عاد المشهد السياسي الفلسطيني شهوراً طويلة للوراء، إلى مرحلة ما قبل هبّة القدس ومعركة سيفها، في تعبير عن القصور القيادي كما التجاهل المتعمد لدلالات الهبّة وتداعياتها على الساحة الفلسطينية.
للتذكير وقبل الهبّة "نيسان/ أبريل الماضي" كان المشهد قد عاد أيضاً إلى مربع الانقسام الأول مع إلغاء الرئيس محمود عباس مرسوم إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بذرائع واهية هرباً من هزيمة محققة له شخصياً ولحركة فتح المترهلة المنقسمة والمتشظية في الحقيقة.
كان عباس قد رسم بنفسه محددات وقواعد اللعبة الانتخابية بينما وافقت حركة حماس – وبقية الفصائل –مضطرة على أمل أن تفرز الانتخابات حيوية تنعكس إيجاباً على المشهد الفلسطيني برمته، وهو ما حصل فعلاً عبر إرهاصاتها وحملاتها الأولى، ودفع عباس لإلغائها منعا للتغيير بعدما سعى لانتخابات معلّبة تعيد إنتاج الواقع وإضفاء الشرعية على سلطته المترهلة والمتهاوية.
جاءت هبة القدس "ومعركة سيفها" حافلة بالدلالات وأهمها بالطبع تكريس وحدة الشعب الفلسطيني، وتجاوز الانقسامات السياسية والجغرافية بين الضفة الغربية وغزة والأراضي المحتلة عام 1967، وتلك التي احتلت عام 1948، ولا يقل أهمية عن ذلك تكريس المقاومة الشعبية كحقيقة واقعة ناجعة ومجدية بعيداً عن خلافات الفصائل حولها، والبيان الإنشائي والنظري الأول للقيادة الموحدة "الوهمية" الذي أعلنه عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عزام الأحمد.
من الدلالات المهمة أيضاً للهبة تكريس حقيقة انفصام القيادة في المقاطعة برام الله وعزلتها وعجزها عن تلمّس المزاج العام للشارع المنتفض، وبالتالي تأكيد الحاجة الملحة لانتخاب قيادة جديدة شرعية للشعب الفلسطيني.
بالتوازي مع العودة إلى أجواء ما قبل الهبّة، أي إلى مربع الانقسام والتباعد تجري محاولات إقليمية ودولية لتحجيم إنجازات ودلالات الهبّة – ومعركتها - عبر إنعاش وتنفس اصطناعي للقيادة المتهاوية وعلى مستويات عدة سياسية واقتصادية وأمنية، مع تأكيد الالتحاق الأميركي بالمنطق الإسرائيلي القائل بعدم توفر الظروف الملائمة أمام استئناف العملية السياسية والمفاوضات على أساس خيار حلّ الدولتين، وأن لا فرصة لأكثر من تحسين الظروف الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في الضفة وغزة على حد سواء حفاظاً على الواقع الراهن – تقليص الصراع - وفق خطة السلام الاقتصادي التقليدي لليمين المتطرف في إسرائيل.
لملء الفراغ وإعطاء الإحساس والانطباع بأن ثمة شيئا ما يحدث، يسعى الرئيس محمود عباس لإعادة الحياة إلى المنظومة غير المنتخبة المترهلة والميتة سريرياً، والتي تعتبر أحد أسباب وجذور أزمتنا عبر إعادة الاعتبار للجنة التنفيذية "المدجنة" لمنظمة التحرير بعد ابتزاز مادي موصوف وفجّ للفصائل المعارضة الرئيسية تحديداً الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين.
في السياق نفسه، يجري التحضير لعقد اجتماع للمجلس المركزي للمنظمة غير المنتخب أيضاً أوائل العام القادم بحجة نقاش الوضع الراهن وسبل الخروج منه، رغم أن المجلس نفسه كان قد وضع تصورات واتخذ قرارات بهذا الخصوص قبل أكثر من خمس سنوات تضمنت وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل بما في ذلك التنسيق الأمني، واتفاق باريس الاقتصادي، ولكنها بقيت حبراً على ورق أمام جمود وتحجّر القيادة في المقاطعة.
