وصلت ظاهرة جرائم القتل اليومي، الناتجة عن الجريمة المنظمة في الداخل الفلسطيني، إلى نقطةٍ فقد فيها المجتمع الفلسطيني في الداخل القدرة على وضع حدٍ لمشهد الدم اليومي، وبات التفكك المجتمعي يهدد مستقبل الحياة في مجتمعٍ يحافظ على أسسٍ للأخلاق العامة المشتركة في الفضاء العام. مع استمرار المؤسسة الإسرائيلية في تجاهل محاربة هذه الظاهرة، إضافةً إلى الدور الذي لعبته؛ وما زالت تلعبه، في إنتاج هذه الحالة (انظر المقال عن دور المؤسسة الإسرائيلية في العدد السابق من ملحق فلسطين)، يبدو المجتمع المدني الفلسطيني مكبلًا وغير قادرٍ على التحرك، إذ تحول العجز العام إلى سيدٍ للموقف.
الأحزاب السياسية المركزية التي تمثل الفلسطينيين في الكنيست منقسمةٌ، ومنها من هو مُلاحقٌ. القائمة المشتركة؛ التي انطلقت عام 2015 وانتهت عام 2022، كانت بارقة أملٍ للكثير من الناس، لإعادة الاعتبار للعمل السياسي، ولاتحاد القوى السياسية، وإنتاج قوةٍ سياسيةٍ تستطيع رفد المشهد السياسي والاجتماعي بواقعٍ مختلفٍ. انشقاق تيارٍ مركزيٍ عن المشتركة؛ هو القائمة الموحدة (الحركة الإسلامية الجنوبية)، ودخوله الحكومة الإسرائيليّة، كان ضربًا لثوابت العمل السياسي والوطني على مدار عقودٍ. بُررت المشاركة في الحكومة بهدف التأثير، وكانت قضية العنف والجريمة من أبرز أجندات الحملة الانتخابية، لكن دون تحقيق حلٍ جذريٍ بعد سنةٍ من المشاركة في الحكومة، ومحاولة "التأثير من الداخل".
أما لجنة المتابعة العليا؛ وهي الجسم الجامع للقوى السياسية في الداخل، فنشاطاتها محدودة التأثير، وتقع ضمن خانة العمل التقليدي، إن كان في تنظيم وقفاتٍ ومظاهراتٍ احتجاجيةٍ، أو مسيرات سياراتٍ إلى مدينة القدس، لشل حركة السير لبضع ساعاتٍ. انبثقت عن لجنة المتابعة لجنة "إفشاء السلام"، التي يقودها رئيس الحركة الإسلامية (الشمالية) رائد صلاح، ومنذ خروجه من السجن وحظر حركته وتقييد عمله السياسي، يعمل على حل قضايا خلافاتٍ وعنفٍ بين العائلات من خلال إعمال الصلح بينها، إلا أن نشاط هذه اللجنة يبقى محدود التأثير، وينحصر غالبًا على خلافاتٍ أهليةٍ، ولا يكون لها علاقة بالجريمة المنظمة، التي هي أساس المشكلة.
كما يحاول رؤساء السلطات المحلية، في البلدات العربية، التحرك والمطالبة وإعلان الإضرابات، إلا أن عددًا كبيرًا منهم مهددٌ، وهناك من استُهدف بإطلاق نارٍ، كون السلطات المحلية أصبحت كنزًا لمنظمات الجريمة، من خلال المناقصات التي تُطرح، والتي تسعى هذه المنظمات إلى السيطرة عليها، وارتكبت من أجلها الكثير من الجرائم، وسقط عشرات الضحايا. ومع اقتراب الانتخابات المحلية في شهر أكتوبر/تشرين الأول، سوف تشتد المنافسة للسيطرة على هذا "الكنز"، وتشتد الجرائم.
يُجمع الباحثون على أن القضية سياسيةٌ، وبذلك تحتاج لتعاملٍ مختلفٍ على أكثر من صعيدٍ، يتقاطع فيه سوق العمل، والتربية والتعليم، وسياسات التمييز
تنشط لجانٌ شعبيةٌ محليةٌ في عددٍ من البلدات، وتحافظ على شكلٍ من الترابط السياسي المحلي، وهي ضروريةٌ أمام وحش الجريمة المتصاعد، لإبقاء حالةٍ من التنظيم المجتمعي.
وتساهم جمعياتٌ أهليةٌ شبابيةٌ وثقافيةٌ في التوعية والتربية على الهوية الوطنية، وهي من الضرورات أمام حالة الابتعاد عن الشأن العام، وانزياح المجتمع نحو الفردانية. وسائل الإعلام العربية لا تستطيع ذكر أسماء المجرمين، ولا إعداد تحقيقاتٍ صحفيةٍ عن منظمات الإجرام والمرتبطين بها، إذ تعرضت مؤسساتٌ إعلاميةٌ وصحافيون للاعتداء، منهم من قتل، ومنهم من ما زال مهددًا. الحراكات الشبابية تصعد وتخبو، وغالبًا ما تنشط في قضايا مواجهة الاحتلال، مثلما حصل في هبّة الكرامة.
رغم الصورة القاتمة شهدت السنوات الماضية حراكاتٍ شعبيةٍ لافتةٍ لمواجهة الجريمة، منها في أم الفحم ومجد الكروم وحاليًا في الفريديس. تمثلت هذه التجارب التي تلاقت فيها النشاطية السياسية على أكثر من مستوى، في مواجهة الجريمة المنظمة، من خلال تحميل الشرطة الإسرائيلية المسؤولية، والتظاهر أسبوعيًا، وإغلاق شوارع مركزيةٍ، والتظاهر أمام مراكز الشرطة والمطالبة بإغلاقها. أحدثت هذه الحراكات وعيًا مختلفًا، وأعادت للفضاء العام كلمته ومكانته، وصنعت أملًا في تغييرٍ محتملٍ. لكن هذه الحراكات لا تستمر لفترةً طويلةً لأسبابٍ عديدةٍ.
عُقدت الكثير من الندوات والأيام الدراسية، ونُشرت الأبحاث حول الجريمة المنظمة في الداخل، وحول محاربتها، ويُجمع الباحثون على أن القضية سياسيةٌ، وبذلك تحتاج لتعاملٍ مختلفٍ على أكثر من صعيدٍ، يتقاطع فيه سوق العمل، والتربية والتعليم، وسياسات التمييز، وليس تغيير سياسة الشرطة الإسرائيلية فقط، وإن الأمر يحتاج سنواتٍ عديدةٍ، إلا أن الطارئ الحالي لوقف شلال الدم يتمثل بأن تفكك الشرطة عائلات الإجرام المعروفة، وتحاسب المجرمين فورًا، ودون شروطٍ.