تعد مدينة القدس هي المدينة الأكثر ثقلاً تاريخياً ودينياً وحضارياً وسياسياً وحضوراً في الوعي الفلسطيني الجمعي في صراع الفلسطينيين مع الاحتلال سواء في فترات الحرب أو السلم، فلطالما كانت هي الصاعق الذي يفجر الهبات الشعبية والانتفاضات منذ العام ١٩١٩، كذلك شكلت الصاعق الذي يفجر الخلافات السياسية حين جنحت منظمة التحرير الفلسطينية لخيار التسوية السياسية مع الاحتلال ضمن مسار أوسلو.
يذكر من تاريخ الهبات التي فجرتها مدينة القدس، حين حاولت جماعة سرية يهودية تفجير مصلى قبة الصخرة عام ١٩٨٢، لكن تم اكتشاف المتفجرات وإحباط تلك العملية. كما تبعت ذلك في التسعينيات محاولة جماعات استيطانية وضع حجر الأساس للهيكل المزعوم، فاندلعت مواجهات وارتقى فيها ٢٠ شهيداً فلسطينياً.
في ٢٥ أيلول/ سبتمبر ١٩٩٦ قام الاحتلال باستئناف محاولته في فتح نفق تحت المسجد الأقصى، وتلك المحاولة سبقتها محاولتان فاشلتان في العامين ١٩٨٦ و١٩٩٤، ما تسبب في اندلاع هبة النفق على امتداد الأراضي الفلسطينية والتي استمرت لمدة ثلاثة أيام، ارتقى خلالها ٦٣ شهيداً وأصيب ١٦٠٠ شخص بجروح.
في ٢٨ أيلول/ سبتمبر كانت زيارة أرئيل شارون للمسجد الأقصى هي الصاعق الذي فجر انتفاضة الأقصى، التي ارتقى فيها ٤٤١٢ شهيداً فلسطينياً، وأصيب ٤٨٣٢٢ شخصاً بجروح.
في العامين ٢٠١٥ و٢٠١٦ اندلعت انتفاضة السكاكين بسبب تصاعد انتهاكات الاحتلال في القدس كذلك بسبب التوسع الاستيطاني.
في العام ٢٠١٧ كانت هبة باب الأسباط، التي انطلقت لإزالة البوابات الإلكترونية التي زرعها الاحتلال من أجل تفتيش الداخلين للمسجد الأقصى، لكن مقاومة الفلسطينيين لهذا القرار أسفرت عن إزالة تلك البوابات.
في شباط/ فبراير عام ٢٠١٩ كانت هبة باب الرحمة، بسبب إغلاق الاحتلال الباب المؤدي إلى المصلى الذي أغلق عام ٢٠٠٣، حيث أعاد المقدسيون فتحه والصلاة فيه.
في ١٣ نيسان/ إبريل عام ٢٠٢١، انطلقت هبة باب العامود، بعد إعلان جمعيات استيطانية عن خطتها لاقتحام المسجد الأقصى، ونصب الاحتلال السواتر الحديدية على درجات باب العامود، الذي يشهد نشاطاً رمضانياً للفلسطينيين بعد صلاة التراويح، ترافق ذلك مع مواجهة الفلسطينيين لخطط تهويد أحياء في مدينة القدس. واستمرت الهبة إلى أن تمخضت عن إزالة السواتر الحديدية.
لم ينتهِ الأمر عند ذلك، فقد قررت جماعة المعبد اليهودية المتطرفة، في ٢٨ رمضان، اقتحام ساحات المسجد الأقصى من أجل تنفيذ قراءاتها التوراتية كنوع من التقسيم المعنوي للمكان بعدما أحبطت الهبات السابقة خطتها للتقسيم المكاني والزماني في الأقصى إيذاناً ببدء إعادة بناء الهيكل المزعوم.
