اللاجئون الفلسطينيون... شرعية التمثيل المنقوصة بفعل الشتات

28 ابريل 2021
لعب الكفاح المسلح دوراً مهماً في التفاف الفلسطينيين حول منظمة التحرير (Getty)
+ الخط -

تاريخيا، أعاق الشعور القومي العربي نمو الشخصية الوطنية الفلسطينية، واستمر التمثيل الفلسطيني يعاني من شرعية منقوصة أو معطلة، موضوعيا؛ بفعل الاحتلال البريطاني أو الاحتلال الإسرائيلي أو الهيمنة العربية أو التشتت الديمغرافي، وذاتيا؛ حين لم يتجسد هذا التمثيل عبر صيغة مؤسساتية ديمقراطية. ومنذ العام 1948 لم تتعدَّ المشاركة الشعبية الفلسطينية، في صناعة القرار الفلسطيني، المستويات الحزبية الفصائلية، والنقابية والبلدية والاتحادات الطلابية. ومع قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، امتلك الفلسطينيون لأول مرة شكلا ديمقراطيا مؤسساتيا منحهم فرصا للمشاركة السياسية انتخابا وترشحا، عبر انتخابات المجلس التشريعي في 1996 و2006، وانتخابات الرئاسة في 1996 و2005، لكن تلك المشاركة أقصت أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، وانتهت معادلات الاعتراف وتوازن القوى المسيطرة إلى تكريس انقسام واستقطاب حاد في الساحة الفلسطينية.

باختزال الثقل السياسي والتمثيلي الفلسطيني في السلطة الوطنية الفلسطينية، التي هي بموجب اتفاقيات أوسلو هيئة حكم ذاتي مؤقتة لمدة خمس سنوات تسبق قيام الدولة، والمجلس التشريعي، بوصفه في تلك الاتفاقيات، مجلس حكم محلي، على حساب منظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني التي اعتبرت طوال أعوام هيئات تمثل جميع الفلسطينيين، لا تزال معضلة التمثيل الفلسطيني قائمة، وتطرح الانتخابات الفلسطينية القادمة مسالة التمثيل الفلسطيني المنقوص، في ظل الاحتلال، ومع وجود أكثر من نصف الشعب الفلسطيني لاجئا في الشتات قد لا توفر لهم هذه الانتخابات فرصة للمشاركة.

ما هو الجديد الذي تقدمه هذه الانتخابات على صعيد إصلاح النظام السياسي الفلسطيني، والخروج من أزمة التمثيل؟

تاريخ من التمثيل المنقوص
بالإضافة إلى التضييق من قبل سلطات الاحتلال البريطاني، أدّت الصراعات العائلية، خصوصا بين الحسينية والنشاشيبية إلى انعدام فعالية "اللجنة التنفيذية" التي قادها موسى كاظم الحسيني، وانبثقت عن "المؤتمر العربي الفلسطيني" باعتباره أول تمثيل فلسطيني تحت الانتداب، والذي اضمحلَّ بعد وفاة الحسيني العام 1934. بدأت الأحزاب السياسية الفلسطينية بالتكاثر، رغم أنها بقيت مخترقة بالولاءات العائلية والعشائرية، وشكّلت مع ثورة إبريل/ نيسان 1936 "اللجنة العربية العليا" التي ترأّسها الحاج أمين الحسيني، لتقدم نفسها ممثلا للفلسطينيين وتطلعاتهم الوطنية. بعد هزيمة الثورة والتنكيل بأعضائها، هرب الحسيني إلى لبنان، ليعود بعد الحرب العالمية الثانية رئيسا لـ "الهيئة العربية العليا" التي حظيت ببعض الاعتراف العربي، لكنها اصطدمت بطموحات الهاشميين في العراق والأردن، وفشلت في إقناع الحكومات العربية بالاعتراف بـ "حكومة فلسطين" بعد الانسحاب البريطاني، ومنعت الجيوش العربية القادمة إلى فلسطين، في أيار/ مايو 1948، الحسيني من التواجد في أماكن سيطرتها، وصادرت السلاح الفلسطيني هناك. وحين تم الإعلان عن "حكومة عموم فلسطين" في غزة، في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، برئاسة أحمد عبد الباقي، دعت "الهيئة العربية العليا" إلى عقد "مجلس وطني فلسطيني" في غزة في أكتوبر/تشرين الأول 1948، اقر شرعية الحكومة، واستقلال فلسطين. سارع ملك الأردن حينها عبد الله لعقد مؤتمر في عمّان حاول رفع الشرعية عن مؤتمر غزة، وشكك في تمثيله للفلسطينيين، أعقبه "مؤتمر أريحا" الذي أكد وحدة الأراضي الأردنية وبايع عبد الله ملكا على كل "فلسطين"، وتم إقصاء "حكومة عموم فلسطين" بسيطرة ميدانية من الجيش الأردني على الضفة الغربية بعد هزيمة العام 1948، وأعلن النظام الملكي في الأردن توحيد الضفة الغربية مع شرق الأردن في إبريل/ نيسان 1950.

