بات موقف روسيا في أوكرانيا متأرجحاً بين التصعيد العسكري والمفاوضات من أجل حل دبلوماسي، وتشكّل زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن في 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، محطة مفصلية.
حرّكت الزيارة الموقف الروسي، وترتبت عليها تطورات جديدة سريعة، من بين أهمها بروز اختلاف في خطاب المسؤولين الروس. وفي الوقت الذي تواصلت فيه عمليات القصف والحشد العسكري والتعبئة على جبهات الشرق، صدرت تصريحات تتحدث عن المفاوضات على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لم يسبق له أن تفوه بهذه المفردة.
وبالتزامن مع اجتماع زيلينسكي مع الرئيس الأميركي جو بايدن، ألقى بوتين خطاباً مطولاً للإعلان عن استراتيجية روسيا العسكرية في 2023 خلال اجتماع مع كبار القادة العسكريين، وشدّد على أن موسكو ستحقق جميع أهداف حملتها العسكرية في أوكرانيا، و"ستوفر كل ما يلزم لإنجاحها". إلا أنه أبدى مرونة في اليوم التالي. وقال لأول مرة إن روسيا تريد إنهاء الحرب في أوكرانيا عبر حل دبلوماسي، "وكلما كان ذلك أسرع كان أفضل بالطبع".
الحرب بين التصعيد والمفاوضات
ومن بعد ذلك تواصلت خطابات بوتين والمؤتمرات الصحافية التي عقدها وزير خارجيته سيرغي لافروف، من أجل توجيه رسالة واحدة هي أن روسيا قوية وقادرة على تحمل كلفة استمرار الحرب، وفي الوقت نفسه منفتحة على المفاوضات.
وكان الكرملين صريحاً عندما وضع الزيارة في كفة وقف الحرب، ورأى في أن المزيد من شحنات الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا لن يؤدي إلا إلى "تفاقم" الصراع مع روسيا، واعتبر المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف أنه من غير المحتمل أن يعيد زيلينسكي النظر في رفضه للتفاوض مع بوتين بعد هذه الزيارة.
تحدث بوتين عن المفاوضات للمرة الأولى في الفترة الأخيرة
يظهر أن هدف موسكو المباشر هو إلقاء الكرة في ملعب زيلينسكي والإدارة الأميركية التي استقبلته بحفاوة، وقدمت له دعماً سخياً عسكرياً واقتصادياً لعام 2023 بقيمة 45 مليار دولار. إلا أن هناك أغراضاً أخرى، منها تحضير الجبهة الداخلية لتطورات مقبلة.
وثمة ملاحظة مهمة وهي أن بوتين لم يظهر متصلباً، كما كان عليه في بداية الحرب في 24 فبراير/ شباط الماضي، ويبدو عليه أنه يفكر في مخرج لائق منها، وهذا أمر مرده إلى أن الحرب لم تحقق أي هدف من أهدافها، ولكن الرئيس الروسي ليس في حال من الضعف ليقر بالفشل، ولا يزال لديه من الأسلحة ما يمكن استخدامه، ولذا يضع السلاح النووي في المعادلة، لمنع وقوع الهزيمة.
تصريحات المسؤولين الروس عن المفاوضات لم تجد صدى في كييف والعواصم المعنية من واشنطن إلى باريس، وبدلاً من أن تلقى الترحيب لم تجد من يتعامل معها، لأن روسيا تتصرف عكس ذلك، ورفعت من وتيرة عمليات القصف التدميري الذي ألحق خلال الأسبوعين الأخيرين ضرراً واسعاً، خصوصاً على صعيد النية التحتية الأوكرانية.
زيارة زيلينسكي إلى واشنطن
تبقى زيارة زيلينسكي إلى واشنطن شاغل موسكو الأول، ولذا تحركت في اتجاهين من أجل مواجهة النتائج المهمة المترتبة عليها. وذهب بوتين إلى مينسك للقاء حليفه الاستراتيجي الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي وافق على استخدام روسيا أراضي بلاده في بداية الهجوم على أوكرانيا، وتشير التقديرات إلى أن دوره سيتجاوز، في الفترة المقبلة، التسهيلات اللوجستية إلى الدعم العسكري المباشر.
وتتحدث وسائل إعلام غربية منذ حوالي شهرين عن احتمال هجوم عسكري روسي بري جديد من بيلاروسيا باتجاه مدينة كييف، تشارك فيه قوات بيلاروسية. وتتحدث بعض وسائل الإعلام عن سيناريوهات تقوم على محاصرة العاصمة الأوكرانية في الطريق للاستيلاء عليها. وحسب التسريبات ستكون هذه العملية مدروسة أكثر من العملية السابقة التي جرت في بداية الحرب، وفشلت في إسقاط كييف.
وبعد اختتام زيارة بوتين إلى مينسك، بدأت التحضيرات الميدانية لعمل عسكري انطلاقاً من بيلاروسيا، وقامت السلطات العسكرية في بيلاروسيا بإغلاق مناطق حدودية واسعة مع أوكرانيا، وأخلتها من السكان وحوّلتها إلى مناطق عسكرية، وبدأت تستقبل قوات عسكرية تقوم بتدريبات قتالية هجومية.
والتحرك الثاني هو قيام نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف بزيارة مفاجئة إلى بكين، حيث استقبله الرئيس الصيني شي جين بينغ، والذي قال إنه بحث معه الحرب في أوكرانيا على وجه الخصوص، والتعاون الثنائي في إطار الشراكة الاستراتيجية، خصوصاً في الشؤون الاقتصادية والصناعية، كما القضايا الدولية، بما في ذلك، بالطبع، "الصراع في أوكرانيا". وتعد شراكة الصين مع روسيا لا غنى عنها للبلدين، فالصين توفر التكنولوجيا، بينما تقدم روسيا المواد الأولية.
