ماذا يحدث في القدس المحتلة؟ هذا هو السؤال الذي تتناقله هذه الأيام ألسنة المقدسيين بعد التطورات الأخيرة التي أعقبت موجة التطبيع العربية الأخيرة مع الاحتلال، والتي استهلتها بداية الإمارات، ثم البحرين، ليتبعهما لاحقاً السودان. ففي الوقت الذي نجح فيه الاحتلال في تجفيف مراكز قوة ونفوذ السلطة الفلسطينية، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، لتصبح السلطة عاجزة عن تقديم العون والدعم والمساعدة لمواطني القدس وتجارها وكافة قطاعاتها إلا القليل، وممنوعة من القيام بأي نشاط حتى ولو كان احتفالاً، بات المقدسيون في الجانب الآخر من هذه التطورات يرون ويتلمسون حضوراً وتعزيزاً لنفوذ الإمارات تحت غطاء تقديم الدعم والعون والمساعدة لمواطني المدينة، وتحديداً التجار.
وتجاوز الأمر ذلك من خلال ضخ الإمارات أموالاً لشراء عقارات، لا سيما في البلدة القديمة، وفق اتهام أوساط مقدسية لأبوظبي، إضافة إلى فتح قنوات اتصال مع العديد من التجار، وتقديم وعود لهم بمساعدات مالية مباشرة أو تمويل مشاريع صغيرة. كما كشف بعض التجار عن محاولات إماراتية من خلال أشخاص يعرّفون عن أنفسهم بأنهم رجال أعمال عرضوا عليهم سداد ديونهم الضريبية المتراكمة مقابل الدخول في شراكة معهم في إدارة مصالحهم التجارية، وإدارة شؤون عقاراتهم، وتمويل بناء عقارات على مشارف البلدة القديمة.
وقال أحد التجار الذين التقاهم "العربي الجديد"، إنه تلقى في يوم واحد مجموعة من الاتصالات الهاتفية من دولة الإمارات، إلا أنه امتنع عن الرد عليها لإدراكه بأن ما يدور الآن ستكون له تبعات عديدة على أكثر من صعيد، لا سيما أن هذا الانفتاح الإماراتي الجديد على المقدسيين مرتبط بعملية التطبيع الأخيرة مع الاحتلال، وبالتالي لا تحمل هذه المحاولات أي نوايا بريئة. وأشار التاجر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أنه دعي إلى اجتماع من قبل مؤسسة محلية تموّل مشاريع صغيرة في القدس المحتلة، للتشاور معه بصفته عضواً في لجنة تجار القدس حول ما يمكن لهذه المؤسسة أن تقدّمه من مساعدات لتجار البلدة القديمة، وحين سأل ممثلي المؤسسة عما إذا كان بإمكانهم دفع مساعدة شهرية بقيمة ألف دولار لكل تاجر، اعتذروا عن هذا الشكل من المساعدة، وأبلغوه باستعدادهم فقط لتمويل مشاريع، وبالتالي انتهى الاجتماع من دون الاتفاق على شيء.
وفي السياق، قال متابعون لهذه التطورات "إن النشاط المتزايد للإمارات سواء من قبل مواطنيها أو من يتعاونون معها من الفلسطينيين، يلقى دعماً ما، وإن كان غير واضح المعالم من قبل جهات وأوساط إسرائيلية رسمية وشبه رسمية تغض الطرف عن تلك النشاطات، والتي يقولون إن هدفها محاربة ما يسمونه النفوذ التركي والقطري في القدس المحتلة.
تتعمّد الإمارات إرسال وفود منها إلى المسجد الأقصى تحت حماية شرطة الاحتلال
وفيما تبدو محاولة لنقل الصراع الخفي بين الإمارات والسلطة الفلسطينية من أروقة السياسة وكواليسها إلى أرض الواقع وتحديداً في مدينة القدس، فإن القلق يساور الأوساط الفلسطينية الرسمية إزاء هذه الحملة المحمومة التي تقودها الإمارات، والتي من الواضح أنها تلقى دعماً ومساندة من السعودية ومن البحرين، وحتى من بعض الأوساط الفلسطينية المحلية.
