انصب الاهتمام الأميركي في الملف السوري، خلال الأسابيع الماضية، على تجديد آلية إدخال المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى على الحدود الشمالية لسورية مع تركيا. وقد مرّ تجديد الآلية بيسر في مجلس الأمن الدولي بعد تفاهم أميركي ــ روسي، وإن كانت الصفقة بين واشنطن وموسكو غير واضحة المعالم. وبعد تجديد الآلية، باتت الأسئلة مشروعة حول الأولويات الأخرى للإدارة الأميركية تجاه الملف السوري، مع بروز عناوين أساسية، أهمها مرتبط بمسارات الحل السياسي السوري المتعثرة بسبب مماطلة وتعطيل النظام بدفع روسي. مع العلم أنه لم تنفع أمام هذا التعطيل كل الأساليب التي استخدمتها واشنطن بإداراتها الثلاث السابقة، لا سيما إدارة دونالد ترامب، للضغط على النظام. كذلك، فإن مسألة بقاء القوات الأميركية في سورية، تعدّ محط اهتمام، خصوصاً لجهة ما إذا كان سيقتصر بقاء القوات على حماية آبار النفط وتقديم الدعم اللوجستي لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) بمحاربة "داعش" أم سيكون لها مهام أخرى بتدعيم الاستقرار، ليس فقط في شرق سورية وشمالها، بل أيضاً في الشمال الغربي.
يشكل الوجود الإيراني محطة استفهام هامة بشأن كيفية التعامل معه من واشنطن
ويشكل الوجود الإيراني، محطة استفهام هامة بشأن كيفية التعامل معه من واشنطن، خصوصاً بعد أن كانت الأخيرة تركز على أن ضرورة إخراج المليشيات الإيرانية من سورية، أو على الأقل انسحابها من الجنوب السوري لطمأنة إسرائيل. وفي ظل تراخي إدارة الرئيس جو بايدن في هذه النقطة تحديداً، أو إهمالها مرحلياً بصورة مؤقتة، تدور شكوك جرى الحديث عنها صراحة في الأروقة الأميركية، لا سيما في الكونغرس، تتعلق باحتمال أن يؤدي الاتفاق حول البرنامج النووي مع إيران، إلى صفقة معها في سورية، تغضّ بموجبها أميركا النظر عن الوجود العسكري الإيراني في البلاد.
ويبرز ملف آخر متعلق بتعاطي الولايات المتحدة مع تركيا حيال الإشكاليات القائمة في الشمال السوري، شرقاً وغرباً. ومع إصرار أنقرة على التوسّع على حساب الأكراد جغرافياً في الشمال الشرقي من سورية، وتمسّك واشنطن بدعمهم، من دون أفق لحل لهذه المعضلة، سيكون من الأسهل للمتابع الاتجاه غرباً، لمعرفة ماهية الدعم الذي ستقدمه واشنطن لأنقرة في إدلب. مع العلم أن تركيا طلبت دعم الإدارة الأميركية السابقة، من خلال حلف شمال الأطلسي، في معركتها ضد قوات النظام السوري، في ربيع عام 2020، لتأمين غطاء جوي من أجل تدخل طيرانها الحربي، ولم تقابل الإدارة السابقة هذه المطالب بالإيجاب.
وسط كل هذا، تبرز نوايا النظام وحليفيه الروسي والإيراني، لجهة القيام بالمزيد من التوغل في إدلب على حساب المعارضة والجيش التركي. في المقابل، لا يُمكن التغاضي عن مطالب تركية سابقة تقضي بانسحاب قوات النظام إلى الحدود الجغرافية لاتفاق سوتشي الموقع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر/أيلول 2018. وهو اتفاق خرقه النظام بدعم روسي، عبر قضم أجزاء واسعة من إدلب ومحيطها، أو ما يعرف بـ "منطقة خفض التصعيد الرابعة"، وتهجير نحو مليوني مدني. بالتالي، تبدو مسألة الدعم الأميركي لتركيا مهمة في أي استحقاق مقبل.
ويبقى الموضوع الأهمّ، هو المرتبط بالتعامل مع القضية السورية في ظل بقاء بشار الأسد في السلطة، لا سيما أن بايدن حسم مسألة شرعية الأسد، وإعادة تعويمه بإشارته إلى أن "الأسد شخص غير موثوق به".
وحيال تراكم التساؤلات، يعبّر مسؤول رفيع في الملف السوري في وزارة الخارجية الأميركية، عن اعتقاده، بأن "الاستقرار في سورية والمنطقة بأكملها لا يمكن تحقيقه إلا من خلال عملية سياسية. وهي عملية تمثل إرادة جميع السوريين ونحن ملتزمون بالعمل مع الحلفاء والشركاء والأمم المتحدة لضمان بقاء حل سياسي دائم في متناول اليد". ويشير في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أن بلاده "تدعم العملية السياسية بقيادة سورية تسهّلها الأمم المتحدة، والتي تم وضعها ضمن معايير قرار مجلس الأمن 2254 الصادر عام 2015، وسنبقى على اتصال مع الأمم المتحدة وحلفائنا وشركائنا الدوليين لتشجيع كل الجهود الممكنة لدفع المسار السياسي". ويلفت إلى أن "الرئيسين بايدن وبوتين أشادا بالعمل المشترك لفريقيهما عقب القمة الأميركية الروسية (عُقدت في 16 يونيو/حزيران الماضي) التي أدت إلى التجديد بالإجماع لآلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود لسورية، في مجلس الأمن".