ومن المعروف أن روسيا تسعى إلى دعم عسكري صيني، وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع الصين، للتعويض عن تدهور علاقاتها مع الغرب، ولكن تبين خلال مجريات الحرب على أوكرانيا أن الدعم الصيني لروسيا محدود، تحديداً على الصعيد العسكري، ولذلك لجأت روسيا إلى إيران، التي تزودها بالطائرات المسيرة والصواريخ البعيدة المدى.
ويعود سبب إحجام بكين عن تقديم أسلحة حديثة إلى روسيا والاكتفاء بالأغذية والمواد الطبية الخاصة بالحرب، إلى الضغوط الأميركية. ومع ذلك يسعى البلدان إلى بناء آلية حماية بوجه العقوبات الغربية، عبر تطوير نظام يقوم على تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وأوروبا، من خلال إيجاد بنى تحتية عالمية اقتصادية تقوم على تكتل اقتصادي بشري، يضم الصين، روسيا، الهند، إيران، والسعودية.
وثمة سؤال طرح نفسه حول سبب استقبال زيلينسكي في البيت الأبيض، على نحو مفاجئ ومن دون مقدمات، وتكريمه بإلقاء خطاب أمام الكونغرس، وهذا شرف لم ينله زعيم أجنبي تعيش بلاده حالة حرب، سوى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل عام 1941.
ومن قراءة دقيقة للمشهد يبرز أن هناك أكثر من سبب، أولها توجيه رسالة قوية من الإدارة الأميركية بأنها تلتزم بدعم أوكرانيا عسكرياً وسياسياً، بعد تردد شائعات حول احتمال أن تخفف من مساعداتها العسكرية، وتضغط على المسؤولين الأوكرانيين من أجل الدخول في تسوية سياسية مع روسيا.
أحجمت الصين عن مدّ روسيا بالسلاح بسبب الضغوط الأميركية
والسبب الثاني هو ترجمة هذا الالتزام بالاستمرار في تعزيز قدرات أوكرانيا عسكرياً، بما في ذلك تزويدها بأسلحة متطورة لصد هجمات الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية من جهة، ومن جهة ثانية تسريع الهجوم البري في مناطق الشرق الذي تحقق فيه القوات الأوكرانية تقدماً ملحوظاً منذ سبتمبر/ أيلول الماضي.
أما السبب الثالث فقد يكون هدف واشنطن منه الضغط على الرئيس الروسي، كي يراجع موقفه من استمرار الحرب، التي أدت إلى خسائر بشرية كبيرة في الجانب الروسي، ولم تحقق أهدافها. وجاء في تصريح البيت الأبيض أن بوتين لم يبد اهتماماً بالدعوات لوقف الحرب.
التصعيد العسكري متواصل
يؤكد توقيت زيارة زيلينسكي والنتائج التي تحققت خلالها على عدة أمور، أولها أن التصعيد العسكري متواصل في المدى المنظور، سواء كان هناك أفق قريب لمفاوضات بين الطرفين أم لا.
والأمر الثاني هو أن المرحلة الثانية من الحرب ستكون أكثر عنفاً من تلك التي استغرقتها الأشهر العشرة الماضية. والأمر الثالث هو أن تبدي روسيا حاجة إلى المفاوضات، بينما تصر أوكرانيا على تحقيق تقدم عسكري مهم، قبل الجلوس على طاولة المفاوضات.
أحد عناوين هذه المرحلة الجديدة من الحرب هو الرد الأوكراني على القصف الروسي، بقصف الأراضي الروسية، وهذا بدأ التمهيد له في الأسابيع القليلة الماضية، حيث قصفت القوات الأوكرانية عدة بلدات روسية حدودية.
وتفيد تقديرات بعض الخبراء العسكريين أن واشنطن وعدت زيلينسكي بأسلحة مدفعية بعيدة المدى، تحقق هذا الهدف وتصل إلى العمق الروسي، وربما شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمّتها روسيا بالقوة في عام 2014.
ويرى خبراء فرنسيون أن أحد أهم أهداف الدعم الأميركي لأوكرانيا هو تعزيز الحضور الأميركي داخل أوروبا، التي كانت تتحرك للابتعاد عن الولايات المتحدة والتقارب مع روسيا. ويؤكد بعض هؤلاء أن هناك نتيجة مهمة تحققت حتى الآن، وهي نسف الأساس لبناء علاقات تفاهم استراتيجية بين روسيا وألمانيا.
ويقول هؤلاء إن الرئيس الأوكراني الذي دخل الحرب ضد روسيا، لأنها كانت تريد أن تحوّل بلاده إلى محمية روسية، وقع في فخ تحويلها إلى أكبر قاعدة عسكرية أميركية داخل أوروبا، أما الرئيس الروسي الذي خاض الحرب لمنع أوكرانيا من الانضمام للحلف الأطلسي، فقد حقق العكس، وأصبحت أوكرانيا قاعدة أساسية للحلف.
وفي هذا الوقت يتواصل الدعم العسكري الأوروبي، وستتدفق أسلحة جديدة في العام الحالي، حسب تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بقي يحتفظ بخط اتصال مع نظيره الروسي.
ورغم أن بوتين لم يتجاوب مع أي مبادرة من طرف ماكرون، يصر الرئيس الفرنسي على أن فرصة الحل السلمي للنزاع متوافرة، ولا تحتاج سوى قبول الطرفين بالجلوس على طاولة المفاوضات، وهو ما تخالفه تطورات الميدان. ويطالب ماكرون بمنح "ضمانات" لروسيا في حال إجراء المفاوضات.