لا تزال محافظة مأرب شرقي اليمن، ترتدي لامةَ (زيّ) الحرب منذ سبع سنوات. أول ما يلفت نظرك عند السير في شوارع المدينة التي تحمل اسم المحافظة نفسه، مشهد العكازات والكراسي المتحركة المعروضة من خلف الأبواب الزجاجية في الصيدليات، في مؤشر على زيادة عدد المعوقين.
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إغفال رؤية الطالبات يتوافدن من كل المناطق صوب الجامعات والمدارس كأبرز ملامح التحوّل في المحافظة التي ظل تعليم الفتاة فيها غائباً حتى وقت قريب.
تطوّر الحياة في مأرب
وإذا سبق لك العيش في مأرب، فستشدك حتماً رؤية مأربي يمضغ القات، فلم يكن من السهل أن تشاهد مثل هذا المنظر من قبل، وسوق بيع العشبة هنا كان محصوراً وسط المدينة يرتاده التجار والعمال القادمون من المحافظات، إضافة إلى المسافرين عبر الطريق الدولي. لكن الحال تغيّر، وانتشرت أسواق القات، وبات السلعة الأكثر تدفقاً إلى المحافظة.
وشهدت المدينة تطوراً كبيراً في العمران والشوارع، ونهضت أحياء من الرمال لتغطي امتدادات واسعة، وازدحمت حركة السير، وتضاعف عدد المدارس والمستشفيات.
كما افتتحت في أنحاء المدينة القابعة في أطراف الصحراء، متاجر ومقاهٍ ومحلات آيس كريم وهمبرغر، لم يألفها السكان من قبل، بعد أن ظلّت لعقود، على الرغم من شهرتها السياحية ومكانتها الاقتصادية منذ اكتشاف النفط فيها في ثمانينيات القرن الماضي، مهمشة من قبل الحكومة في صنعاء، وتُصوّر على أنها ثكنة لقطّاع الطرق والجماعات المتطرفة.
شكلت مأرب قبلة الرافضين للانقلاب الحوثي على الدولة والاستيلاء على مؤسساتها
كانت عائدات النفط في مأرب مركزية، لكن الوضع تغيّر في العام 2016 حين خصصت الحكومة في عدن نسبة 20 في المائة من العائدات لصالح تطوير المدينة وتوفير الخدمات فيها.
حققت مأرب بفضل ذلك واستقرار الوضع الأمني إضافة إلى قدوم النازحين وبعضهم من أصحاب رؤوس الأموال، تقدماً كبيراً على المستوى التنموي.
مأرب... من الهامش إلى المتن
سياسياً، قفزت مأرب في السنوات الأخيرة من الهامش إلى المتن، إثر تغيّر ميزان القوى خلال الصراع. ساعدها في ذلك موقعها الجغرافي الذي يجعل منها بوابة لصنعاء، ومنطلق قوات الحكومة لاستعادة العاصمة.
هذا إضافة إلى تماسك قبائلها الرافضة للحوثيين، ودور السلطة المحلية بقيادة المحافظ سلطان العرادة، الذي استطاع بنفوذه الواسع وسط القبائل، إضافة إلى صفاته القيادية، أن يقود مقاومة الحوثيين قبل انطلاق "عاصفة الحزم" من قبل "التحالف العربي" بقيادة السعودية في 26 مارس/آذار 2015.
كانت مأرب حين هبّت العاصفة، قد شقت طريقها لتكون قبلة الرافضين للانقلاب الحوثي على الدولة والاستيلاء على مؤسساتها، و"باتت تمثل آخر ملاذ قوي لملايين اليمنيين الفارين من مناطقهم، ونقطة ضوء وسط الصحراء والظلام الذي عم مدن البلاد، على الرغم من الحرب المحتدمة على أطرافها"، بحسب تعبير الصحافي حسن الفقيه في حديث لـ"العربي الجديد".
وكان ذلك مدفوعا بتوافق وانسجام المكونات القبلية والسياسية في المحافظة، إذ يشكل المحافظ العرادة مظلة تتفق عليه جميع المكونات.
محاولات استهداف حوثية متكررة لمأرب
خلال سنوات الحرب، شكل هدوء مأرب مصدر قلق للحوثيين المدعومين من إيران، الذين حاولوا استهدافها بشتى الوسائل. وأعلنت السلطات الأمنية بالمحافظة مراراً عن القبض على خلايا قالت إنها تابعة للحوثيين وكانت في مهمة "إقلاق السكينة في المحافظة".
