الفلسطينيون في الشتات: ما بين الانقسام والمبادرات

28 اغسطس 2022
مظاهرة تضامن مع الفلسطينيين في لندن (مارك كريسون/Getty)
+ الخط -

يقدر عـدد الفلسطينيين فـي نهاية عام 2021، وفق تقديرات جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، بحوالي 14 مليون فلسطيني وفلسطينية؛ سبعة ملايين داخل فلسطين، وما يقارب سبعة ملايين موزعين على دول الشتات (ستة ملايين في الدول العربية، ونحو سبعمائة وخمسين ألفاً في الدول الأجنبية).

يدرس البحث موضوع الفلسطينيين/ات في الشتات، الذي تعرَض، ولا يزال، إلى تهميش ويعاني من حالة الانقسام والتشتت في العمل الوطني.

مراجعة تاريخية لدور الفلسطينيين في الشتات

بعد نكبة 1948 وما تلاها من طرد شعب فلسطين وتهجيره عبر موجات متعددة، أصبح أكثر من نصف الشعب الفلسطيني لاجئا في وطنه أو حول العالم، سواء في دول الطوق العربية، المحيطة بفلسطين، أو في القارات المختلفة؛ أوروبا والأميركتين.

تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، كي تصبح ممثل الشعب الفلسطيني الشرعي في كافة أماكن تواجده، ومن أجل العمل على تحرير فلسطين، وتلبية طموح الشعب الفلسطيني في العودة إلى فلسطين المحرَرة.

كانت المنظمة حاضنة المقاومة الفلسطينية منذ الستينيات حتى بداية الثمانينيات، إلى أن خرجت قيادتها من بيروت في 1982. يمكن تشبيه المنظمة بحكومة منفى، لها "برلمان" وطني منتخَب (المجلس الوطني الفلسطيني)، ومجلس تنفيذي (اللجنة التنفيذيّة). شكَلت المنظمة بقواها المختلفة مصدر دعم الفلسطينيين المعنوي والمادي داخل مخيمات اللاجئين في دول الطوق، وأسست مصادر دعم اقتصادية لهم/هن، مثل مؤسسة صامد، وأنشأت مراكز دراسات، انضم لها مفكرون ومفكرات من كافة أرجاء البلاد العربية.

أيضاً، أرسلت المنظمة مندوبين إلى الدول الأوروبية، يعملون على شرح القضية الفلسطينية، ويحاورون الأحزاب والحركات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني.

شهدت أوروبا والأميركيتان وكندا موجات هجرة فلسطينية متعددة. بدأت الهجرة الفلسطينية إلى أميركا اللاتينية في نهاية القرن التاسع عشر، أي في ظل العهد العثماني، وكان معظمها من المدن ذات الكثافة السكانية التي يغلب عليها الطابع المسيحي. يشكَل الفلسطينيون/ات في تشيلي اليوم أكبر تجمع فلسطيني بعد الفلسطينيين/ات في دول الطوق، أي خارج العالم العربي.

أما أوروبا، فهاجر الفلسطينيون إليها بعد النكبة، بغرض الدراسة والعمل، ثم استقروا فيها. تلاها موجات أخرى بعد الحرب الأهلية اللبنانية وما شهدته من تدمير المخيمات، تبعها لجوء فلسطينيين من داخل فلسطين بعد اندلاع الانتفاضتين الأولى والثانية، حصل الأمر ذاته عقب اندلاع حربي الخليج وطرد الفلسطينيين/ات من الكويت والعراق. انضم اليوم لجوء الفلسطينيين/ات القادمين من سورية ولبنان نتيجة ما تشهده هاتان الدولتان من ظروف سياسية واقتصادية.

مشاركة الفلسطينيون/ات في العمل الوطني من خارج المنطقة العربية

المرحلة الأولى، ما قبل اتفاقيات أوسلو: نلحظ فيها النشاط الكبير للعمل الفلسطيني في الشتات خارج المنطقة العربية، وتميزه بشعبية كبيرة، من خلال الاتحادات الشعبية (الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الاتحادات المهنية كاتحاد الأطباء، والصيادلة، والمهندسين… إلخ)، التي كانت ناشطة في السبعينيات والثمانينيات، وعبر تشكيل جاليات ومؤسسات فلسطينية في كل من أوروبا، وأميركا اللاتينية، والولايات المتحدة الأميركية.

في أوروبا تمثلت التنظيمات الفلسطينية المنضوية في إطار منظمة التحرير داخل هذه الاتحادات. في حين شهدت أميركا اللاتينية تجربة أخرى، فكانت فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، مرحلة العصر الذهبي للتفاعل اللاتيني مع القضية الفلسطينية، وشهدت تلك الفترة زخماً كبيراً، في الحضور الشعبي الفلسطيني في أميركا اللاتينية، حيث نظمت الجاليات الفلسطينية نفسها في دول القارة من خلال عدد من المؤسسات السياسية، ثم أفرز اتحاد (فيدراليات) هذه المؤسسات في العام 2004 اتحاداً جامعاً، سمي بـ "الكونفدرالية الفلسطينية في أميركا اللاتينية والكاريبي" (كوبلاك/COPLAC)، الذي تلقى دعماً من" المجلس الوطني الفلسطيني"، حين أقرّ في دورته الثامنة عشرة تخصيص 17 مقعداً من مقاعده لأعضاء يمثلون "الكوبلاك"، وقد شارك هؤلاء في كل دورات المجلس التالية، بما فيها دورة 1996 المعروفة بدورة "تعديل الميثاق الوطني".