في قطاع غزة، مُنعت حكومة عموم فلسطين من ممارسة عملها، بعد أن أخضع للإدارة المصرية، ونُفي الحسيني وأعضاء الحكومة إلى القاهرة، لتصبح "الهيئة العربية العليا" هيئة شكلية تحت الرقابة المصرية الصارمة، انتهت فعليا بقيام منظّمة التحرير الفلسطينية بموجب قرار القمة العربية الأولى بالقاهرة 1964 بموافقة جميع الدول العربية ما عدا الأردن، وقرار المجلس الوطني الفلسطيني الأول الذي انعقد في القدس (من 28 مايو/ أيار إلى 2 يونيو/ حزيران 1964)، وأصبح أحمد الشقيري رئيسا لها. نظرت فصائل العمل الفلسطيني المسلح إلى المنظّمة بعين الريبة، وخشيت من أن تكون إطارا جديدا لهيمنة الدول العربية على القرار الفلسطيني، ورفضت بداية الانضمام إلى المنظّمة، واكتفت حركة فتح بتمثيل فردي في المجلس الوطني. بعد هزيمة العام 1967 اضطرّت الدول العربية إلى منح زمام المبادرة للعمل الفدائي، فهيمنت فصائله على منظّمة التحرير، التي تزعّمت فتح لجنتها المركزية بقيادة ياسر عرفات منذ المجلس الوطني الخامس في القاهرة (فبراير/ شباط 1969).

في العام 1974 اعترفت الجامعة العربية بالمنظّمة ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، بموافقة جميع الدول العربية عدا الأردن، وكان ذلك، رغم أنه بدا في حينه مكسبا

فلسطينيا، بداية مسار عربي لفك الارتباط بالقضية الفلسطينية، بدءا بمصر التي تقدمت خطوات حثيثة باتجاه كامب ديفيد. فلسطينيا، كان المجلس الوطني الفلسطيني قد أقرّ في 12 يونيو/ حزيران من العام 1974 برنامج النقاط العشر (يسمى إسرائيليا بالخطة المرحلية) ويدعو إلى إنشاء سلطة وطنية على أي قطعة محررة من أرض فلسطين، والعمل الفاعل لإنشاء دولة علمانية ديمقراطية ثنائية القومية في فلسطين يتمتع فيها كل المواطنين بالمساواة والحقوق بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين. وفي العام نفسه اعترفت الأمم المتحدة بالمنظّمة، التي امتلكت بذلك تفويضا عربيا ودوليا، للمضي في مسارات سياسية طغت فيه المرحلية على الشمولية، وتقدمت خلالها معاركُ التمثيل معاركَ التحرير، وكان التفرد على حساب الإجماع الوطني. انتهت تلك المسارات بقبول المنظمة حكما ذاتيا محدودا في أوسلو، لم يؤد إلى الدولة، بل عمّق أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وشرعيته التمثيلية، وتركت تجمّعات اللاجئين الفلسطينيين في الشتات بدون من يتحدث باسمهم، أو يتابع شؤونهم، تعاني التفتيت والتهجير والإلغاء.

