تمضي خطوات تطبيع العلاقات بين السودان ودولة الاحتلال الإسرائيلي قدماً تحت أنظار النظام المصري، برئاسة عبد الفتاح السيسي، وبمشاركته ممثلاً في جهاز المخابرات العامة الذي يتواصل وينسق بشكل دائم مع مجلس السيادة الانتقالي في الخرطوم حول القضايا المختلفة، ومنها التعاون مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحكومة بنيامين نتنياهو.
لكن وعلى الرغم من ذلك، كشفت مصادر حكومية مصرية مطلعة على هذا الملف، لـ"العربي الجديد"، أن القاهرة تحاول إمساك زمام المبادرة في هذه العلاقة، التي كانت قد دخلتها كطرف ثالث مسهل وميسر، بالتوازي مع دخول الإمارات في المسار نفسه. والقاهرة قلقة، وتحديداً القيادات العسكرية في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من أخذ التطبيع بين السودان ودولة الاحتلال صبغة عسكرية خالصة، ربما تؤدي لاحقاً لتوتر في العلاقات الثنائية بين القاهرة والخرطوم، لا سيما مع استمرار الخلافات المُعلقة بين البلدين على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي المطل على البحر الأحمر.
تحاول مصر جاهدة من خلال اتصالاتها بالسودان والاحتلال توجيه دفة التطبيع إلى الملفات التنموية
وقالت المصادر، عقب التصريحات التي أدلى بها عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان عن الطبيعة العسكرية لزيارة وفد الاحتلال إلى الخرطوم الأسبوع الماضي، إن مصر أحيطت علماً بطبيعة هذه الزيارة، وهي ترغب في أن تظل على علم كامل بجميع أوجه التعاون بين الطرفين المطبعين، لكنها "ليست متحمسة لأن يكون المجال العسكري على رأس تلك الملفات". وبحسب عضو مجلس السيادة، فإن هذه الزيارة خطوة للدفع والمساعدة لرفع اسم الخرطوم من قائمة الدول الراعية للإرهاب من قبل واشنطن، وتُكمل إعلان الجانب السوداني بعدم الممانعة في بداية نقاش حول التطبيع الكامل.
وأضافت المصادر المصرية أن تقارير داخلية، أعدتها المخابرات الحربية والأمن القومي في مصر، حذرت من ترك مجال كبير للتقارب العسكري والاستخباراتي بين الدولتين، من دون مشاركة مصرية مباشرة، لا سيما في ظل وجود مقترحات إسرائيلية قائمة، علمت القاهرة بها، لتمويل مصانع لإنتاج الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في السودان، وتصدير نوعيات جديدة من المركبات والصواريخ للخرطوم.
وذكرت المصادر أن التقارير الداخلية المصرية أوصت بضرورة البناء على المناورات المشتركة الأخيرة التي أجرتها مع السودان، ليس فقط لتدعيم العلاقات العسكرية بين البلدين لأول مرة منذ عقود، بل لقطع الطريق على دولة الاحتلال، التي تسعى بكل الطرق لمحاصرة مصر عسكرياً واستراتيجياً، ولا سيما من الاتجاه الجنوبي، على الرغم من التنسيق البادي والمتصاعد بين نتنياهو والسيسي.
وعن سبب القلق المبكر من التقارب العسكري بين البلدين المطبعين حديثاً، قالت المصادر إن هذا أمر طبيعي نظراً لهرولة مجلس السيادة الانتقالي، الركن الأول والأساسي في السلطة الحالية في السودان، لمحاولة قطع أشواط في علاقة التطبيع، من خلال الملفات التي يمسك بزمامها، وعلى رأسها الملف العسكري، بينما باقي الملفات ذات الطبيعة الاقتصادية والتنموية التي تديرها الحكومة، وترغب مصر في تركيز جهود التطبيع عليها، ما زالت الحركة فيها متباطئة إلى حد بعيد، نتيجة خلافات بين الحكومة والمجلس الانتقالي من جهة، وعدم سيطرة بعض الوزراء على حقائبهم بالصورة الكافية حتى الآن.