وما يثير القلق الفلسطيني خصوصاً، تعمّد الإمارات إرسال وفود منها إلى المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال لاستفزاز المصلين الفلسطينيين وإدارة الأوقاف الإسلامية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الدينية في الأردن، صاحب الولاية على المسجد الأقصى. وفي هذا الإطار، أثارت زيارتان لوفدين تطبيعيين إماراتيين أخيراً، ودخولهما إلى الأقصى بحماية شرطة الاحتلال، غضب المقدسيين الذين طردوا أحد الوفدين بعد تبادل الشتائم مع أعضائه، في حين تدخلت شرطة الاحتلال واعتقلت أحد المرابطين وأبعدته عن الأقصى لمدة خمسة أشهر.
الباحث المختص في شؤون القدس جمال عمرو، علّق على التطورات الأخيرة وتنامي الدور الإماراتي في القدس، قائلاً لـ"العربي الجديد": "هناك أصابع إماراتية متعددة على جميع الأصعدة، وليس فقط على صعيد اقتحامات الأقصى الأخيرة من قبل مجموعة من أفراد أمن إماراتيين، وبالتالي هم يستهدفون المقدسات وبالدرجة الأولى المسجد الأقصى". وأضاف عمرو: "لا يخفى دور الإمارات في شراء أكثر من 27 عقاراً في القدس وسلوان وتسليمها لعتاة المستوطنين، ويومها قال وزير البناء والإسكان الإسرائيلي أوري أرئيل إن ما تم يعادل ما حصل بحرب عام 1967".
وعما استجدّ على الدور الإماراتي في القدس، قال عمرو: "الشيء الذي استجد لم يعد بين الإماراتيين والمقدسيين مباشرة، بل بين الإماراتيين وحلفائهم الصهاينة، وهذا مكمن الخطورة، وهنا تبرز أهمية التنبيه لهذه المخاطر، ومن بينها تمويل مشروع وداي السليكون في حي واد الجوز، شمال البلدة القديمة، على حساب المنطقة الصناعية هناك، وإغراء الذين هم في المنطقة الصناعية، وقد صرحت بذلك نائبة رئيس بلدية الاحتلال في القدس فلور حسن ناحوم، التي ذهبت إلى الإمارات وطلبت التمويل اللازم لهذا المشروع، وقوبل طلبها بالترحيب الكبير". وتابع: "الآن يأتي دور التجار في البلدة القديمة، ولن تتوقف الإمارات عند مشروع وادي السليكون، بل ستغري أصحاب المحلات التجارية القريبة جداً من المسجد الأقصى وفي محيطه، ويبدو أنها تقطع أشواطاً إضافية على هذا الصعيد".
ومشروع "وادي السليكون" في وادي الجوز في القدس المحتلة، هو جزء من مخطط كبير وشامل يستهدف مدينة القدس، والهدف منه تحويل القدس إلى مدينة سياحية وجامعية تعتمد على تكنولوجيا "الهاي تيك". والمشروع سيُقام في منطقة تقع وسط القدس ذات الكثافة السكانية الفلسطينية العالية، ويعدّ أسرع عملية تهويد للمدينة.
الباحث في جمعية الدراسات العربية مازن الجعبري، تحدث لـ"العربي الجديد"، عن الدور الإماراتي قبل توقيع اتفاق التطبيع مع دولة الاحتلال وبعده، قائلاً "توقيع اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي لم يكن مفاجئاً، فكل الإشارات والتقارير السابقة كانت تتحدث عن عمق العلاقات الإماراتية الإسرائيلية السرية، وخصوصاً في مجال الأمن والتنسيق في العديد من القضايا في المنطقة، منها إيران، واللقاءات السرية بين زعماء البلدين على مر السنوات الماضية"، مضيفاً "المفاجأة كانت في استعداد البلدين لإقامة العلاقات واندفاع التطبيع، لا سيما على مستوى رجال الأعمال، لإقامة مشاريع مشتركة في المنطقة، خصوصاً في مجال التجارة والتقنيات الرقمية والبنية التحتية والأمن".
