يروي الكاتب والمترجم السوري مجد الدين صالح فصولاً من إقامة الزعيم السوفييتي ليون تروتسكي وعائلته في إسطنبول، منفياً وهارباً من رغبة ستالين في تصفيته.
في 23 فبراير/ شباط 1929، حطّت سفينة قادمة من مدينة أوديسا تحمل اسم "إيليتش" في مدينة إسطنبول. كان على متنها أحد رموز الثورة البلشفية؛ الزعيم السوفييتي ليون تروتسكي وزوجته ناتاليا وابنه ليف سيدوف. من هذا المشهد بدأ الصحافي التركي عمر سامي جوشار كتابه "تروتسكي في إسطنبول"، والذي صدر للمرة الأولى عام 1969، وأعادت دار نشر "أيش" التركية نشره مرة أخرى في عام 2010.
يعتمد الكتاب على المراسلات الرسمية والأخبار التي نشرت في حينها عن الأمر، وتناول بشكل تفصيلي السنوات الأربع والنصف التي قضاها تروتسكي في إسطنبول؛ محطته الأولى بعد نفيه خارج الاتحاد السوفييتي، وطريقة التعاطي الحذرة للحكومة التركية مع الشخص الذي كان يعتبره ستالين التهديد الأول، والذي رفضت في حينها كل الدول الأوروبية منحه تأشيرة الدخول إلى أراضيها، بسبب خوفها من تحريكه الحزب الشيوعي والعمال في دولها، بالإضافة إلى إدراكها جميعها أن ستالين متربّص به ويريد قتله.
يذكر الكاتب أن تركيا وضعت شروطاً لقبول لجوء تروتسكي، أهمها منعه من التدخل في مسائل الحزب الشيوعي التركي، وضمانة من الإدارة الروسية بأنّها لن تغتاله داخل تركيا. بينما ضمنت له حرية حركته متى أراد الخروج من تركيا، وسمحت له أن ينشر ما يريد ولكن ليس في الصحف التركية.
تروتسكي القلق من العملاء التابعين لستالين في تركيا، والخائف من جهة أخرى من الروس البيض الذين هجرهم من روسيا إلى تركيا أرسل إلى أتاتورك رسالة عند وصوله إلى إسطنبول يقول فيها: "أنا الآن على أبواب إسطنبول، وأرغب في أن أُعلم حضرتكم بأنني لم آتِ إلى هنا بإرادتي، بل أُجبرت على ذلك. تقبّلوا مني مشاعري الخاصة واحترامي لكم". مصطفى كمال أتاتورك الذي يحمل تقديراً خاصاً لتروتسكي بسبب إشرافه على إرسال السلاح إلى تركيا خلال حرب الاستقلال، لم يرد عليه بشكل مباشر، بل من خلال والي إسطنبول محي الدين استون داغ الذي أرسل له قائلاً:
"لم نكن نعلم أن قدومكم هو نفي. تم طلب تأشيرتكم لأغراض طبية، ونحن وافقنا على هذا الأساس. لن يتم احتجازكم في تركيا ولن تكونوا معرضين لأي خطر هنا، وسنضمن لكم حرية التنقل في تركيا في حال رغبتم في البقاء فيها، وسنعمل على توفير جميع سبل الراحة والأمان لكم". بحسب استون داغ فإن مخابرات الجمهورية التركية لم تكن على علم بموضوع لجوئه إلى تركيا.
بداية نشاط تروتسكي ضد ستالين
بدأ تروتسكي نشاطه ومراسلاته لأتباعه بعد دخوله القنصلية السوفييتية في إسطنبول، والتي اتخذها مقر سكنه عند وصوله لاعتقاده أنه من الصعب على أحد اغتياله داخل القنصلية. لكن الأتراك كانوا قلقين جداً من فكرة قتل تروتسكي على أرضهم، لذلك قامت وزارة الخارجية بإرسال رسالة إلى وزارة الداخلية تنصّ على: "نطلب من قائد الشرطة في إسطنبول أن يذهب مرة في الأسبوع ليقابل تروتسكي شخصياً، ويسأله ما إذا كان لديه أي حاجة، ويعود لنا بتقرير مفصل". كتب تروتسكي أول مقالة ناقدة لستالين ونشرت في صحيفة أميركية وفي صحف أوروبية أخرى خلال وجوده في القنصلية، وكان ابنه ليف سيدوف يخرج يومياً عبر جادة الاستقلال في حي بي أوغلو في إسطنبول ويوصل مقالة والده عبر التلغراف للصحف الغربية.
