منهم قائد العملية العسكرية محمد نور سعد.
وبعد مجيء نظام الرئيس عمر البشير عام 1989، واجه في بدايته عددا من الانقلابات العسكرية الفاشلة، منها انقلاب 23 إبريل/نيسان 1990، حيث سيطرت مجموعة من الضباط على وحدات عسكرية منها سلاح المدرعات ومطار الخرطوم، لكن المحاولة لم تكمل دورة نجاحها، وانتهت بإعدام 28 ضابطاً برتب مختلفة، وذلك بعد يوم واحد من محاولتهم. ومن الأسرار الأخيرة التي تكشّفت عنها، ما ذكره قائد الجيش الحالي، الجنرال عبد الفتاح البرهان، في إحدى المقابلات الصحافية، بأنه كان واحداً من الضباط المشاركين فيها، لكن نظام البشير لم يكشف أمره.
وفي الثاني من أغسطس/آب 2005، لقي زعيم الحركة الشعبية جون قرنق مصرعه بسقوط طائرة بجنوب السودان بعد نحو 22 يوماً من تعيينه في المنصب الحكومي بموجب اتفاق سلام بين الشمال والجنوب، لتندلع مباشرة بعد إعلان وفاته أعمال شغب وقتل استمرت لمدة يومين، وأحدثت توتراً واسعاً في الخرطوم بين الشماليين والجنوبيين، ما قاد لسقوط عشرات القتلى ومئات المصابين.
وفي العاشر من مايو/أيار 2008، قادت حركة العدل والمساواة المتمردة على نظام البشير هجوماً على الخرطوم باسم "الذراع الطويلة" انطلق من إقليم دارفور، غرب السودان، هدفه الإطاحة بنظام الحكم، ووصلت قوات الحركة إلى مدينة أم درمان، وجرت معركة فاصلة بين الطرفين بالقرب من جسر الإنقاذ الرابط بين الخرطوم وأم درمان، وطويت الصفحة بعد مقتل عسكريين ومدنيين، فيما أصدرت المحاكم أحكاما بإعدام أعداد كبيرة من المشاركين في المعركة. وصدر قرار بالعفو عنهم في السنوات التالية، بينما نجا قائد الحركة خليل إبراهيم من الاعتقال، قبل أن يُقتل لاحقاً في هجوم بمنطقة "ود بنده" بإقليم كردفان في العام 2011 بصواريخ أطلقها الطيران السوداني على رتل من سيارات الحركة.
وفي سبتمبر/ أيلول 2013، شهدت العاصمة الخرطوم تظاهرات واسعة احتجاجاً على قرار نظام الرئيس السابق عمر البشير تحرير أسعار الخبز والوقود؛ فتعامل معها النظام بعنف مفرط أدى لمصرع أكثر من 200 شخص بما يصنَّف تحت عنف الدولة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، اندلعت شرارة احتجاجات جديدة انتهت بسقوط نظام البشير في 11 إبريل/نيسان 2019 وحصد عنف الدولة نفسه نحو 90 شخصاً من المحتجين.
وبعد تسلم المجلس العسكري بقيادة عبد الفتاح البرهان زمام السلطة من نظام البشير، حصدت الآلة العسكرية مرة أخرى، في عملية فض اعتصام محيط قيادة الجيش في الثالث من يونيو/حزيران 2019 أعداداً من المعتصمين تختلف تقديراتهم ما بين 120 و500 شخص، إضافة لعدد آخر من المصابين والمفقودين.
وبعد انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو قائد الدعم السريع، في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، سقط أكثر من 125 شخصاً خلال التظاهرات المناهضة للانقلاب.
وأخيراً، اندلعت يوم السبت الماضي الموافق 15 إبريل/نيسان، مواجهات عسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع، ولم يتفرغ المقاتلون بعد لتجميع وحصر قتلاهم والقتلى المدنيين، والخسائر والخراب.