- الضغوط الدولية والإقليمية تزايدت لإصلاح السلطة الفلسطينية وسط فساد وسوء إدارة، بينما تخطط إسرائيل لإيجاد بديل في غزة يخضع لسيطرتها، مما يواجه مقاومة من السلطة الفلسطينية.
- أعلن الرئيس أبو مازن عن تكليف حكومة جديدة بقيادة محمد مصطفى للإعمار والإصلاح، ولكنها تواجه تحديات بما في ذلك الرفض الإسرائيلي لأي دور لها في غزة والحاجة إلى توافق وطني.
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما تبعه من عدوانٍ، وحرب إبادةٍ شاملةٍ شنتها قوات الاحتلال، وحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل على الشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزّة، وامتدادها إلى الضفّة الغربية، والمخيّمات الفلسطينية وبؤر المقاومة، التي ترافقت مع هجمةٍ استيطانيةٍ شرسةٍ، مثَّل ذلك كلّه لحظةً تاريخيةً فاصلةً، وفرصةً لإعادة تفكيك الحالة القيادية، والمنظومة السياسية الفلسطينية وبنائها، بما يمكنها من مواجهة التحديات الوجودية، التي فرضها العدوان على شعبنا وقضيتنا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى استثمار اللحظة السياسية الدولية، التي عادت فيها القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي.
إذ كانت الأعين موجهةً إلى غزّة ومقاومتها، بشأن قدرتها على الصمود وكسر العدوان، وإحباط مخططات الاحتلال في التهجير وعودة الاستيطان إلى غزّة، فإنّ الفضول والتساؤلات قد زادت حول دور السلطة الوطنية الفلسطينية وموقفها، وحول فصائل منظّمة التحرير وأطرها، ومدى قدرتها على تجاوز حاجزين أبقياها عاجزةً عن تجاوز حالة الانقسام، هما: التزاماتها تجاه إسرائيل والولايات المتّحدة، التي فقدت مبرر بقائها قبل 7 أكتوبر، مع صعود حكومة اليمين، وإعلانها عن عدم الاتصال بالسلطة الفلسطينية، ثم انتفت كلّيًا بعد نفي بنيامين نتنياهو إمكانية عودة السلطة الفلسطينية إلى غزّة، كما أنّه لن يسمح لها بلعب أي دورٍ، وإمعانه بدل ذلك في إضعافها ومحاصرتها مالياً وسياسياً، بالتزامن مع تزايد المطالبات الدولية والعربية بضرورة إصلاحها، وإعادة هيكلتها وتجديدها. أما ثاني العوائق؛ فهو حكم حماس لغزّة، الذي تحول مع العدوان إلى حكمٍ مُستهدفٍ ومهددٍ بالاجتثاث.
خطط الاحتلال لإيجاد جسمٍ سلطويٍ بديلٍ، أو مهجنٍ "مُوالٍ، ولا يؤمن أو يدعو أو يمول أو يربي على الإرهاب"
عناوين متضادة للإصلاح
ليس بالضرورة أن يُفهم الشيء ذاته من جميع الأطراف عند الحديث عن "الإصلاح والتجديد" وغيره من المصطلحات التي باتت لازمةً ترتبط عضويًا، وتتكرر على لسان كلّ الأطراف، عند الحديث عن السلطة الفلسطينية.
الولايات المتّحدة وإسرائيل أوّل من طرح قضية إصلاح السلطة "وتأهيلها"، من أجل ضمان قدرتها على البقاء في الضفّة الغربية، وعدم انهيارها والدخول في مواجهةٍ مباشرةٍ تفرز حالةً قياديةً وشعبيةً ووطنيةً متأثرةً بالمواجهة المحتدمة في غزّة.
وصلت الولايات المتّحدة وبعض الدول الغربية إلى قناعةٍ تامةٍ بأنّ ضعف السلطة الفلسطينية، وعدم الرضى عن أدائها شعبياً، يعود إلى سجلها الحافل بالفساد وسوء الإدارة، وعدم قدرتها على بناء منطومة حكمٍ شفافةٍ ومتطورةٍ، أو تجديد هياكلها ...ألخ، وليس انسداد الأفق السياسي أمامها، وإفلاس مشروعها التفاوضي، الذي لم تمتلك بديلاً عنه، ولا قدرةً على فرضه، في الوقت الذي تباهى فيه نتنياهو بأنّ أهمّ مآثره في الحكم هو "محاربته فكرة حلّ الدولتين، وإزالتها عن جدول الأعمال".