مرحلة ما بعد أوسلو وقيام السلطة الوطنيّة الفلسطينية في أوائل التسعينيات: تراجَع دور منظّمة التحرير الفلسطينيّة الحاسم في تنظيم وتمثيل الجاليات الفلسطينية في الخارج، وأصيب العديد من الناشطون/ات الفلسطينيون/ات بالإحباط نتيجة معارضتهم/ن لهذه الاتفاقيات، وانسحب العديد من هذه الاتحادات التي أرادت السلطة الفلسطينية أن تبقي على وجودها، كي تكون مجرد كومبارس يصفق للسياسة الرسمية الفلسطينية.

في ذات الوقت، لم تكن السلطة الفلسطينية تتمتّع بالقدرة أو الشرعية التي تخولها ممارسة سلطة فعليّة على تلك الجاليات.

الانقسام الفلسطيني في الشتات: عكس الانقسام الفلسطيني بين سلطتي "حماس" و"فتح" نفسه على فلسطينيي الشتات. فمثلا، شهد لبنان تهميش منظمة التحرير لاحتياجات الفلسطينيين ومطالبهم بالعيش بكرامة حتى العودة.

يعيش فلسطينيو لبنان في أوضاع مزرية، ويعانون من الفقر الذي تفشى وتعمق بعد انهيار الاقتصاد اللبناني، وتوغل سياسة التجويع التي تتبعها أونروا، يضاف لكل ذلك صعوبة الحصول على الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه. كذلك تمتد الخلافات اللبنانية- اللبنانية إلى داخل المخيمات في طورها الأمني والعسكري، الأمر الذي يعرض سكان المخيمات لخطر الاشتباكات المسلحة، بفعل تحشيد بعض القوى اللبنانية للمخيمات، واستخدامها في حل الخلافات اللبنانية الداخلية.

أما في سورية، فطاولت سياسة القتل والتجويع المخيمات الفلسطينية، وكذلك سياسة الطرد القسري، التي ما زالوا يعانون من أثرها حتى اليوم، اضطر عشرات الآلاف منهم إلى الهجرة غير الشرعية، إلى أي مكان يمكنهم الذهاب إليه، الأمر الذي غيب دورهم كلياً عن العمل الوطني الفلسطيني.

جيّرت الحركات الفلسطينية في الضفة وغزة المؤسسات التي كان من الممكن أن تشكل مجتمعًا مدنيًا لأغراضها الحزبية الفئوية كذلك فعلت في مجتمع الجاليات ونتج عن ذلك إضعاف مؤسساته.

من الجليّ أن أسباب ضعف الجاليات الفلسطينية مرتبطة بالمأزق الفلسطيني عامةً، فالانقسام بين فتح وحماس واضح في شؤون كل جالية فلسطينية، حتى بات من الممكن الحديث عن جاليات لا جالية واحدة داخل كل بلد. كما يحضر تأثير اندثار اليسار الفلسطيني على هذه الجاليات، وكذلك بدأت الصراعات داخل حركة فتح تنعكس على الجاليات.

جيّرت الحركات الفلسطينية في الضفة وغزة المؤسسات؛ التي كان من الممكن أن تشكل مجتمعًا مدنيًا (من اتحادات طلبة وعمال وغيرها)، لأغراضها الحزبية الفئوية، كذلك فعلت في مجتمع الجاليات، ونتج عن ذلك إضعاف مؤسساته.

تحاول السلطة الفلسطينية دون كلل السيطرة على الجاليات الفلسطينية في خارج العالم العربي، لذا أسست دائرة شؤون المغتربين، وأوكلت شؤونها إلى ممثل الجبهة الديمقراطية تيسير خالد، الذي كان يتابع زياراته إلى أوروبا بغرض التأثير على الجاليات. بعد إقصائه تسلم نبيل شعث مهامه، وعادت هذه الدائرة إلى منظمة التحرير، كما استكملت محاولات تجيير الجاليات لتأييد السلطة. أيضاً دخل محمد دحلان على الخط، عبر تجيير عمل بعض المؤسسات، ومن خلال تأسيس مجموعات تابعة له في مخيمات اللاجئين داخل لبنان وأوروبا.