أما بخصوص وجود القوات الأميركية في سورية، فيوضح المسؤول الأميركي أن "تواجد القوات هناك هو لضمان الهزيمة الدائمة لداعش، ولا يوجد أي سبب آخر غير ذلك". ويضيف أنه "لا يزال تنظيم داعش في سورية يشكل تهديداً خطيراً، مستفيداً من عدم الاستقرار عبر إظهار نواياه في شن هجمات في الخارج. كما يستمر في إلهام الهجمات الإرهابية حول العالم، ويتطلب منع عودة ظهور داعش في العراق وسورية، وكذلك من قبل الشركات التابعة له وشبكاته خارج الشرق الأوسط، تجديد تفعيل التزام الولايات المتحدة إلى جانب 83 من شركائنا وحلفائنا الذين يشكلون التحالف الدولي ضد داعش". ويتطرّق المسؤول إلى البيان المشترك الصادر عن اجتماع روما لوزراء التحالف الدولي لهزيمة داعش في 28 يونيو الماضي، مشدّداً على "وجوب أن يبقى التحالف يقظاً إزاء تهديدات الإرهاب بكافة أشكاله وتعبيراته لكي يؤسّس على النجاح الذي حقّقه، ولا بدّ أن يستمرّ في العمل بشكل مشترك ضدّ أي تهديد لهذا النجاح، وأن يتجنّب الفراغ الأمني الذي قد يستغله داعش".
وفي ما يتعلق بالوجود الإيراني في سورية، ينوّه المسؤول إلى أن "القوات الإيرانية، بما في ذلك الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، وغيرها من القوات الأخرى بالوكالة المدعومة من إيران، تهدّد الاستقرار الإقليمي وأمن حلفائنا وشركائنا، بما في ذلك إسرائيل. كما تؤدي هذه القوات دوراً مزعزعاً للاستقرار في سورية بشكل خاص، مما يهدد آفاق الحل السلمي للصراع". ويكشف كذلك بأن "الضربات الجوية الأميركية الأخيرة على المليشيات المدعومة من إيران، كانت إجراءً ضرورياً وملائماً ومناسباً للحدّ من خطر التصعيد"، مؤكداً: "سنتخذ جميع التدابير اللازمة لحماية والدفاع عن أفراد الولايات المتحدة".
أما حيال إمكانية تقديم الدعم لأنقرة في إدلب، فيؤكد المسؤول أن "للإدارة اهتماما بالجهود التركية للحدّ من العنف في إدلب، والذي قد يضرّ بالمدنيين ويسبّب أزمة لاجئين وأزمة إنسانية جديدة"، منوّهاً إلى أنه "يجمع بين الولايات المتحدة وتركيا الاهتمام بإنهاء الصراع في سورية بشكل مستدام وسنواصل التشاور مع أنقرة بشأن سورية، جنباً إلى جنب مع جيران سورية الآخرين وشركائنا في المنطقة، بينما نسعى إلى تفعيل مجالات التعاون".
يُعتبر ملف الأكراد من النقاط الإشكالية بين واشنطن وأنقرة
أما بخصوص تحقيق أي تقدم في العملية السياسية والحل السوري، في ظل بقاء الأسد في السلطة، رغم الإقرار الأميركي بفقدان شرعيته، يعتبر المسؤول الأميركي أنه "على الرغم من مرور عشر سنوات من الحرب الأهلية، لا يزال بشار الأسد في السلطة، وإذا ما ستكون هناك نهاية مستدامة للصراع في سورية، يجب على نظام الأسد تغيير سلوكه". ويقول في السياق: "نركز على الدفع باتجاه تسوية سياسية لتحقيق الاستقرار والأمن وإنهاء معاناة الشعب السوري"، مؤكداً: "لم يسترد الأسد أي شرعية في نظرنا، ولا شك في أن الولايات المتحدة لا تنوي تطبيع العلاقات مع النظام حالياً، ومن المفترض أن تؤدي عقوبات قانون قيصر، الذي يحظى بتأييد واسع من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) في الكونغرس، إلى الحدّ من قدرة الأسد والآخرين في نظامه على الاستفادة من الصراع المستمر وإعادة الإعمار بعد الصراع، بما في ذلك الاستفادة من الاستيلاء على ممتلكات الشعب السوري. وتشكّل عقوباتنا أداة مهمة للضغط من أجل مساءلة نظام الأسد على سجله الفظيع لانتهاكات حقوق الإنسان، والتي يرقى بعضها إلى جرائم حرب. ويتحتم على النظام وداعميه الانخراط بجدية في الحوار السياسي، والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المجتمعات المحتاجة، من أجل تحقيق نهاية مستدامة لمعاناة الشعب السوري".
وسبق أن أشار مقرّبون من الإدارة الأميركية، في أحاديث سابقة لـ"العربي الجديد"، إلى أن المسؤولين في الإدارة يلجؤون لاستخدام مصطلح "تغيير سلوك النظام"، وليس المطالبة بإزالته، لأن المصطلح الأول يشكّل مشاكل قانونية للإدارة في الكونغرس. وشدّدوا على أن هذا الإجراء متفق عليه، ويضمر فهماً لعدم قدرة النظام على تغيير سلوكه، وبالتالي يُمكن التحرك ضده لارتكابه جرائم حرب في أماكن وأزمنة متفرقة في سورية.