مقالاته حملت الكثير من الهجوم الشخصي على ستالين ونهجه، فوصفه في أحد المقالات التي نشرها:
"أكثر شيء يلفت الانتباه هو أن ستالين الشخصية الأقل قيمة في الحزب! وهو ضيق الأفق سياسياً لأبعد درجة. بالنسبة لفكره النظري فهو فكر أطفال في الابتدائي. بينما كتابه "أسس اللينينية" مليء بالأخطاء التي يرتكبها طلاب المدارس. لا يعرف أي لغة أجنبية، وبسبب ذلك يبني نظرته عن التطورات في الدول الأخرى من آراء الآخرين ولا يستطيع تكوين وجهة نظر خاصة به. كل أدواره في الحزب لم تكن أدوار أشخاص في الصف الأول، بل كانت أدواره في الصف الثاني أو الثالث في الحزب. كما يمكن لنا أن نرى ميزتيه الأساسيتين وقد أوضحهما لينين في وصيته: الوقاحة، وقلة الوفاء".
استخدم ستالين هذ المقالات كحجة لطرده من السفارة، ووصفه بأنه أصبح "عميلاً للغرب".
انتقل تروتسكي إلى فندق في منطقة تقسيم يبعد مئات الأمتار عن القنصلية الروسية ويدعى توقادليان، وحجز به الغرف رقم 67 و68 و70.
كانت لتروتسكي شعبية ضمن مثقفي تركيا بسبب تأثيره الفكري وإشرافه على دعم حرب الاستقلال التركية (1919-1923) بوصفه وزيراً للدفاع في الاتحاد السوفييتي في حينها، قبل أن يعود وينحاز معظمهم إلى ستالين، ومن أحد هؤلاء المثقفين المعجبين بتروتسكي كان ناظم حكمت الذي درس وعاش منفاه في الاتحاد السوفييتي بين عامي (1922-1928)، وقد وصف أحمد نور الدين إعجاب ناظم فكتب: "الجميع ترك القاعة التي كان يخطب بها تروتسكي. بقي فقط شخصان يستمعان إليه. الأول كان طالباً صينياً والثاني ناظم حكمت".
نظّم تروتسكي مؤتمراً صحافياً في فندق توقادليان واشترط عدم التقاط أي صورة له، لحرصه على عدم نشر صور حديثة له.
أهم ما ورد في هذا المؤتمر الصحافي هو أنه سيقود أنصاره التروتسكيين الموجودين بشكل سري في الاتحاد السوفييتي من إسطنبول، كما أنه أعلن الحرب على ستالين. أما عن بقائه في تركيا فقد صرّح تروتسكي لصحيفة "مليات" التركية: "السبب وراء رغبتي في الخروج من تركيا هو اللغة. أنا الآن في عمر متقدّم ولا أملك القدرة على تعلم لغة جديدة".
بعد التطمينات التي قدّمتها له الجهات التركية خرج تروتسكي في 20 مارس/ آذار 1929 من الفندق وسار برفقة ولده وزوجته إلى ميدان السلطان أحمد عبر جسر غالاطة وعاد سيراً على الأقدام إلى الفندق. بعدها بيوم ذهب في رحلة بالبوسفور ثم توجه نحو أرناؤوط كوي وكورو تششمه. وفي نهاية شهر مارس ذهب إلى كاراكوي وبعدها زار مقبرة أبو أيوب الأنصاري.
وفي 1 إبريل/ نيسان من عام 1929، نشرت صحيفة وقت خبراً تحت عنوان "تروتسكي دخل الإسلام"، وتوافد الكثير من الصحافيين إلى مقر إقامته في فندق توقادليان ليتأكدوا من الأمر، ولكن اتضح أن الخبر كان "كذبة أول إبريل".
عرضت عليه السلطات الانتقال إلى الجزيرة الكبيرة الواقعة في بحر مرمرة. وافق وانتقل إليها، ليسكن في قصر عزت باشا العربي والد أول رئيس للجمهورية السورية محمد علي العابد.
