ترتفع حدة الجدل بين تل أبيب وواشنطن من فترة إلى أخرى حول قضايا عينيّة، تصل أحياناً إلى حد انتقاد مسؤولين بالعلن، والتعبير عن غضب واضح إزاء مواقف معيّنة. لكن العلاقات تبقى راسخة ومتماسكة، بفعل المصالح المشتركة، ودعم الولايات المتحدة اللامتناهي لإسرائيل في مناحٍ كثيرة، والتزامها "بأمن إسرائيل وحقها بالدفاع عن نفسها"، مثلما يردد المسؤولون الأميركيون في مناسبات كثيرة.
ومهما ارتفعت الأصوات، أكان حول الخلافات الأخيرة إزاء الملف الإيراني، أو الانتقادات الأميركية للحكومة الإسرائيلية بشأن خطة إضعاف القضاء، أو البناء في المستوطنات وإلغاء قانون فك الارتباط والتصعيد في الضفة الغربية، فإنها لن تغير المعادلة التي تقوم عليها العلاقات بين البلدين.
مع هذا، يبدو أن تل أبيب تواجه صعوبات حقيقية في دفع واشنطن للنأي عن أي تفاهمات مع طهران بشأن الملف النووي الإيراني وصياغة اتفاق، في الوقت الذي تتواصل فيه التهديدات الإسرائيلية باستهداف مواقع إيرانية.
وتصاعدت حدة التهديدات ووتيرتها في الآونة الأخيرة، بالتزامن مع الأنباء حول إحراز تقدّم وتفاهمات بين واشنطن وطهران، تقوم بالأساس على تجميد الوضع القائم في البرنامج النووي الإيراني وعدم المضي نحو اكتساب قوة نووية.
يبدو أن نتنياهو ليس حريصاً على احترام شخص بايدن، وليس معارضة مواقفه فقط
ومثلما حاولت إسرائيل وفشلت في مساعيها للتأثير على التفاهمات التي أبرمت بين واشنطن وطهران عام 2015 لعدم إبرام أي اتفاق، تحاول هذه المرة تكرار فعلتها، لكنها قد تواجه صعوبات أكبر، بالأساس في ظل المؤشرات على اقتناع البيت الأبيض بأهمية العودة إلى الاتفاق النووي، وأيضاً في ضوء تراجع تأييد الكونغرس لإسرائيل في السنوات الأخيرة، ووجود مجلس الشيوخ تحت سيطرة الديمقراطيين، فيما الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب تكاد لا تُذكر. ويصعّب هذا على إسرائيل الاعتراض على سياسات الرئيس الأميركي جو بايدن.
ولا ينسى بعض النواب لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تشجيعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، بحسب ما نقلته صحيفة "هآرتس" أمس الخميس عن مصدر إسرائيلي ضالع في المحادثات مع الجانب الأميركي، كما قالت.
خلافات أخرى
فضلاً عن الخلافات بشأن الملف الإيراني، وجّهت الولايات المتحدة انتقادات لاذعة، في الآونة الأخيرة لتل أبيب عقب تصديق الكنيست الإسرائيلي على إلغاء قانون فك الارتباط، وموافقة المستوى السياسي على عودة المستوطنين إلى البؤرة الاستيطانية "حوميش" شمال الضفة الغربية، وهي واحدة من أربع مستوطنات أُخليت عام 2005 ضمن تطبيق خطة "فك الارتباط".
وأكدت واشنطن، في تصريحات على لسان المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية، ماثيو ميلر، الشهر الماضي، أن القرار الإسرائيلي بشأن بؤرة "حوميش" الاستيطانية لا يتوافق مع التزامات تل أبيب مع الإدارة الأميركية.
وتوالت الانتقادات الأميركية، بانتقادها تعليمات وزير المالية الإسرائيلي، الوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، في مايو/أيار الماضي، لممثلي الوزارات "بالاستعداد لاستيعاب نصف مليون مستوطن جديد في الضفة الغربية، ولتحسين البُنى التحتية في المستوطنات والبؤر الاستيطانية".
ودفع هذا الأمر السفير الأميركي في إسرائيل توم نيدز، وقتئذ، للتحدث في الموضوع، مع عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين، بينهم وزير الشؤون الاستراتيجية رون درامر، المقرب من نتنياهو.