كما ظلت مأرب هدفاً لصواريخ ومقذوفات وطائرات مسيّرة، أصابت أهدافاً متفرقة في المدينة ومحيطها، وبلغ عددها منذ بداية الحرب 374 صاروخاً و309 طائرات مسيّرة، وفق الصحافي والناشط الحقوقي محمد الغليسي، إضافة إلى نحو 600 صاروخ "غراد" ومقذوفات أخرى.
ظلت مأرب هدفاً لصواريخ الحوثيين ومقذوفاتهم وطائراتهم المسيّرة
مع حلول العام 2020، قرر الحوثيون السيطرة على مأرب التي رأوا في إخضاعها حسماً للمعركة، يمنحهم اليد العليا في أي مفاوضات مقبلة. فبدأوا بتنفيذ عمليات عسكرية دامية، انطلقت من جبال نهم شرقي صنعاء وامتدت إلى محافظة الجوف ثم البيضاء وشبوة، لتفرض قوساً حول مأرب، تمتد من منطقة العلمين إلى الشمال الشرقي من مأرب بمحاذاة مديرية خب والشعف شرق الجوف، مروراً بمديريات مأرب مجزر وصرواح شمال غرب وغرب على التوالي، وصولاً إلى جبال البلق، حائط الصد الأهم جنوب وجنوب غربي المحافظة.
ونتيجة لتلك القوس، قُطعت الطرقات التي تربط المدينة بمناطق سيطرة الحوثيين، لا سيما طريق مأرب صنعاء، التي كانت انقطعت أواخر العام 2015، وطريق مأرب البيضاء التي انقطعت في سبتمبر/أيلول العام الماضي مع احتدام المعارك في الجبهات الجنوبية، ليضيق الخناق على المحافظة، ويبقى الشريان الوحيد لها الطريق الدولي الذي يربطها بحضرموت شرقي اليمن والأراضي السعودية، إضافة إلى طرقات صحراوية وعرة تربطها بمحافظات شمال البلاد.
وتسبب شبه الحصار المفروض على المحافظة في أضرار كبيرة، "فالمرضى أصبحوا يتوجهون لمناطق بعيدة مثل سيئون والمكلا، ما يعرّض حياتهم للخطر، وارتفعت تكاليف النقل إلى المحافظات، ما عرّض المزارعين لخسائر كبيرة، كما أن التنقل عبر الطرق الصحراوية تسبب في حوادث كثيرة، منها السرقة والقتل وغيرها، فضلاً عن الحوادث المرورية"، بحسب حديث الصحافي المأربي علي عويضة لـ"العربي الجديد".
ناهيك عن ارتفاع أسعار السلع في المحافظة الأكثر استقبالاً للنازحين في البلاد.
مأرب... ملجأ لمئات آلاف النازحين
وعقب إبعاد الحوثيين إلى الأطراف البعيدة لمأرب عام 2015، شكّلت المحافظة ملجأ لمئات الآلاف من النازحين الذين قدموا إليها من مناطق سيطرة الحوثيين نظراً لتوفر الأمن فيها إلى حد كبير.
وتقدر أعداد النازحين في المحافظة بـ2,212,997 نازحا، يشكلون القوام الأساسي لسكان المدينة، فضلاً عن 195 مخيماً في محيطها، بحسب تصريح رئيس الوحدة التنفيذية لمخيمات النازحين في مأرب، سيف مثنى لـ"العربي الجديد".
وقال مثنى إن مأرب "استقبلت النازحين ووفرت لهم الخدمات الأساسية على الرغم من بنيتها التحتية الهشة... كذلك استقبلهم المجتمع المضيف، ما خلق علاقة متينة وتماسكا مجتمعيا بين النازحين والمجتمع المأربي".
تسبب شبه الحصار المفروض على المحافظة في أضرار كبيرة
وحول تدخل المنظمات الدولية وعملها، قال مثنى إنها "تدخلات محدودة، وترتكز في أغلبها على المساعدات الطارئة والمؤقتة"، وهو ما يؤكده أيضاً نازحون تحدثنا إليهم.
وأشار مثنى إلى "ضعف تواجد مكاتب للمنظمات الأممية والدولية، إلا بنسبة قليلة، بسبب الضغط الذي تمارسه جماعة الحوثيين على المكاتب الرئيسة لجميع المنظمات الأممية والدولية في صنعاء".