في هذا القصر، نظّم المعارضة ضد ستالين وكان المكان الذي سكنه لأطول مدة خلال فترة وجوده في تركيا. بالرغم من تدقيق الشرطة في الدخول والخروج إلى الجزيرة وأخذها احتياطات أمنية داخل المنزل، مثل إقفال بعض النوافذ، فإن تروتسكي الخائف من اغتياله طلب من حماته حتى منع دخول الباعة المتجولين لحديقة القصر.
يذكر الكاتب أن من ضمن الذين سكنوا معه فتاة اسمها سارة، تتحدث الروسية والتركية وتساعده في ترجمة الكتب والمقالات، وأُشيع أنه مع مرور الوقت نشأت علاقة بين تروتسكي وسارة. استقبل تروتسكي خلال فترة إقامته في هذا القصر بعض قادة حزب العمال البريطاني، وبعض التروتسكيين الفرنسيين، من بينهم رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي ألبرت ترينت، وماكس إيستمان وياكوف بلومكين أحد أكبر عملاء المخابرات السوفييتية في الشرق الأوسط الذي سيُعدم لاحقاً على يد ستالين. بالإضافة إلى إصداره مجلة كان يريد أن ينشرها في روسيا وطلب مساعدة بلومكين في هذا الأمر.
لم تكن حياة تروتسكي في الجزيرة الكبيرة فقط نشاطاً فكرياً وسياسياً، كان يخرج في رحلات لصيد السمك، كما أنه كان يستخدم السلاح الفردي بشكل مستمر لدواعٍ أمنية من جهة، ولكي لا يخسر قدراته الثورية والقتالية.
في إحدى الليالي، نشب حريق غير مفتعل بحسب التحقيقات التركية في قصر عزت باشا. تسبب هذا الحريق بتلف قسم كبير من مؤلفاته وأعماله. لكن تروتسكي كان يعتقد أن هذا العمل مدبر، ورفض الخروج حتى إلى الحديقة أثناء الحريق، لأنّه كان خائفاً من وجود مخطط لاستهدافه في حال خروجه.
انتقل تروتسكي بعدها إلى مكان إقامته الخامس في إسطنبول بمنطقة مودا في كاديكوي ومكث هناك لفترة قصيرة قابل فيها ملك أفغانستان أمان الله خان. إلا أن المكان لم يعجبه وطلب العودة إلى الجزيرة الكبيرة. عاد إلى قصر عائلة ياناروس الذي أصبح مكان إقامته السادس في إسطنبول.
سحب الجنسية من تروتسكي
احتدم الخلاف بين تروتسكي وستالين عام 1932 فأمر ستالين بسحب الجنسية السوفييتية منه ومن عائلته بقرار من اللجنة السياسية في الحزب الشيوعي. شعر تروتسكي بأنه محاصر فاستأنف محاولاته للخروج من تركيا. طلب تأشيرة إلى تشيكوسلوفاكيا من أجل العلاج، وافقت الحكومة في البداية ثم عادت ورفضت الأمر. قام اتحاد الطلاب في الدنمارك بدعوة تروتسكي لكوبنهاغن في الذكرى الـ15 للثورة البلشفية. وافقت الحكومة الدنماركية على الأمر ولكن بشرط أن يبقى فقط لمدة 8 أيام ويعود لتركيا. سافر تروتسكي وعائلته بجواز سفر تركي خاص يمنح للاجئين. وكان اسمه على الجواز ليون سيدوف أفندي.
نهاية إقامة تروتسكي في تركيا
بعد عودة تروتسكي إلى تركيا بفترة قصيرة، وصل إليه خبر انتحار ابنته في برلين. سبّب ذلك له أزمة نفسية كبيرة فأصدر أمراً للتروتسكيين في روسيا باغتيال ستالين.
استطاع تروتسكي الحصول على تأشيرة مشروطة إلى فرنسا، وأفرحه هذا الخبر خصوصاً بعد سماعه خبر أن ستالين سيحضر حفل الذكرى العاشرة لقيام الجمهورية التركية. غادر تروتسكي تركيا للمرة الثانية والأخيرة برفقة عائلته مستخدماً وثائق سفر تركية في 17 يوليو/تموز 1933.