منظمة التحرير الفلسطينية

بقي تمثيل المنظّمة للشعب الفلسطيني أمرا نسبيا، جاء بحكم الأمر الواقع، وبتفويض من الجامعة العربية والأمم المتحدة، وقد لعب الكفاح المسلح الذي مارسته الفصائل الفلسطينية دورا هاما في التفاف الفلسطينيين حول المنظّمة، ومنح تمثيلها تلك الشرعية المعنوية والرمزية، لكنها لم تعمل على تجسيد هذا التعاطف والالتفاف في مؤسسات ديمقراطية، ولم يكن للإرادة الشعبية الفلسطينية أي فاعلية في عملية صنع القرار الفلسطيني، واستمرت المنظمة قائمة على نظام المحاصصة الفصائلية. عسكرة النضال الفلسطيني جعلت المنظّمة تتجاهل أن الخارطة الفلسطينية أكثر اتساعا من أن يتم اختزالها في فصائل العمل المسلح، ولم تمتد عضويتها إلى مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، والفعاليات النقابية، وغيرها من وحدات اجتماعية. التفرد في القيادة، ومركزية القرار، وابتعاد القيادة عن شعبها نتيجة خسارة المنظمة لقواعدها العسكرية والإدارية في الأردن ثم لبنان مما أدى إلى تعطّل المؤسسات التابعة للمنظمة، وعدم توافر توجّه حقيقي لترسيخ تلك المؤسسات، ونموها، كل ذلك، حال دون قيامها بدورها بفعالية، وممارسة صلاحياتها، الأمر الذي أفقدها تدريجيا شرعيتها الرمزية بين أبناء الشعب الفلسطيني، وفقدت ثقلها في الشتات حتى قبل تهميشها لصالح السلطة الوطنية. ولعبت ارتهانات فصائل فلسطينية للأنظمة العربية والإقليمية دورا معطلا، وبقي تمثيلها منقوصا في غياب حركات الإسلام السياسي الفلسطيني؛ "حماس" و "الجهاد الإسلامي"، اللتين رفضتا المنظّمة أيديولوجيا قبل أن تعلنا استعدادهما للانضمام إليها شرط إعادة بنائها وإصلاحها، لكن الصراع على التمثيل الفلسطيني استمر في ظل عدم توافق الحركتين على نسبهما من المحاصصة.

لم تتمكن المنظّمة من أن تكون إطارا وطنيا جامعا يختلف الفلسطينيون في ظله لا عليه، وأصبحت أحد أبرز دوائر الانقسام الفلسطيني. ولا يبدو أن هناك إرادة حقيقية لدى الفصائل الفلسطينية لإعادة تفعيلها، ولا منحها دورها التمثيلي اللازم، فكان تراجع حركة حماس عن مطالبها بإجراء الانتخابات الثلاث (التشريعية، والرئاسية، وتلك المتعلقة بالمجلس الوطني) بالتزامن لتوافق على إجرائها بالتتابع، بعد أن تنازل الرئيس محمود عباس عن الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني بوصفه شرطا للمشاركة في الانتخابات.

المجلسان: التشريعي والوطني
يشكّل المجلس الوطني أعلى جسم تمثيلي لجميع الفلسطينيين، ومهمته بحسب نظامه الأساسي "وضع السياسات والمخططات والبرامج لمنظمة التحرير الفلسطينية وأجهزتها وانتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية"، وقد أقرّ المجلس عند تأسيسه الميثاق الوطني الفلسطيني، والنظام الأساسي لمنظمة التحرير. ورغم أن نظامه الأساسي يقضي بانتخاب أعضائه بالاقتراع المباشر، بقي منذ تأسيسه العام 1964، من دون انتخابات، ويتم تعيين أعضائه عبر التوافقات، والمحاصصة بين الفصائل الفلسطينية، والأجهزة العسكرية، والاتحادات الشعبية، والنقابية، بالإضافة إلى أعضاء مستقلين يتم تعيينهم. لم يجتمع المجلس سنويا، ولم يتم تجديده كل أربع سنوات كما ينص نظامه الأساسي، وآلت أموره إلى أن يكون تحت رحمة الاستدعاء التوظيفي عند الحاجة، مقرّرا لتعديلات أو مكملا لنصاب، أو لسد نقص في أعضاء غيبهم الموت. كما ارتهنت فعالية المجلس للظروف السياسية في البلدان العربية التي كانت تحول معظم الأحيان دون ممارسة الفلسطينيين لأي أنشطة سياسية على أراضيها. ورغم دعوتهما للانضمام للمجلس العام 2005، لم تشارك به حركتا حماس والجهاد الإسلامي، اللتان بقيتا خارج منظّمة التحرير، وتُرك المجلس لهيمنة حركة فتح، بوصفها الفصيل الأكبر، وتحكمت بقراراته.