من جهته، قال الصحافي علي عويضة لـ"العربي الجديد"، إن "النازحين استقبلوا بترحاب، حتى لا تكاد تجد أي تمييز بين سكان المحافظة والنازحين. كما أن كثيراً من سكان الريف استقبلوا النازحين في منازلهم من دون تقاضي أي إيجارات منذ بداية الحرب، وبعضهم ما زال إلى اليوم".
ورأى عويضة أن "هذا النزوح الكبير، كانت له آثار إيجابية وسلبية على محافظة مأرب. من بين الآثار الإيجابية، مساهمة النازحين في النهضة العمرانية في المحافظة، وافتتاح مشاريع تجارية وسكنية كبيرة، في حين أنه من الآثار السلبية، الضغط الكبير على الخدمات والعقارات والمساكن في البداية، ما أدى لارتفاع أسعار الإيجارات".
أما المدير العام للوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بمحافظة صنعاء، عبد الواحد ردمان، وهو أحد أبرز العاملين في الشأن الإنساني بمأرب، فقال لـ"العربي الجديد"، إن "تدفق النازحين أحدث تأثيراً كبيراً على المحافظة، خصوصاً على مستويات الخدمات الأساسية، وذلك نظراً لحجم النزوح الهائل الذي فاق القدرة الاستيعابية للمحافظة، حيث بلغت نسبة النازحين إلى السكان الأصليين 425 في المائة".
وقدّر ردمان نسبة النازحين الذين يسكنون خارج المخيمات في مدينة مأرب ولدى المجتمع المضيف، بـ89 في المائة من إجمالي عدد النازحين.
وأشار إلى أن "معظم التدخلات والمساعدات تركز على المخيمات وتهمل الفئات الأخرى، ما تسبب في عجز النازحين في بيوت الإيجار عن توفير ثمن مختلف متطلبات الحياة، لا سيما في ظل ارتفاع أسعار الإيجارات نتيجة الوضع الاقتصادي المتدهور والازدحام الكبير".
وحول النازحين في المخيمات، قال ردمان إنهم "الأكثر احتياجاً، فهم يعيشون ظروفاً صعبة، في منازل بعضها من الخيام وأخرى من الحديد والصفيح والطين، في منطقة ذات طقس صحراوي شديد البرودة شتاء والحرارة صيفاً".
من جهته، قال النازح من محافظة إب (وسط اليمن)، محمد أنعم، لـ"العربي الجديد"، إن "الخيام لا تكاد تقينا حرارة الصيف ولا برد الشتاء". وأضاف: "أنا من محافظة إب، بلادي معروفة بالمطر الغزير في الصيف، وجوها معتدل في الشتاء، نحن نحترق وسط هذه الصحراء أيام الصيف، والله ترى أطفالي أبقيهم مبللين بالماء أو بدون ملابس طوال اليوم".
تقدر أعداد النازحين في المحافظة بـ2,212,997 نازحا
أما النازح عبدالله عمر، فقال: "أنا من صرواح مأرب، كنت في أمان، بنيت منزلا لأسرتي أنفقت فيه شقاء عمري، مضت عليّ ثلاث سنوات وأنا أعمل فيه وأقول لنفسي سترتاح بعد كل هذا التعب، انتقلت إلى المنزل قبل أشهر قليلة من وصول الحوثيين إلى منطقتي، كان أطفالي يدرسون في المدرسة حين اضطررنا لترك كل شيء خلفنا والنزوح إلى محيط مدينة مأرب".
وأضاف عمر في حديث مع "العربي الجديد": "سكنت أولاً في مخيم صوابين القريب من بحيرة السد الشهيرة، إلى جهة الغرب من المدينة، قبل أن اضطر للانتقال إلى مخيم روضة ذنه، مع اشتداد المعارك بالقرب من المخيم أواخر العام 2020".
وتابع "وفي سبتمبر من العام الماضي، اضطرت آلاف الأسر إلى النزوح مجدداً، ومعظمها للمرة الثالثة إلى مخيم السميا في صحراء وادي عبيدة، إلى الجنوب الشرقي من المدينة".
ويأتي ذلك فيما لا تزال آفاق معركة تترصد النازحين في الأطراف القريبة لمأرب، وسط حشود عسكرية تدفع بها جماعة الحوثي منذ الشهر الماضي، استعداداً لمعركة جديدة وفق ما أفادت به مصادر عسكرية، وسط تحذيرات من مخاطر ذلك على المدنيين في المحافظة.