بعد أسبوع تعرّضت فيه العلاقات الأوكرانية البولندية لأصعب اختبار منذ أعوام، بدا أن الأزمة بين البلدين تتجه نحو حلحلة تُغلّب فيها المصالح الجيوستراتيجية المتمثلة في وحدة المعسكر المناهض للحرب الروسية على أوكرانيا، على حساب القضايا الاقتصادية والاعتبارات الانتخابية الضيقة والمهاترات السياسية.
وبعد يوم من زوبعة أثارتها تصريحات رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي الأربعاء الماضي عن وقف كامل لإمدادات الأسلحة إلى كييف، قال الرئيس البولندي أندريه دودا مساء أمس الأول الخميس، إن تصريحات رئيس الوزراء "تم تفسيرها بأسوأ طريقة ممكنة"، موضحاً أن الحديث يدور فقط حول عدم تسليم أوكرانيا الأسلحة التي ستحصل عليها بلاده وفق صفقات الأسلحة الحديثة التي وقعتها بلاده مع كوريا الجنوبية والولايات المتحدة لتعزيز قدراتها الدفاعية.
وأضاف "لا يمكننا نقل أسلحتنا الحديثة التي نشتريها الآن للجيش البولندي بمليارات الدولارات، إلى طرف آخر". وشدّد دودا في مقابلة مع محطة "تي في إن 24" البولندية على أن بلاده ستواصل دعم أوكرانيا بمقتضى العقود القائمة ومن ضمنها تزويد أوكرانيا بمدافع "هاوتزر" ذاتية الدفع من طراز "كراب"، إضافة إلى عقود أخرى تتعلق بالذخائر ومعدات إزالة الألغام.
مورافيتسكي: أصبحت العلاقات مع كييف الآن على الأقل في حالة صعبة
على الجهة المقابلة، أعرب ميخايلو بودولياك، مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، عن ثقته بأن التحالف بين أوكرانيا وبولندا سيستمر على الرغم من الخلافات مع وارسو بشأن قضية الصادرات الزراعية.
وأشار في حوار مع صحيفة "لاريبوبليكا" أمس الجمعة، إلى أنه من "من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن الانتخابات مقبلة في بولندا، لذلك من المهم بالنسبة لهم حماية مصالح المزارعين والإنتاج الزراعي، ولهذا يجب النظر إلى كل شيء في مجموعة معقدة من العوامل"، مؤكداً أن "إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا تمرّ عبر الأراضي البولندية، وسيظل هذا هو الحال في المستقبل".
وخلص إلى أنه "واثق من أنه بعد الانتخابات، سيعود الحوار مع أصدقائنا البولنديين إلى لهجة ودية وسنحل جميع القضايا، سواء التجارية أو المتعلقة بشراكتنا"، لأن الشركاء البولنديين يدركون أن "روسيا تشكل الخطر الحقيقي".
إمكانية حل الأزمة
وفي مؤشر إلى إمكانية حل الأزمة التي تفجرت بعد قرار بولندا وسلوفاكيا والمجر عدم الامتثال لقرار المفوضية الأوروبية رفع الحظر المفروض على صادرات الحبوب الأوكرانية منذ مايو/أيار ولغاية منتصف الشهر الحالي، ذكرت الخدمة الصحافية لوزارة الزراعة الأوكرانية، أول من أمس الخميس، أن وزير الزراعة نيكولاي سولسكي اتفق في محادثة هاتفية مع نظيره البولندي روبرت تيلوس، على إيجاد حل يأخذ في الاعتبار مصالح البلدين، وأن بولندا وأوكرانيا ستتوصلان إلى حل للتعاون في قضايا التصدير في جولات مفاوضات في الأيام المقبلة.
ورغم انتقاده "عدداً من التصريحات والإيماءات الدبلوماسية غير المقبولة والمبررة للسياسيين الأوكرانيين"، أوضح المتحدث باسم الحكومة البولندية بيوتر مولر، الخميس، أن "مركز المساعدة الدولية (لتزويد أوكرانيا بالأسلحة) لا يزال يعمل في بولندا".
ومع إعلان وارسو عدم الالتزام بقرار المفوضية الأوروبية، تقاذف مسؤولو البلدين الاتهامات التي وصلت إلى ذروتها في كلمة زيلينسكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي قال فيها إنه "من المثير للقلق أن يجسد بعض أصدقاء أوكرانيا في أوروبا التضامن سياسياً على المسرح ويصنعوا قصة مثيرة من الحبوب". ونددت وارسو بتصريحات زيلينسكي ووصفتها بأنها "غير مبررة فيما يتعلق ببولندا التي دعمت أوكرانيا منذ الأيام الأولى للحرب".