ولم تتوقف الانتقادات الأميركية عند هذا الحد، إذ انتقدت الولايات المتحدة مشروع القانون الذي اضطرت الحكومة الإسرائيلية تحت الضغط، لإرجاء مناقشته، وهو القانون الذي كانت تنوي طرحه في مايو الماضي، ويقيّد حصول الجمعيات والمنظمات المدنية على تبرعات من حكومات أجنبية.
ويستهدف القانون بالأساس منظمات حقوق الإنسان، التي تعتمد بشكل كبير على التبرعات الخارجية، بسبب قلة الموارد التي تحصل عليها من جهات في إسرائيل، وهو ما لم يرق للإدارة الأميركية.
تصريحات مثيرة للجدل
تقود القضايا الخلافية إلى تصريحات إسرائيلية تخالف المواقف الأميركية وتعزز التوتر، خصوصاً عندما تمس بشخصيات رفيعة، أو على أقل تقدير، تثير ردوداً أميركية تعبّر عن عدم رضا المسؤولين في البيت الأبيض.
وتورط وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في تصريح حاول تبريره لاحقاً، عندما هاجم يوم الأربعاء الماضي في حديث للإذاعة الإسرائيلية "ريشت بيت" نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، التي انتقدت خطة تقويض القضاء في إسرائيل. وقال كوهين "إنه لا يمكنها أن تذكر حتى بنداً واحداً يزعجها في الإصلاحات".
ومن "المفارقات" أن هاريس أدلت بانتقاداتها خلال خطاب ألقته في حدث داعم لإسرائيل في واشنطن، دافعت فيه عن "القيم المشتركة" بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تشكّل أساس العلاقة بين البلدين، مشددة على أهمية الحفاظ على استقلالية القضاء الإسرائيلي.
لكن إسرائيل تبقى الحليفة المدللة للولايات المتحدة، مهما اختلفت الآراء وتباعدت المواقف، لأن ما يجمعهما أكبر مما يفرقهما. ويعزز ذلك ما قاله السفير الأميركي في إسرائيل توم نيدز، في حديث لقناة 12 العبرية، الأربعاء الماضي، مؤكداً أن مشاركة هاريس في الحدث الداعم لإسرائيل، تتحدث بذاتها عن متانة العلاقة بين البلدين.
في المقابل، أوضح أنه يحترم كوهين، "لكن نائبة الرئيس قالت أموراً يرددها النظام (الأميركي) في كل مناسبة، بشأن القيم المشتركة بين البلدين"، مؤكداً أن "هاريس داعمة كبيرة لإسرائيل".
مستشار يحتقر بايدن
ويبدو أن نتنياهو ليس حريصاً على احترام شخص الرئيس الأميركي جو بايدن، وليس معارضة مواقفه فقط. فقد عيّن هذا الأسبوع، مستشاراً إعلامياً جديداً في ديوانه هو جلعاد زويك. وزويك قادم من القناة 14 الإسرائيلية المتطرّفة، وسبق أن نشر عدة تغريدات، عبر حسابه على "تويتر"، تحتقر بايدن. فتارة اعتبره "غير مؤهل"، وتارة أخرى "غير قادر على الكلام بقدراته الذاتية" وأنه "يدمّر الولايات المتحدة" وغيرها من التغريدات التي تملأ حسابه.
قاومت إدارة بايدن ضغوطاً لوضع شروط جديدة لتقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل
كما تبنّى مواقف عنصرية تجاه السود في الولايات المتحدة. وسبق أن شارك زويك عدة تغريدات للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، منها أحداث "سرقة الانتخابات" عام 2020. وعليه، سيكون هذا الاختيار من قبل نتنياهو خاضعاً للاختبار، حتى لو ادعى زويك التراجع عن أفكاره.
في غضون ذلك، لا يزال نتنياهو ينتظر تلقي دعوة من الرئيس الأميركي لزيارة البيت الأبيض، إذ لم يحدث أن مرّ كل هذا الوقت على رئيس حكومة إسرائيلي في الحكم من دون أن يتلقّى دعوة أميركية من هذا القبيل. ويدل هذا على الفجوات في مواقف الرجلين، وعدم رضا سيد البيت الأبيض عن نتنياهو وسياسات حكومته وشركائه فيها.