مساعي التذاكي والحيوية الوهمية تتضمن الدعوة لعقد مؤتمر عام لحركة فتح في مارس/ آذار العام القادم لإضفاء الشرعية على القيادة الحالية للحركة، وربما إجراء تغييرات شكلية وتجميلية دون محاسبة أو حتى مراجعة لأسباب تشظي الحركة وانقسامها إلى ثلاث قوائم انتخابية في أبريل الماضي.
المعطيات السابقة يؤكدها التوجه المبالغ فيه لاعتماد خطاب عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أيلول/ سبتمبر الماضي، كقاعدة للعمل الفلسطيني في المرحلة القادمة رغم أنه يمثل هروباً من مواجهة الوقائع والحقائق وتعبيراً عن الأزمة لا جزءًا من الحل ولا يتضمن أي خيارات جديدة وجدية وحتى لو فرضنا جدلاً أنه كذلك فلا يمكن تحقيق شيء بالمنظومة الهرمة المترهلة الفاسدة المستبدة وفاقدة الشرعية.
من جهة أخرى تسعى حركة حماس في غزة للعودة إلى مرحلة ما قبل هبّة نيسان ومعركة أيار، ولكن على طريقتها عبر إعادة الاعتبار لتفاهمات 2018 المتضمنة فتح المعابر وتخفيف الحصار وإدخال المنحة المالية القطرية ومواد البناء من أجل إعادة إعمار جزئية تعيد وصل غزة بمخزون الغذاء الإسرائيلي الإقليمي والدولي دون أن تعيدها إلى الحياة بشكل فعلي.
ثمة حضور قوي للنظام المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي في العملية كلها بما يشبه فرض الوصاية على غزة، وبما يمكن اعتباره أسوأ ما يجري الآن في المشهد الفلسطيني، إضافة إلى محاولة عباس إضفاء الشرعية على قيادته المتهاوية المرفوضة شعبياً.
في غزة أيضاً، إصرار جدّي ومحمود على صفقة تبادل أسرى مشرفة بالتوازي مع استمرار التهدئة السائدة حالياً، ما يبقى الأسئلة نفسها المطروحة وطنياً عن كيفية المضي قدماً في إدارة الصراع مع إسرائيل.
عموماً؛ تمثل الحلّ الجدي والفعّال فلسطينياً ولا يزال في المصالحة وإنهاء الانقسام عبر تشكيل حكومة من كفاءات وطنية تشرف على إجراء الانتخابات، وتفرز قيادة جديدة تعمل على إعادة بناء ديمقراطية ونزيهة لمنظمة التحرير، وتتبنى خيار المقاومة الشعبية الشاملة الذي أثبت جدواه.
غير أن الرئيس عباس للأسف يطرح شروطا تعجيزية للهرب من المصالحة واستحقاقاتها، بينما وصلت السوريالية والعبثية إلى حد تدخله – كما نشرت "العربي الجديد" السبت 16 تشرين الأول/ أكتوبر - لعرقلة الإفراج عن القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي ضمن صفقة تبادل أسرى محتملة بين المقاومة والاحتلال.
بناء على ما سبق يمكن التأكيد أننا أمام خداع صريح وفج للنفس والشعب، وفي أحسن الأحوال محاولات لإضافة ماء نقي إلى الحساء الفاسد وإنعاش، وتنفس صناعي لمنظومة ميتة سريرياً عبر هروب منهجي إلى الأمام من الاستحقاق الانتخابي الكاشف بالحجة والذريعة نفسها، المتمثلة بعدم موافقة الاحتلال على إجرائها بالقدس، في موقف يؤكد عجز القيادة وإفلاسها ورهنها المصالح والسياسات الفلسطينية لمشيئة إسرائيل وإرادتها.
أما الجزء الملآن من الكوب وإضافة إلى الحتمية التاريخية بزوال الكيان الاستعماري الصهيوني، فيتمثل بحقيقة أن المقاومة الشعبية متجذرة وراسخة في الميدان بعيداً عن القيادة الرسمية وتجاذبات الفصائل، وهي مستمرة في القدس و"بيتا"، وحيثما كان الصدام ممكناً مع الاحتلال والمستوطنين، من إحياء المولد النبوي الشريف في ساحات باب العامود إلى موسم حصاد الزيتون في جبال الضفة الغربية ووديانها.