نصّ المرسوم الرئاسي الذي أصدره الرئيس الفلسطيني محمود عباس على أن تعتبر نتائج انتخابات المجلس التشريعي في الثلاثين من يوليو/تموز المقبل "المرحلة الأولى في تشكيل المجلس الوطني، على أن يتم استكمال المجلس في نهاية شهر أغسطس/آب المقبل، وفق النظام الأساس لمنظمة التحرير الفلسطينية والتفاهمات الوطنية بحيث تجرى انتخابات المجلس الوطني حيثما أمكن". وينص قانون الانتخابات الفلسطيني على أن أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني وعددهم 132 يصبحون تلقائياً أعضاء في المجلس الوطني، الذي تم تقليص عدد أعضائه إلى 350. عمليا، تبدو عملية إجراء انتخابات المجلس الوطني متعذرة، بسبب تشتت الديمغرافيا الفلسطينية في دول اللجوء والمهجر، وتنوع الظروف السياسية في بلدان الشتات، كما أن "لجنة الانتخابات المركزية" أعلنت عدم مسؤوليتها عن تنظيم الانتخابات خارج فلسطين، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لا يبدو أن هناك أي توجه رسمي فلسطيني للطلب من دول عربية أو غيرها للسماح بإجراء تلك الانتخابات على أراضيها، ولا أي تحضيرات أقلّها بيانية وإحصائية. من ناحية أخرى هناك إشكاليات حقيقية للربط بين التشريعي والوطني، نتيجة اختلاف المرجعية السياسية والتمثيلية لكل منهما، فبينما يستند المجلس التشريعي إلى اتفاق أوسلو، ولا يمثل سوى الفلسطينيين في داخل مناطق السلطة، يستند المجلس الوطني إلى الميثاق الوطني والمفروض أنه يمثل الفلسطينيين في كل مكان. بالمثل جاء في القرار بقانون رقم (1) لسنة 2021 القاضي بتعديل قرار بقانون رقم (1) لسنة 2007 بشأن الانتخابات العامة ( https://bit.ly/3x6opJ2 )، وتحديدا في مادته الثانية: ((تستبدل عبارتي "السلطة الوطنية، رئيس السلطة الوطنية" أينما وردت في القانون الأصلي بعبارتي "دولة فلسطين، رئيس دولة فلسطين")). المادة على ما فيها من التباس قانوني، هي نموذج إضافي للتخبط وعدم الوضوح السياسي والتمثيلي، فالمفروض أن رئيس دولة فلسطين يمثل جميع الفلسطينيين، وهو ما لا يعكسه الواقع ولا توفّره الانتخابات المقبلة.

خاتمة
الانتخابات الفلسطينية الحالية هي في النهاية محاولة لإدارة الأزمة لا لتجاوزها، وهي غير كافية لتجاوز العوائق البنيوية الداخلية المتعلقة بطبيعة النظام السياسي الفلسطيني، انطلاقا من الانتقال من نظام المحاصصة إلى نظام ديمقراطي تمثيلي حقيقي. وليس هدف الانتخابات هو تقاسم السلطة أو المحاصصة عليها، بل تداولها. ألم تأت التعديلات الأخيرة في قانون الانتخابات بناء على صفقة محاصصة أخرى بين حركتي فتح وحماس؟

الأزمة مستمرة وطالما عصفت بالنظام السياسي الفلسطيني، وهي أزمة من العمق بحيث تشكّل تهديدا للذات الفلسطينية؛ الذات، بوصفها هوية وطنية وكيانية سياسية، ولا يمكن الخروج من أزمة التمثيل الفلسطيني إلا بإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، بإعادة بنائه، وتفعيله بإقرار الكلّ الفلسطيني، وبالإقرار بالكلّ الفلسطيني.

المساهمون