تحذيرات رغم متانة العلاقات
وسط هذا كله، بات الشق اليساري في الحزب الديمقراطي، والذي تتصاعد قوته في السنوات الأخيرة، يقود نهجاً فيه الكثير من الانتقادات لتل أبيب، الأمر الذي قد يتعزز في حال احتدام الجدل ووقوع تصادم بين نتنياهو وبايدن على خلفية الملف الإيراني، أو القضايا الخلافية الأخرى التي تطفو على السطح في الآونة الأخيرة، ومنها ما يتعلق بالشأن الداخلي الإسرائيلي.
مع هذا، قاومت إدارة بايدن خلال العام الأخير، ضغوطاً من أعضاء في مجلس الشيوخ وآخرين في الكونغرس، لوضع شروط جديدة لتقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل، وإجراء تحقيق أكثر صرامة في استشهاد الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، التي كانت تحمل الجنسية الأميركية أيضاً، علاوة على ممارستهم ضغوطاً للحد من البناء في المستوطنات.
وعلى الرغم من كل ما ذُكر من خلافات عينيّة وآنية وأخرى قد تكون أكثر تعقيداً، تبقى العلاقات الأميركية الإسرائيلية مميزة، إذ تقوم على "قيم" ومصالح وأفكار مشتركة، كما يردد الطرفان دائماً، وتعاون على أعلى المستويات في المجال العسكري ومختلف المجالات.
وتشكل هذه العوامل "السور الواقي" للعلاقة الوطيدة بين البلدين حتى في الفترات التي تشهد انقسامات وخلافات إزاء بعض القضايا والملفات.
ويمكن قراءة بعض الانتقادات الأميركية الأخيرة لإسرائيل، بدافع ذات المنطلقات التي تتحدث عن القيم المشتركة تجاه الديمقراطية والحرية والحفاظ على حقوق الفرد، التي ترى واشنطن أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تحافظ عليها، بل باتت تنتهكها. لكن الجانب الأميركي لا يفعل شيئاً على أرض الواقع لتغيير السياسات الإسرائيلية، إلا باعتراض هنا واحتجاج هناك.
في المقابل، مهما بالغت تل أبيب في مواقفها، لا يمكنها تجاهل الولايات المتحدة. وأكثر من هذا، يقود معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، برنامجاً بحثياً، بعض جوانبه وقائية للحفاظ على العلاقة "المميّزة" مع الولايات المتحدة.
ويتعامل البرنامج البحثي مع فهم التحولات في الساحة الأميركية، بما فيها السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط بشكل عام وإسرائيل بشكل خاص، وتحليل تداعيات هذه التحوّلات على العلاقة الخاصة بين الدولتين، وعلى الأمن القومي الإسرائيلي، وصياغة توصيات سياسية حول هذا الموضوع لصنّاع القرار في إسرائيل.
لكن المعهد نفسه ذكر، في 20 مارس/ آذار الماضي، عبر موقعه، غداة المكالمة الهاتفية بين بايدن ونتنياهو، والتي عبّر فيها بايدن عن قلقه إزاء ممارسات إسرائيل في الساحة الفلسطينية وخطة تقويض القضاء، أن على إسرائيل الحذر.
واعتبر المعهد أن الانتقادات التي حملتها مكالمة بايدن تنضم إلى سلسلة تطورات في الولايات المتحدة والتي يتوجب على الحكومة الإسرائيلية أخذها بعين الاعتبار، وإدراك أن خطواتها قد تؤدي إلى تدهور العلاقات بين البلدين.
وأوضح معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي أنه حتى لو كان يحق لإسرائيل الدفاع عما تعتقد أنه مهم لأمنها القومي، فإن أهمية الولايات المتحدة لأمن إسرائيل تتطلب إعطاء الأولوية للحفاظ على العلاقات معها كجزء من رزمة اعتبارات، على رأسها القدرة على إقامة علاقات جيدة بين قادة البلدين.
ولفت المعهد إلى أن واشنطن لن تتردد بتوجيه الانتقادات إذا رأت أن إسرائيل تعمل تماماً بخلاف "القيم الأساسية والمصالح المشتركة (بين الدولتين)". وقد ينعكس الرد الأميركي على شكل إدانات علنية، وصولاً إلى التآكل الفعلي للدعم الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.