من منطلق هذه القناعة، ونظرًا إلى الاعتبارات الإدارية والبنيوية، على اعتبارها السبب في إخفاق السلطة، تركزت دعوات الإصلاح الأميركية والغربية على الشق المتعلق بطريقة إدارة الرئيس محمود عباس لدفة الحكم، والطريقة المتفردة التي ميزت حكمه، واستحواذه على الصلاحيات كلّها، وإخضاع الأجهزة والمنظومات المالية والعسكرية والإدارية التي ينخرها الفساد، والتي تعاني من أزمةٍ ماليةٍ خانقةٍ إلى سلطته الفردية، لذا طالبت بتجديد هياكل هذه المنظومة، و"انتزاع" جزءٍ من صلاحيات الرئيس أبي مازن لصالح رئيس وزراء (متوافق عليه)، لا يخضع لسلطة الرئيس، يقود عملية إصلاحٍ شاملةً، ويمهد لإجراء انتخاباتٍ تفرز قيادةً جديدةً منتخبةً تحافظ على السلطة ودورها.
إسرائيلياً، عبر نتنياهو عن رؤيته لإصلاح السلطة الفلسطينية، في سياق حديثه عن نتائج الحرب على غزّة، التي نظر إليها على أنها فرصةٌ مواتيةٌ لتدمير المجتمع، ومؤسسات الحكم، والبنية التحتية، والمنظومات الصحية والتعليمية والمحلية في القطاع، بهدف إعادة احتلاله وإخضاعه للحكم العسكري المباشر، بعد تهجير معظم سكانه، والتكفير عن خطيئة الانسحاب منه. على أنقاض الركام والدمار الممنهج، الذي يمارسه جيش الاحتلال في غزّة، يخطط الاحتلال لإيجاد جسمٍ سلطويٍ بديلٍ، أو مهجنٍ "مُوالٍ، ولا يؤمن أو يدعو أو يمول أو يربي على الإرهاب"، مهمته الإذعان للسيطرة الأمنية الإسرائيلية الجديدة، والقضاء على المقاومة.
تحولت هذه الدعوات إلى العناوين الوحيدة التي يتحدث عنها المسؤولون الغربيون مع قادة السلطة، لكنها لم تدفع السلطة إلى البحث عن نقاط قوّةٍ تمكنها من صدّ هذه الضغوطـ، واستثمار اللحظة السياسية والميدانية المؤاتية لإعادة بناء دورها ووظيفتها، من خلال توحيد الساحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، بل نظرت إليها على اعتبارها محاولاتٍ لإقصاء الرئيس أبي مازن واستبداله.
حكومة محمد مصطفى
أعلن الرئيس أبو مازن، بعد مخاضٍ طويلٍ، وترقبٍ محليٍ ودوليٍ، عن تكليف مسؤول صندوق الاستثمار الفلسطيني محمد مصطفى تأليف حكومةٍ جديدةٍ، تحل عوضاً عن حكومة الدكتور محمد شتيه. تضمن كتاب التكليف 11 بنداً، تحدثت عن المهمات المناطة بالحكومة المكلفة، بدءاً من إعادة إعمار قطاع غزّة، مروراً بالإصلاح الداخلي المالي والإداري، وصون الحريات ومحاربة الفساد، وانتهاءً بالتحضير للانتخابات، وهي مهماتٌ تتقاطع مع مطالب المجتمع الدولي.
