عملية القدس الفدائية الأخيرة التي أدت إلى مقتل جندي إسرائيلي وإصابة مجموعة من المستوطنين والجنود، واستشهاد منفذها المقدسي فادي أبو شخيدم، أعادت قضية القدس للنقاش مجددا لأهميتها في الصراع الإسرائيلي العربي بشكل عام، والقضية الفلسطينية بشكل خاص، بعد أن قطعت سلطات الاحتلال شوطا كبيرا في عزل المدينة عن محيطها الديمغرافي والجغرافي والسياسي والاقتصادي الفلسطيني، وذلك كجزء من خطة ممنهجة شاملة لتغيير معالمها التاريخية والحضارية والسكانية والطبوغرافية لتفريغها من سكانها الأصليين وتهويدها عبر نقل سكان يهود للإقامة فيها، وطرد سكانها الفلسطينيين الأصليين عبر سلسلة كبيرة من الإجراءات والسياسات التي ترمي إلى تحويل المدينة إلى بيئة طاردة للفلسطينيين وتحويل حياة من تبقى فيها من أصحابها الأصليين إلى جحيم.
مثلت مدينة القدس عبر التاريخ العاصمة الرمزية لفلسطين، لمكانتها العربية، وطبيعتها التاريخية الأثرية ولموقعها في وسط فلسطين، فالقدس كانت قبل الاحتلال الصهيوني وبعده بمثابة المركز الثقافي، الإعلامي، الفني، التعليمي، الروحي الإسلامي والمسيحي والاقتصادي، كما هي المركز السياسي الفلسطيني، وقد تجسد ذلك بسنوات ما بعد احتلال المدينة من قبل إسرائيل عام 1967، وشهدت سنوات السبعينيات والثمانينيات وحتى إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية نشوء وبناء العديد من المؤسسات السياسية والإعلامية والثقافية والتعليمية، التي جسدت الهوية الوطنية الفلسطينية وجعلت من المدينة مركز العمل والقيادة للجماهير الفلسطينية، والذي تجلى بشكل واحد في قيادة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقيادة الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع في شتى المجالات.
رغم أن أسس ما يسمى عملية السلام التي انطلقت في مؤتمر مدريد في مثل هذه الأيام قبل ثلاثين عاما، كما اتفاقية أوسلو التي تلت المؤتمر كانت قد أكدت أن الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة وحدة سكانية جغرافية سياسية واحدة، وأن مستقبلها يتم تحديده عبر المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، لكن الخطأ الذي وقعت فيه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حين قبلت تأجيل موضوع القدس للمفاوضات النهائية من دون ضمانات تلزم إسرائيل بالالتزام بالاتفاقيات، قد أدى إلى أن تستغل إسرائيل ذلك لإحداث عملية تغيير ممنهجة تطاول كل معالم مدينة القدس، لتفريغها من شعبها الفلسطيني وجلب مستوطنين يهود محلهم، لخلق واقع يستحيل تغييره مستقبلا وإعادة القدس لما كانت عليه الحال قبل احتلالها في العام 1967، ومن أجل ذلك عملت إسرائيل على دمج المدينة جغرافيا بعد الإعلان عنها عاصمة إسرائيل، وأصدرت مجموعة من القوانين والسياسات الرامية لخلق أغلبية يهودية في شتى أنحاء المدينة وخاصة الشرقية منها، بهدف استحالة تقسيمها مستقبلا فيما لو تبدلت الظروف الإقليمية والدولية.
في الوقت الذي طالبت فيه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إسرائيل بوقف أعمال الاستيطان والتوسع بعد مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو، إلا أن حكومات إسرائيل المتعاقبة استغلت تلك الاتفاقية لتسريع مشروعها التهويدي الإحلالي في مدينة القدس، وقامت بأكبر عملية تغيير لمعالم المدينة المقدسة، ورغم أن عدد المستوطنين اليهود في الجزء الشرقي من المدينة المحتلة لم يتجاوز المائة ألف عشية مؤتمر مدريد، ألا أن عددهم تجاوز اليوم ربع مليون مستوطن موزعين على كل أنحاء القدس الشرقية، بما فيها الأحياء العربية، وذلك لتحويل المجتمع الفلسطيني المقدسي، إلى أشلاء وبقع كثيرة متناثرة وغير متصلة أو مترابطة في بحر كبير من التجمع الاستيطاني اليهودي المسلح، لخلق أغلبية يهودية مطلقة في الجزء الشرقي من المدينة وتحويل حياة المقدسيين إلى جحيم لا يطاق، وفي هذا الخصوص تم سحب أكثر من (20) ألف بطاقة هوية مقدسية في السنوات الثلاثين الماضية التي تلت مؤتمر مدريد للسلام، وقامت بهدم آلاف المنازل الفلسطينية وأغلقت آلاف المحال التجارية بذرائع مختلفة، كما ضربت السياحة الفلسطينية، كما قامت بتوسيع مساحة القدس الشرقية لضم إليها مستوطنات جديدة مثل معاليه ادوميم شرقي العيزرية، وبناء مستوطنات كبرى جديدة وضمها للقدس مثل هار حوما (جبل أبو غنيم) وبسجات زئيف وغيرها، في الوقت الذي أخرجت إسرائيل عدة أحياء فلسطينية مثل رأس خميس وسميراس وكفر عقب وغيرها من حدود البلدية كجزء من مشروع تهويد المدينة، وذلك بعد بناء جدار الفصل العنصري بطول تجاوز (200) كم حول مدينة القدس من الجهات الثلاث الشمالية التي تفصلها عن أحيائها الشمالية ومدينتي رام الله والبيرة، وأيضا من الجهة الشرقية لفصلها عن أحيائها الشرقية والغور ومنطقتي بيت لحم وأريحا، ومن الجنوب لفصلها عن مدينة بيت لحم.