اشتبكت قوات الاحتلال مع المصلين المرابطين داخل المسجد الأقصى. وتسببت اعتداءات الاحتلال ومنع فرق المسعفين بارتقاء عدد من الشهداء، وسقط ما يقارب ٦٠٠ جريح في تلك الاشتباكات. استغاث المحاصرون في المساجد بقائد المقاومة في غزة محمد ضيف، الذي أمهل الاحتلال حتى الساعة السادسة مساءً لإخلاء باحات الأقصى وإيقاف تظاهرة جماعة المعبد اليهودية. وحين لم يفعل الاحتلال، انطلقت الحملة العسكرية للدفاع عن المقدسات والمسماة بسيف القدس، وتسببت بحرب مباشرة كان مركز ثقلها في غزة، وامتدت لباقي فلسطين التاريخية.
عززت عملية سيف القدس مكانة القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية فيها في الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي، وشكلت حالة ردع للاحتلال الذي تراجع عن تظاهرة جماعة المعبد المتطرفة، كما أعلن عن عدة خطوات تراجع فيها عن اقتحام المسجد الأقصى. وظلت المقاومة الفلسطينية تضع القدس في أولى شروط التهدئة، ما شكل نقلة نوعية في فرض كلمة المقاومة على الاحتلال الذي تمادى في عمليات التهويد والاستيطان في القدس خلال مسار التسوية السلمية الذي امتد لربع القرن، كذلك بعد فترة رئاسة ترامب لأميركا التي شهدت دعماً لامتناهياً لخطط التهويد والاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأميركية إليها.
أتت عملية سيف القدس، التي وحدت الفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم في مواجهة التقسيم الجغرافي والنضالي لوجودهم، كي تعيد ترتيب الأوراق الفلسطينية وتصويب البوصلة الوطنية نحو استعادة كافة الحقوق، واعتماد المقاومة كخيار بعدما أثبت المسار السياسي حالة من الفشل المحلي والدولي، بعدما تجاوز قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الاتفاقيات الدولية التي تحيل القدس وحق العودة لقضايا الحل النهائي.
أثبتت أيام المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال أن طريق استعادة الحقوق أمام إرهاب دولة الاحتلال يكون عبر الوحدة النضالية للشعب الفلسطيني، حيث شاهدنا السيول البشرية التي تدفقت إلى الحدود الأردنية الفلسطينية مطالبة بفتح الحدود من أجل مساندة المقاومة في القدس والأقصى.
كما شكل ما حصل في هبة باب العامود الأخيرة وسيف القدس صدمة لمحافل التقدير الاستراتيجي الإسرائيلي المتمثلة بمراكز أبحاثه واستخباراته، حيث كان تقديرها يتمحور حول أن التوقيت الحالي المتمثل بمناخ التطبيع العربي، وكذلك عمليات الأسرلة والتهويد، تضمن نفاذ مخططاتها في ما يتعلق بالمدينة المقدسة، ففوجئت بالجماهير الفلسطينية تتوحد على نبض مدينة القدس التي توحد الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية على قداستها ومكانتها.
هدفت المقاومة الفلسطينية في غزة أن تستعيد جبهة للمواجهة مع الاحتلال تكون غزة رافعة لها لا مصدرها الوحيد، كذلك سعت لتصويب مسارها وإعادة الاتصال مع أول أهدافها منذ انطلاقها والمتمثل بتحرير الأقصى والقدس، التي حال أحرزت تقدماً على جبهتها في هذه الخطوط المركزية للمواجهة يصبح ما تبقى تفاصيل، لأن ما شكلته سيف القدس من قوة ردع يعزز من جدوى المقاومة ويحرز تقدماً لها نحو التحرير، وهذا التقدم وهذه الجدوى لا يقاسان بمقدار الخسائر، خاصة في حال تحولت الهبة في باقي أجزاء فلسطين التاريخية لانتفاضة مستدامة تكون بابا للتحرير الحتمي لأجزاء من فلسطين.