تعود العلاقات الإسرائيلية الألمانية إلى العام 1965، وهو العام الذي شهد إقامة العلاقة الدبلوماسية بين البلدين. منذ ذلك الحين تتميز هذه العلاقة بأنها فريدة للغاية وأنها "حجر الزاوية في السياسة الخارجية الألمانية"، حسب تعبير وزارة الخارجية الألمانية. فرادة هذه العلاقة من وجهة النظر الألمانية الرسمية، ترتبط بالإرث الثقيل لقضية الإبادة الجماعية لحوالي 6 ملايين يهودي (حسب الأرقام الألمانية الرسمية) خلال الحقبة النازية في ألمانيا. هذا الإرث الذي أفضى بعد الحرب العالمية الثانية إلى توقيع اتفاقية لوكسمبورغ بين الطرفين عام 1952 المتعلقة بدفع التعويضات لضحايا عمليات الإبادة. في المجموع، بلغت مدفوعات التعويضات الألمانية حتى الآن أكثر من 74 مليار يورو، حسب بيانات الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الألمانية لعام 2021. التعامل مع هذا الإرث الثقيل كان سمة أساسية ميزت حقبة أنجيلا ميركل تجاه إسرائيل، فالسياسة الخارجية الألمانية خلال هذه الحقبة ارتكزت على أعمدة رئيسية أولها تعزيز الأمن الوجودي لإسرائيل، مع المضي قدماً في تعزيز التعاون على كافة المجالات وخاصة الاقتصادي. هذا ما جعل ألمانيا تصبح الشريك الاقتصادي الأهم لإسرائيل في أوروبا بحجم تجارة وصل إلى 6.9 مليارات دولار أميركي عام 2019. ناهيك عن التعاون العسكري والذي وصل إلى ذروته في العام 2020 حين شهد ولأول مرة، تدرب طيارين مقاتلين إسرائيليين وألمان معًا في ألمانيا، في إطار التعاون المشترك لتعزيز السياسات الدفاعية. وعلى الرغم من الاختلافات في الرأي حول بعض القضايا الجزئية المتعلقة بالقضية الفلسطينية في بعض مراحل حقبة ميركل مثل الموقف من بناء بعض المستوطنات في الضفة الغربية، إلا أن الشراكة الاستراتيجية كانت حاضرة وبقوة خلال هذه الحقبة. يمكن أن نستذكر هنا خطبة ميركل في الكنيست الإسرائيلي عام 2008، إذ كانت أول رئيسة حكومة أجنبية تتحدث في الكنيست، باللغة الألماني "لغة الجناة"، حسب تعبيرات إسرائيلية. في خطابها هذا رسمت ميركل الخطوط العريضة الجوهرية للسياسة الخارجية الألمانية تجاه إسرائيل: "في هذه المرحلة، أود أن أقول صراحة: كل حكومة فيدرالية وكل مستشار اتحادي قبلي كانوا ملتزمين بمسؤولية ألمانيا التاريخية الخاصة عن الأمن في إسرائيل. هذه المسؤولية التاريخية لألمانيا، هي جزء من مبرر وجودها. وهذا يعني أنه بالنسبة لي وبصفتي المستشارة الألمانية، فإن أمن إسرائيل لا يمكن التفاوض عليه أبدًا".
رفعت أنجيلا ميركل العلاقة الألمانية الإسرائيلية إذاً إلى مستوى جديد بعد هذا الخطاب من خلال إعلانها بأن حق إسرائيل في الوجود والأمن هو سبب من أسباب قيام دولة ألمانيا. وقد عززت السياسات الألمانية الرسمية هذا الموقف في مايو من هذا العام، بعد العدوان الأخير إثر أحداث حي الشيخ جراح، إذ انحاز السياسيون من جميع الاتجاهات الحزبية إلى جانب إسرائيل بشكل أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، وشددوا على حقها في الدفاع عن النفس. هذا الأمر كان تتويجاً لجملة من السياسات التي تضمن الأمن الإسرائيلي مثل قرار الحكومة في نيسان 2020 بحظر أنشطة حزب الله بشكل كامل على الأراضي الألمانية وإلغاء التمييز بين الجناحين العسكري والسياسي للتنظيم، لأنه يمارس أنشطة إرهابية حسب المراجع الحكومية الألمانية. وكذلك قرار البوندستاغ الألماني، كأول برلمان أوروبي، بإدانة حركة المقاطعة لإسرائيل (BDS) باعتبارها معادية للسامية، كما حظر القرار دعم أو تمويل كل المنظمات التي تقاطع إسرائيل أو تنكر حق إسرائيل في الوجود. معلم آخر في هذا الطريق الإستراتيجي كان في تعيين مفوض فيدرالي لمكافحة معاداة السامية في عام 2018، ومنذ ذلك الحين، عينت خمس عشرة ولاية فيدرالية مفوضين لمكافحة “معاداة السامية“ لتعزيز الحياة اليهودية على مستوى الدولة واتخاذ الإجراءات اللازمة ضد كل اشكال معاداة السامية. ومن نافل القوة بأن سلطة الكيان تعزف دائما على وتر معاداة السامية عند تعرضها لأي نقد يمس سياساتها العنصرية، في خلط متعمد بين ما هو متعلق بالدين اليهودي وبين الحركة الصهيونية.