أيّاً يكن شكل الصراع، فإنّه سيبقى العلامة الوحيدة البارزة في العلاقة الداخلية، في ظلّ غياب التوافق، وترجيح كفة التفرد والاستحواذ على القرار الفلسطيني
لم يأخذ التكليف الجديد بعين الأعتبار أنّ المهمات المناطة بالحكومة، التي تعاني من أزمةٍ ماليةٍ خانقةٍ، سواء المتعلقة بقطاع غزّة، أو بالضفّة الغربية تحتاج إلى توافقاتٍ داخليةٍ، تستند إلى رؤيةٍ مشتركةٍ، توصل رسائل جادةً في مسألة الإصلاحات، كونها تنطوي على تحدياتٍ كبيرةٍ، ليس أقلّها معارضة الاحتلال عمل الحكومة، ورفضه إعطاءها أيّ دورٍ في غزّة، بالإضافة إلى ورفضٍ عربيٍ ودوليٍ لتمويل إعادة الإعمار من دون إحداث إصلاحاتٍ حقيقيةٍ وملموسةٍ في بنية السلطة، كما أنّ بوابة الدخول إلى غزّة تحتاج إلى توافقٍ وطنيٍ على مرجعيات الحكومة، والقبول بها من فصائل المقاومة، تحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
غياب هذه العناصر، جعل مهمة الحكومة ليست محكومةً بالفشل فقط، بل قابلةً لأن تكون نذيراً بعودة الصراع الداخلي، الذي بدأت تظهر بوادره من خلال البيانات الفصائلية، ومن شخصياتٍ اعتباريةٍ رافضةٍ للحكومة، ومنتقدةٍ لأسس اختيارها، التي استندت إلى قراءة الرئيس أبي مازن الشخصية للأزمة، على أنها صراعٌ على صلاحياته، ومحاولاتٌ تقف خلفها جهاتٌ داخليةٌ وخارجيةٌ تهدف إلى إضعافه، ومن ثم تجاهلت هذه التوليفة الداخلية؛ التي لم تتجاوز مكتب الرئيس أبي مازن في المقاطعة، الأطر الفلسطينية الأخرى، كما جاءت أقلّ بكثيرٍ مما طالبت به الدول الغربية والعربية، فضلاً عن أنها أضعف من أن تواجه إسرائيل، وتفرض عليها رؤيتها، سواء في الضفّة الغربية أو في قطاع غزّة.
إن تدفق الأموال، وعودة الدعم العربي والدولي، من أجل إنعاش السلطة، وإخراجها من أزمتها المالية، ومن حالة العجز التي تمر بها، وإعادة إعمار قطاع غزّة، وإحياء المسار السياسي، مرهونٌ بتأليف حكومةٍ توافقيةٍ تحمل رؤيةً شاملةً مدعومةً شعبياً، ولها غطاءٌ فصائليٌ عريضٌ، وتتمتع بصلاحياتٍ حقيقيةٍ، وهو ما تفتقده حكومة مصطفى، ويشي بعمرها القصير، وقلّة حيلتها.
هوامش التوافق والصراع!
تواصل الحرب على غزّة شهرها السادس من دون أن تظهر أي بوادرٍ على نجاح الاحتلال في القضاء على حركات المقاومة، رغم ما اقترفه من جرائمٍ ومجازرٍ وتدميرٍ، وهو ما يجعل الرهان على فرضية غيابها عن ترتيبات "اليوم التالي للحرب" يفشل تماماً. إنّ بقاء الكلمة الأخيرة في ترتيبات اليوم التالي للحرب بيد الفصائل في غزّة، وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي يتطلب توافقاً وطنياً على شكل الحكم والإدارة في الضفّة والقطاع، وهو ما نسفته حكومة مصطفى، ما يعني أن باب الصراع قد فتح على مصراعيه.
إن الصراع الذي تفجر لن ينفصل عن نتائج الحرب، وما سينتج عنها، ولا عن التجاذبات الدولية والإقليمية، وبالتالي ومن ثم لن يبقى حبيس المكاتب والبيانات والتراشق الإعلامي، خاصّةً أن هوية القطاع والسلطة ومستقبلهما ووظيفتهما ستتشكل وفق نتائج الصراع.
إحدى أوجه الصراع الممكنة هو عودة حالة الانقسام، أو بالأحرى بقاؤها، وتأليف حكومةٍ بلونٍ وطيفٍ ووظيفةٍ مختلفةٍ في غزّة، تصارع حكومة مصطفى على أولويّة إعادة الإعمار وأهليتها للقيام به من موقعها في القطاع، كما قد يتفجر على شكل صِدامٍ سياسيٍ وشعبيٍ، أو مواجهةٍ مع الاحتلال، تمتد إلى الضفّة الغربية، وتعيد خلط الأوراق كلّيًا، في ظلّ حكومة اليمين الفاشي، ومشاريعها القائمة على الترانسفير، والمحو، والاستيلاء على الأرض.
أيّاً يكن شكل الصراع، فإنّه سيبقى العلامة الوحيدة البارزة في العلاقة الداخلية، في ظلّ غياب التوافق، وترجيح كفة التفرد والاستحواذ على القرار الفلسطيني، والجمود في واقعٍ متحركٍ باستمرارٍ، يسير عكس الأتجاه الذي تبحر به حكومة محمد مصطفى.