واتجهت الأزمة والسجالات إلى توتر غير مسبوق بين الطرفين بعد تصريحات لرئيس الوزراء البولندي، ماتيوس مورافيتسكي، الأربعاء، رد فيها على حديث زيلينسكي لمحطة "بولسات نيوز" بالقول "إذا كنت تريد الدفاع عن نفسك، فيجب أن يكون لديك شيء للدفاع به عن نفسك. لقد أوقفت وارسو تسليح أوكرانيا مؤقتاً، وبشكل عام، أصبحت العلاقات مع كييف الآن على الأقل في حالة صعبة".
وفيما يخص الحبوب الأوكرانية أضاف مورافيتسكي: "الترانزيت – نعم، زعزعة استقرار السوق البولندية - لا"، مذكّراً بأن بولندا في طليعة الدول الداعمة لأوكرانيا، ومن أبرز مزوديها بالأسلحة منذ بداية الحرب الروسية في 24 فبراير/شباط 2022، وأن بولندا تستضيف نحو مليون لاجئ أوكراني استفادوا من مختلف أنواع المساعدات الحكومية.
وتشتكي بولندا وسلوفاكيا والمجر من أن الحبوب الأوكرانية غالباً ما تبقى في البلدان المجاورة بدلاً من المرور عبرها إلى مناطق أخرى، ما يؤدي إلى زيادة المعروض من المنتجات في السوق، وانخفاض الأسعار، وبالتالي عدم الرضا بين المزارعين المحليين. ورغم التحفظات السابقة قررت المفوضية رفع الحظر على صادرات الحبوب الأوكرانية، وقالت إنها أحيطت علما باستعداد أوكرانيا لتشديد الضوابط على تصدير أربع مجموعات من السلع (القمح والذرة وبذور الرايس وبذور عباد الشمس).
أعرب الجانب الأوكراني عن غضبه من موقف وارسو وبراتيسلافا وبودابست، الرافض لاستمرار تدفق الحبوب، وتقدم بشكوى إلى منظمة التجارة العالمية، مما استدعى رداً من الرئيس البولندي أندريه دودا، جمع بين النصيحة والتهديد، قال فيه "سيكون من الجيد لأوكرانيا أن تتذكر أنها تتلقى المساعدة منا، وأن تتذكر أننا أيضاً دولة عبور إليها"، ملمحاً إلى أن بلاده مركز العبور الأساسي للمساعدات الإنسانية والعسكرية.
وأشار، حينها، إلى أن "أوكرانيا تتصرف مثل رجل يغرق، فهي تمسك بكل شيء، ولكن خلال مساعدتها، لدينا الحق في حماية أنفسنا من الأذى". وأوضح أيضاً مرة أخرى أن بولندا لم تغلق حدودها أمام عبور الحبوب الأوكرانية، بل على العكس من ذلك، تضاعف الآن تدفقها عبر ممرات النقل البولندية مقارنة بالوضع في فبراير أو مارس/آذار الماضيين. وعلى خلفية السجالات ألغي لقاء كان مقرراً بين زيلينسكي ودودا على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
تراجعت نسبة قبول البولنديين لمساعدة الأوكرانيين من 91% إلى الثلثين
عامل الانتخابات
وجاء التوتر في العلاقات بين البلدين قبل نحو شهر من انتخابات برلمانية مقررة في بولندا منتصف الشهر المقبل. وكشفت أحدث استطلاعات الرأي أن التحالف القومي اليميني المتطرف "كونفدرالية الحرية والاستقلال"، الذي يتقاسم ناخبوه على نطاق واسع نفس القيم الوطنية والكاثوليكية مثل ناخبي حزب "القانون والعدالة" الحاكم، قد يفوز بما يتراوح بين 7 إلى 11.4 في المائة من الأصوات، مقارنة بنحو 6.8 في المائة في الانتخابات الماضية عام 2019.
وبدا أن حزب "القانون والعدالة" الحاكم يريد سحب ورقة استغلال تراجع تقبّل البولنديين لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين، ولو قليلاً، ففي العام الماضي كانت نسبة قبول البولنديين لمساعدة الأوكرانيين نحو 91 في المائة ولكنها تراجعت إلى الثلثين في مطلع الشهر الحالي.
كما يحرم تشدد الحكومة الحزب المنافس من كسب أصوات مزيد من المزارعين البولنديين المستائين من إغراق الأسواق بمنتجات الحبوب الأوكرانية. وأول من أمس الخميس، أشار وزير الشؤون الأوروبية البولندي شيمون شينكوفسكي فيل سينك، في مقابلة مع وكالة الأنباء البولندية، إلى أن بلاده تريد دعم أوكرانيا، مستدركاً "كي يكون ذلك ممكناً، يجب أن نحصل على دعم المواطنين البولنديين في هذا الشأن. وفي هذا الصدد، إذا لم يكن هناك دعم لمثل هذه الإجراءات من البولنديين، فسيكون من الصعب علينا مواصلة دعم أوكرانيا كما فعلنا حتى الآن".