باحث فلسطيني: سبق إقامة العلاقات الرسمية تورط الإمارات في شراء عقارات لصالح المستوطنين
ولفت إلى أن "الشغف الإماراتي للتعاون مع الإسرائيليين انعكس بشكل واضح على ما يجري في القدس، علماً أنه سبق إقامة العلاقات الرسمية تورط الإمارات في شراء عقارات لصالح المستوطنين، بالإضافة إلى إنشاء صندوق إماراتي في القدس يديره فلسطينيون مرتبط بالإمارات والقيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان"، مشيراً إلى أن "الأخبار تزايدت عن مشاريع مشتركة وافق عليها الطرفان لصالح العمل في القدس، خصوصاً في مجال العقارات والتجارة والتقنيات الرقمية، وبدأت ملامح تدخلات أكثر خطورة وتحديداً في منطقة المسجد الأقصى، وذلك بعدما وافقت الإمارات على أنّ مرجعيتها مع إسرائيل ستكون صفقة القرن والتي نصّت على أنّ المسجد الأقصى هو مكان عبادة لكل الأديان، وبالتالي من حق اليهود الصلاة فيه". وتابع: "هذا ما ستعمل إسرائيل على تحقيقه من خلال العلاقات مع الإمارات لتجسيد رؤية الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب لاتفاقات أبراهام (اتفاقات التطبيع الأخيرة)، من خلال تشغيل خط حجاج للمسلمين من عدة دول عبر الإمارات وصولاً إلى القدس، ومساعدة إسرائيل في تخصيص المسجد القبلي لصلاة المسلمين، وباقي المسجد الأقصى لباقي الأديان ولا سيما الديانة اليهودية"، مضيفاً أن "الشق الثاني من التخوفات هو دخول الإمارات على سوق العقارات في القدس، ولاسيما المحلات التجارية في البلدة القديمة واستغلال المشاكل الاقتصادية عند أصحابها لشرائها أو استئجارها بالشراكة مع الإسرائيليين".
وأردف الجعبري قائلاً: "دولة الإمارات تعمل على تعميق المحور المضاد للثورات العربية وتعمل على محاربة تركيا والإخوان المسلمين في الدول العربية، لذلك العلاقات مع دولة الاحتلال سوف تفتح لها المجال للعمل في مدينة القدس ضد ما تعتبره النفوذ التركي، ومحاربة حركة الإخوان المسلمين في المدينة"، معتبراً أن "الحكومة الإماراتية ترى في العمل بالقدس مصلحة لتحقيق سياساتها بالتعاون مع الإسرائيليين، لا سيما أنها تتبنى السياسة الأميركية الإسرائيلية في ما يتعلق بالفلسطينيين، وترى في حركة التحرر الفلسطينية خطراً على مصالحها في المنطقة، وسوف تعمل بصلابة مع الإسرائيليين لمحاربة التطلعات الفلسطينية، وستوسع من نشاطاتها المختلفة في القدس بما يحقق رؤية الإدارة الأميركية للقدس كما نصت عليها صفقة القرن".
ما ذهب إليه عمرو والجعبري، تؤكده وقائع على الأرض، إذ ينشط إماراتيون عبر وسطائهم المحليين في التواصل مع مختلف القطاعات المقدسية التي تعاني معظمها من أوضاع اقتصادية سيئة وصعبة جداً. ومع غياب الدعم الرسمي الفلسطيني لهذه القطاعات، في مقابل تنامي الدور الإماراتي، يبرز السؤال التالي: من يكسب المعركة على القدس وقد أظهر الإماراتيون استعداداً أكبر لوضع موطئ قدم لهم ينازع السلطة الفلسطينية على أرضها، وينازع الأردن على المسجد الأقصى من خلال الوفود التي يحضرها الإسرائيليون؟