بعد حقبة ميركل الوردية هذه فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، قد يطرح السؤال عما إذا كانت هذه العلاقة الاستراتيجية سوف تستمر في التعمق أكثر بعد خسارة ميركل وحزبها الديمقراطي المسيحي للانتخابات وبروز الحزب الاشتراكي كقائد محتمل لتشكيل الحكومة الائتلافية القادمة مع حزبي الخضر والديمقراطيين الأحرار. الجواب البسيط على هذا التساؤل هو: من غير المتوقع أن يفضي تغير الائتلاف الحاكم في ألمانيا إلى تغيرات جوهرية في السياسة الخارجية الألمانية تجاه القضية الفلسطينية. البرامج الانتخابية للأحزاب الثلاثة التي ستشكل الحكومة وهي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حزب الخضر، حزب الديمقراطيين الأحرار، تؤكد هذا الافتراض. فحزب الخضر لم يتطرق في برنامجه الانتخابي بشكل تفصيلي للصراع العربي الإسرائيلي، إنما اكتفى بالإشارة فقط إلى أن هدف السياسة الخارجية والأمنية هي "منع الأزمات، وإدارة الصراعات، وتعزيز السلام" تحت رعاية مبادئ الأمم المتحدة. الحزب الاشتراكي كذلك لم يذكر أي تفصيل يتعلق بالقضية الفلسطينية، واكتفى كذلك بالتأكيد على أن منظمة الأمم المتحدة المرتكزة على مبادئ حقوق الإنسان هي مجموعة عمل مهمة للغاية، وهي توفر الإطار المناسب لحل النزاعات بشكل سلمي على مستوى أوروبا والعالم. أما الديمقراطيون الأحرار فقد أشاروا صراحة في برنامجهم الانتخابي إلى حق إسرائيل في الوجود والدفاع عن شعبها وأرضها ضد كل أشكال الإرهاب. وتبنى الحزب تصوراً للسياسة خارجية يقوم على الدعوة لتنشيط عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية القائمة على مبدأ حل الدولتين. وأكد على أن التوسع بضم أراضي من الضفة الغربية وهو أمر يخرق القانون الدولي ويهدد عملية المفاوضات، ودعا في الوقت نفسه إلى فحص المساعدات الألمانية والأوروبية التي تقدم للسلطة الفلسطينية، لضمان عدم استخدامها في تمويل الإرهاب.
برامج الأحزاب المنتصرة تدعونا للاعتقاد بأن السياسة الخارجية مازالت رهن التاريخ والإرث الثقيل الذي خلفته الحقبة النازية. لا يبدو أن هذه السياسة سوف تتغير مع تغير الائتلاف الحكومي الحاكم. القوى السياسية الثلاث التي ستشكل الحكومة أي حزب الخضر، والديمقراطيون الأحرار، بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي لا يملكون أي رؤية جديدة تختلف جوهرياً عما سبقها فيما يتعلق بالقضايا الإستراتيجية للسياسة الخارجية. فهذه الأحزاب ما زالت ملتزمة بحلف الناتو كإطار أساسي لضمان الأمن الأوروبي، وهي تنظر بالتالي لروسيا والصين على أنها القوى الأكثر تهديداً للأمن الأوروبي والمصالح الاقتصادية الحيوية الأوروبية.
فيما يتعلق بالشرق الأوسط فإن التركيز على أمن إسرائيل سيبقى هو الأساس، مع الالتزام العام بمبادئ الأمم المتحدة وخطابها المرتكز على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحل الدولتين كتصور أساسي لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي، دون ممارسة ضغوط حقيقة تذكر على الكيان الصهيوني لقبول حتى هذا الحل.
ما يعنينا في هذه القضية وقبل كل شي هو التأكيد على أن الدول ليست جمعيات خيرية وإنسانية، إنما أجهزة مصلحية تغير سياساتها بمقدار ما يحقق لها هذا التغير مصالح أكبر. وعليه فإن أي تغيير إيجابي مرجو للسياسة الخارجية الألمانية والدول الأخرى تجاه القضية الفلسطينية يبقى أمراً مرهوناً بقدرة الفلسطينيين والعرب عموما على ممارسة ضغوطا استراتيجية قادرة على تغيير مواقف حكومات الدول الأخرى تجاه قضيتهم الجوهرية. مثل هذا التغير المرتقب يبقى رهيناً وبالدرجة الأولى بتجاوز حالة الانقسام الداخلي في فلسطين، وقدرة القوى الفلسطينية ومن ورائها القوى الوطنية العربية على الحفاظ على المسلمات الأساسية للقضية الفلسطينية وفي مقدمتها حق العودة، وتجنيد كل الطاقات والإمكانات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية عموماً في سبيل ذلك.