وتعهد حزب "القانون والعدالة" في الحملة الانتخابية بالدفاع عن سيادة بولندا وتعزيز الحماية الزراعية. وأعلنت الحكومة البولندية أنها ستخفض على الأرجح الدعم المالي للاجئين الأوكرانيين اعتباراً من عام 2024. في الوقت نفسه، ومعلوم أن المفوضية الأوروبية اقترحت تمديد اللجوء المؤقت للأوكرانيين من 4 مارس 2024 حتى 3 مارس 2025.
في المقابل، قال رئيس حزب "القانون والعدالة" الحاكم، ياروسلاف كاتشينسكي، أمام الناخبين الأربعاء الماضي: "تذكروا أيها السادة، أن هذا الصدام غير السار وغير الضروري الذي حدث الآن لا يغير أي شيء عندما يتعلق الأمر بموقفنا تجاه الحرب في أوكرانيا. سندعم أوكرانيا حتى النصر". وكشفت تصريحات كاتشينسكي أن الموقف البولندي من الحرب لن يتغير وأن العلاقات الأوكرانية البولندية قد تعود إلى بعد الانتخابات البرلمانية.
أعلنت وارسو أنها ستخفض على الأرجح الدعم المالي للاجئين الأوكرانيين
مصالح ومخاوف مشتركة
رغم ثقل التاريخ بين البلدين بولندا وأوكرانيا، بدا واضحاً أن الحرب الروسية على أوكرانيا دفعت باتجاه تجاوز التاريخ والتركيز على العدو المشترك المتمثل في روسيا. ومن الواضح أن المصالح الاقتصادية المختلفة المرتبطة بتجارة الحبوب لن تؤثر بشكل كبير على العلاقات البولندية الأوكرانية، والأرجح أن البلدين سيتجاوزان الأزمة التي لا يمكن مقارنتها بالمطلق بالخلاف الكبير حول مذبحة فولينيا، التي وضعها الطرفان جانباً للتركيز على الصراع مع روسيا.
ومعلوم أن مجزرة فولينيا وغاليسيا الشرقية نفذها جيش التمرد الأوكراني في بولندا المحتلة من قبل ألمانيا النازية، بدعم متكرر من السكان الأوكرانيين المحليين ضد الأقلية البولندية في فولينيا وغاليسيا الشرقية، وأجزاء من بوليسيا ومنطقة لوبلين بين عامي 1943 و1945. بلغت المجازر ذروتها في يوليو/تموز وأغسطس/آب من عام 1943.
وكان معظم الضحايا من النساء والأطفال. أسفرت إجراءات جيش التمرد الأوكراني عن مقتل بين 40 ألفا و60 ألف بولندي في فولينيا و30 ألفا و40 ألف بولندي في غاليسيا الشرقية، ووصل العدد الإجمالي للضحايا لنحو 100 ألف قتيل.
وبغض النظر عن الضغوط الأميركية والغربية على بولندا لمواصلة أداء دورها كبوابة أساسية لدخول المساعدات إلى أوكرانيا، فإنه ليس هناك مصلحة استراتيجية لوارسو في معاداة كييف، فأوكرانيا شريك استراتيجي ضد التهديد الروسي، وبولندا تجد نفسها في وضع صعب إذا أخذنا في الاعتبار التهديد الإضافي من بيلاروسيا، لذلك فإن سيناريو هزيمة أوكرانيا يعد كابوساً مرعباً لبولندا، مما يحتم عليها مواصلة دعم أوكرانيا وإبقاء بوابات الدعم مفتوحة.
في المقابل، فإن أوكرانيا لا تريد عداوات إضافية مع جيرانها كما هو واقع الحال مع المجر بقيادة فيكتور أوربان، كما أنها تدرك أن انضمامها للاتحاد الأوروبي يفرض عليها بناء علاقات طيبة مع بولندا التي تعد من أكبر داعميها.
وعلى المدى المنظور فإن استمرار التوتر يضع عقبات في إقرار الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات اقتصادية مقترحة تبلغ نحو 53 مليار دولار لأوكرانيا، ومقترح مساعدات عسكرية بقيمة 21 مليار دولار تقريباً من المنتظر البت بمصيرها حتى نهاية العام الحالي.
ومعلوم أن بولندا قدمت لأوكرانيا 320 دبابة من الحقبة السوفييتية و14 طائرة مقاتلة من طراز "ميغ 29"، وليس لديها الكثير لتقدمه من الأسلحة القديمة. وبعدما استنزفت الحرب في أوكرانيا ثلث العتاد العسكري لدى بولندا عبر نقله إلى أوكرانيا، وقعت وارسو عقوداً ضخمة لشراء أسلحة حديثة من كوريا الجنوبية والولايات المتحدة.