رغم ما تعرضت له مدينة القدس في العقود الثلاثة الماضية من سياسات احتلالية ممنهجة لتفريغها وتهويدها، إلا أن إسرائيل لم تكتف بها، حيث كشف تقرير صادر قبل أسابيع عن مؤسسات بلدية الاحتلال في القدس عما أسموه مشروع إسقاط المدينة، والذي سيتم بموجبه بناء (78) ألف وحدة سكنية جديدة لليهود المستوطنين فقط بالعشرين عاما المقبلة، وسيتم بناء جزء منها في المنطقة المحاذية لمستوطنة معاليه ادوميم شرقا وشمالا، والتي سيتم فيها فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، كما أن بناء جزء من هذه الوحدات السكنية سيكون داخل الأحياء الفلسطينية في المدينة، بهدف تشويه طابعها العربي الإسلامي والمسيحي وإنتاج مدينة اقرب للبناء الغربي اليهودي كما في المستوطنات، كجزء من مخطط لتشويه تاريخ المدينة، كل هذا في الوقت الذي يتم فيه حصر البناء الفلسطيني على مساحة (8.5%) من مساحة القدس العربية فقط، ويوجد في المدينة (57235) وحدة سكنية للمقدسيين من أصل ( 227729)، أي بنسبة تقل عن (25%) من عدد المساكن في القدس، برغم أن نسبة الفلسطينيين في القدس من مجمل السكان تتجاوز (37%) من مجموع سكان المدينة يهودا وعربا، وهذا ما يظهر النقص الكبير في الوحدات السكنية كما النقص في باقي مرافق الحياة وكل البنية التحتية لا سيما جهازي التعليم والصحة.
أدركت إسرائيل في بداية سنوات التسعينيات من القرن الماضي، أي بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أن بقاء المؤسسات الوطنية الفلسطينية المختلفة في القدس، يشكل عائقا جديا أمام مشروعها التهويدي للمدينة، فبدأت بمجموعة قرارات وسياسات وإجراءات لاجتثاث تلك المؤسسات وإغلاقها، بحجج أمنية، وخاصة أن بقاء تلك المؤسسات في القدس يتناقض مع الادعاء الصهيوني بأن القدس العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل، لذلك أغلقت كل المؤسسات الفلسطينية من مؤسسات سياسية وطنية كبيت الشرق الذي أسسه فيصل الحسيني وضم عدة مؤسسات وطنية وبحثية واجتماعية وشكل مقرا لمنظمة التحرير وكل مؤسسات وفعاليات القدس، وانتهاء بالمؤسسات التجارية والفنية والإعلامية وغيرها، وذلك لأنها ساهمت في مواجهة السياسات الإسرائيلية وعملت على تثبيت الوجود الفلسطيني في المدينة المقدسة، وأبقت القدس في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي كعاصمة فلسطين، والذي كان له علاقة مباشرة بإغلاق تلك المؤسسات لحملها وحمل السلطة الفلسطينية على نقلها لرام الله أو لمدن أخرى في الضفة، مما يؤدي إلى نزع القدس من الوعي الفلسطيني والعربي والعالمي كعاصمة فلسطين وجعل رام الله تحل محل القدس.
رغم سياسات الاحتلال المستمرة، والتي كان آخرها ملاحقة ومنع مؤسسات السلطة والمحافظة من العمل والاستمرار في المشاريع التصفوية للوجود الفلسطيني في القدس، وخصوصا هدم كل ما له علاقة بالتاريخ والحضارة وزيادة عدد المستوطنين الذين يقتحمون المسجد الأقصى والذين إذا ما قورنت أعدادهم بأعداد المستوطنين الذي كانوا يقتحمون ساحات المسجد الأقصى قبل مؤتمر مدريد، فان عددهم الآن في يوم واحد يفوق عددهم في سنة كاملة قبل مؤتمر مدريد كما التغيير الكبير الذي أصاب المدينة من كل النواحي في العقود الأخيرة، إلا أن المقدسيين مستمرون في صمودهم وثباتهم رغم المعاناة اليومية التي يعيشونها، وبشكل يتناقض مع المشروع الصهيوني الرامي لاجتثاثهم من المدينة، إلا أن نسبتهم اليوم مقارنة مع اليهود في المدينة ارتفعت إلى حوالي (40%) مقارنة مع (30%) عام 1991 عشية مؤتمر مدريد، مما يكشف إرادة المقدسيين وانتماءهم لقدسهم، وهذا ما بات يزعج دوائر صنع القرار الإسرائيلي.