في عام 2003، سعت "حماس" إلى إيحاد بديل عن منظمة التحرير بطريقة غير رسمية، لذا عقدت الحركة عبر التعاون مع بعض الجمعيات الفلسطينية المقربة منها مؤتمراً موسعاً، أطلقت عليه "مؤتمر فلسطينيي أوروبا"، الذي أصبح فعالية سنوية، يعقد في إحدى المدن الأوروبية، وهو عبارة عن مهرجان خطابي وفولكلوري، لا يطرح استراتيجية عمل حقيقية، وقد شهدت كاتبة هذه السطور ذلك، حين حضرت المؤتمر الذي عقد في ضاحية باريسية في العام 2014. أسس جسم ثان في العام 2017، باسم "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج"، غلب عليه، وفق ملاحظات الكاتبة، شخصيات مقربة من حركة حماس، أمينه العام المفكر الإسلامي منير شفيق، المقرَب من حركة الجهاد الإسلامي، وهذا الاختيار له دلالاته طبعاً.

أدّى الفراغ السياسي في تمثيل الشتات إلى إطلاق الكثير من المبادرات خارجَ إطار ما تبقى من التنظيمات، ومن المؤسسات القائمة المرتبطة بها

لم يستطع الجسمان تشكيل حالة ثورية، تنهض بالوضع الفلسطيني في أوروبا، أو في الخارج، فقد أصبح المؤتمران مجرد ملتقيات سنوية خطابية فولكلورية، إذ لم يتبنَّ أي منهما استراتيجية عمل تمثل الكل الفلسطيني في الشتات، وكيفية تحشيد الفلسطينيين/ات للعمل الوطني.

بعض البدائل

أدّى الفراغ السياسي في تمثيل الشتات إلى إطلاق الكثير من المبادرات خارجَ إطار ما تبقى من التنظيمات، ومن المؤسسات القائمة المرتبطة بها، من اتحادات وجاليات، تتمثل هذه المبادرات بمجموعات مختلفة من النسويات، ومجموعات شبابية.

يضم الشتات الفلسطيني شريحة واسعة من النشطاء، ولاسيَّما الشباب، الذين يدعمون الحركات والحملات التضامنيّة في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى دورهم الفعَّال في تنظيم المظاهرات والفاعليّات ردًّا على جرائم المنظومة الاستعمارية في فلسطين المحتلّة، كذلك في التعبير عن المطالب السياسيّة الفلسطينية، خاصةً المتعلِّقة بحقّ العودة.

تتميَز هذه المجموعات بامتلاك المعرفة بلغات وظروف البلدان التي يقيمون فيها، إذ يكتبون مقالات الرأي مستخدمين لغة الدولة التي يقيمون فيها، ويُدلون بتصريحات صحافيّة، ويستخدمون شبكاتِ التواصل الاجتماعيّ بانتظام لإسماع صوتهم، كما يحيون المناسبات الوطنية السنوية (النكبة ويوم الأرض على سبيل المثال)، وينظمون البرامج الثقافية، كذلك يمارسون العمل الاجتِماعي، من أجل المساهَمة في بناء المجتمَع والحفاظ على الإرث الفلسطينيّ.

يعقدون العديدَ من اللقاءات والمؤتَمرات التي تهدف إلى لمِّ شمل الفلسطينيين، متجاوِزين الحدود الجغرافية، وتعزيز مشاركتِهم في عمليّة صنع القرار الوطني، جنبًا إلى جنب مع إخوانِهم في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة.

بالإضافة إلى ذلك نجح جزء من شابات وشباب الجيل الثالث بالحصول على مقاعد في المجالس البلدية وبرلمانات الدول التي يقيمون فيها ويمتلكون جنسياتها، ما يعطيهم/ن فرصة التعبير عن الصوت الفلسطيني في تلك الأماكن.

كلما ذُكرت قضيّة الشتات يجب ذُكر الإنتاج الفكريُّ والثقافيّ والفنّي الفلسطيني في فضائه. قدَّم الكتّاب والشعراء والموسيقيّون والفنانون البصريّون الفلسطينيّون إسهاماتٍ كبرى في نشر وإثراء الثقافة الفلسطينيّة. كما يَنعم بعضُ الأكاديميّين الفلسطينيّين بمكانة مرموقة في مجالات اختصاصهم، إذ لم يكتفوا بصياغة حقلِ دراسات فلسطينيّة، بل أصبحوا أيضًا مُتحدثين باسم القضية الفلسطينية، ويشاركون بقوّة في صياغة حدودِها وتوسيع نطاقها.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

من أجل الخروج من حالة التردي والانقسام التي يعاني منها فلسطينيو الشتات، عليهم فكُ ارتباطهم بطرفي الانقسام، ومحاولة الاستفادة من الظروف والإمكانيات المتاحة لهم في الدول المضيفة والدول التي يقيمون فيها ويندمجون في مجتمعاتها. عندها ربما ينجحون في تكوين صوتٍ بديلٍ، مغاير عن صوت طرفي الانقسام، يتبنى خطاباً مرتكزاً على وحدة الشعب الفلسطيني، يساعد على تحشيد الجيل الشاب وإعطاءه الفرصة والمساحة الكافية من أجل التعبير عن نفسه، دون أي وصاية أبويَة، وينجح في مساعدة الفنانين والأكاديميين على تحشيد التضامن مع قضيتنا مستخدمين لغة العصر بعيداً عن الديماغوجية والخطاب الخشبي.

المساهمون