الجزائر... السلطة والمجتمع

16 نوفمبر 2022
يقتصر نشاط المجتمع المدني على مبادرات صغيرة (رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

يُسمع في الجزائر خطاب كثيف حول المجتمع المدني، فقد بادر الرئيس عبد المجيد تبون إلى ترسيم دستوري للمرصد الوطني للمجتمع المدني، واستحدث المجلس الأعلى للشباب، ووجّه مؤسسات الحكم المحلي بإشراك المنظمات الأهلية في التخطيط لمشاريع التنمية المحلية. لكن السؤال الذي يُطرح في سياق ذلك عن طبيعة وهوية هذا المجتمع المدني، هل يجب أن يكون ما هو مفترض أن يكون عليه المجتمع المدني، أم الذي تريده السلطة؟

لا تندفع السلطة إلى استيلاد وضخ هيكلي لمؤسسات المجتمع المدني، إلا لكونها ترغب في تشكيل أوسع حزام مدني لإسنادها في المحطات السياسية المختلفة، وهي تنطلق في ذلك مما تعتقد أنه موت للسياسة في الشارع، وتشوُّش لصورة الحزب السياسي لدى الرأي العام، وعزوف الشباب عن العمل السياسي (تشير الإحصائيات إلى أن ثمانية في المائة فقط من الناخبين منخرطون في الأحزاب).

والحقيقة أن هذا التقدير يبقى نسبياً وليس دقيقاً بالضرورة، هذا عدا عن أن التجارب السياسية في الجزائر تقول بفشل مثل هذا الخيار وانسداده. فالرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة كان قد اختار منذ عام 1999 أن يستند إلى حائط المجتمع، وأنشأ تنسيقية تضم آلاف المنظمات، لكنها تبخرت بدون جدوى.

في الغالب تبحث السلطة عن مجتمع من المريدين، يفتقد إلى القاعدة الأساسية التي قامت عليها تاريخياً فكرة المجتمع المدني، وهي "النقدية" و"السلطة المضادة". وهذا النوع من المجتمع المدني، إضافة إلى أنه عاطل عن التصور والنجاعة ولا يقدّم القيمة المضافة، يمكن أن يتحوّل في ظرفية سياسية إلى عبء على السلطة نفسها، ولأن هذا النوع من المجتمع المدني العابر في المشهد الجزائري، يصنع موازين قوى مغشوشة ويكبح كل نقاش حول المضمون السياسي والأفكار الجادة.

لا يمكن للمجتمع المدني في الجزائر، سواء بصورته الحالية الهشة، أو بأي صورة أخرى، أن يكون بديلاً عن الأحزاب السياسية، أو أن يصنع حزاماً آمناً للبلد في القضايا الكبرى، فلكل مجاله الذي يشتغل به، خصوصاً إذا كانت هذه الكتلة من المنتظم المدني، منشغلة بإعادة إنتاج الخطاب الرسمي.

ويمكن بوضوح ملاحظة أن البيئة السياسية والنظرة السلطوية القائمة لدى مؤسسات الحكم في الجزائر، ما زالت ترفض السماح بتشكل طبيعي لمجتمع مدني متحرر ونقدي، يملك الجرأة الكافية على طرح المسائل الحيوية للنقاش بمسؤولية، والقدرة الأخلاقية على المساعدة في كشف بيئات الفساد المختلفة، ومنع حصول الانحرافات والاختلالات وحماية المال العام، وتعزيز مناعة الدولة وإسناد المؤسسات القائمة بالتدبير في اختيار الوجهات السليمة.

تاريخياً ثمة معضلة عطّلت نسبياً نشوء مجتمع مدني قوي وفاعل ونقدي في الجزائر، ذلك أن أغلب الهيئات المدنية والاتحادات التمثيلية، بما فيها المؤسسة النقابية واتحاد الطلبة وغيرها، وُلدت داخل نظام ثورة التحرير، بحكم حاجة حركة التحرر الوطني إلى هذه الأدوات لتعزيز النضال الشعبي ضد الاستعمار.

لكن المشكلة أن هذه الأطر المدنية وجدت نفسها في حالة استدعاء دائم لاستكمال تأدية دور تفسيري لسياسات وخيارات الدولة والنظام السياسي بعد الاستقلال، وكانت مرغمة على العمل لصالح السلطة. ولذلك لم تتوفر ظروف مثالية في الجزائر لتشكيل قاعدة صلبة لنشوء مجتمع مدني قوي، نقدي للسياسات ومؤطر للمجتمع ومؤثر في الخيارات. المجتمع المدني النقدي يزدهر في البيئة الحرة، كما الإعلام الحر والقضاء المستقل، وكلها عوامل تعزز مناعة الدولة وتحمي البلد من الانتكاسة.

المساهمون