وأشارت المصادر إلى أن مصر تحاول جاهدة من خلال اتصالاتها بالسودان وأجهزة الاحتلال توجيه دفة التطبيع إلى الملفات التنموية، التي يسهل للقاهرة الدخول فيها كشريك، أو بصورة لصيقة ومباشرة، مثل التعاون الزراعي والتكامل الكهربائي، فضلاً عن المشاريع التي سبق النقاش حولها في مجال الطاقة واستكشاف إمكانيات المناطق الاقتصادية بالبحر الأحمر. واستبعدت المصادر توقيع اتفاقات عسكرية بين البلدين في الفترة السابقة لتولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة. وأوضحت أن إدارة ترامب تركز الآن على تحقيق تقدم في ملف التطبيع بين السعودية ودولة الاحتلال، في ظل التباطؤ الذي أصاب هذا المسار عقب خسارة ترامب للانتخابات الأميركية، والرغبة البادية من الرياض في تأجيل اتخاذ هذه الخطوة إلى عهد بايدن.
يمثل السودان مطمعاً للسعودية والإمارات ودولة الاحتلال بسبب احتياجاته المتزايدة للمساعدات
ويمثل السودان مطمعاً للسعودية والإمارات ودولة الاحتلال، بسبب احتياجاته المتزايدة للمساعدات في كل المجالات لإعادة تأهيل المرافق والخدمات والسدود وشبكات المياه والصرف، وتنمية فرص الاستثمار، لا سيما في المجالات الزراعية والإنتاج الحيواني، بعد إنشاء سد النهضة الإثيوبي، والذي سينعكس بالإيجاب على قدرات السودان الزراعية، وسيمكنه من وضع خطة مستدامة لري الأراضي طوال العام، إذا تحقق التكامل بين أكبر سد في القارة الأفريقية والسدود السودانية المحلية، التي تسعى الحكومة لزيادة طاقتها الاستيعابية وترميمها، لا سيما بعد الفيضان الأخير الذي عانت منه البلاد.
وكانت مصادر دبلوماسية مصرية وخليجية قد قالت، لـ"العربي الجديد"، في أغسطس/ آب الماضي، إن "السيسي ييذل جهوداً أخرى للإسراع بإدخال السودان دائرة الدول العربية المطبعة، كجزء من التخطيط الأميركي الجديد للمنطقة، مغرياً الخرطوم بانهمار المساعدات المالية واللوجيستية عليها من الولايات المتحدة وأوروبا ودول خليجية"، وإن إقامة علاقات طبيعية، خاصة على الصعيد الاقتصادي بين السودان ودولة الاحتلال، سيكون حجر زاوية لتأسيس سوق كبيرة للطاقة في منطقة البحر الأحمر، بشراكة مع مصر والسعودية، وذلك من خلال الاستفادة من خبرات الشركات القريبة من إسرائيل، ورغبتها في دخول المنطقة والاستثمار في التنقيب عن النفط والغاز بالمنطقة، وتكامل الجهود السودانية مع المشاريع المقترحة بين مصر والسعودية ودولة الاحتلال في مجال إنتاج وإسالة الغاز الطبيعي. وأضافت المصادر أن الدخول في شراكة مربحة للدول الأربع في هذا المجال هو البديل الوحيد لاندلاع مشاكل بينها جميعاً على الثروات المتوقع اكتشافها في مناطق البحر الأحمر ومسارات تصدير الإنتاج، خاصة بعدما بدأت السعودية التنقيب بنشاط عن الغاز في مياهها الإقليمية بعد ترسيم الحدود البحرية مع مصر، واستحواذها على جزيرتي تيران وصنافير، وتوقيع مذكرة تفاهم مع السودان للتنقيب، وتحديداً في الربع الأول من 2019.
وأوضحت المصادر أن دولة الاحتلال والإدارة الأميركية والشركات المقربة منهما، مثل "ديليك" و"نوبل"، تروج خلال المحادثات الممتدة مع المسؤولين المصريين، ممثلين بجهاز المخابرات العامة، والمسؤولين حالياً عن ملف الطاقة، لفكرة أن دخول السودان في علاقات طبيعية مع إسرائيل سيمهد الطريق، ليس فقط لتعظيم الاستفادة من الحقول المختلفة التي ستكتشف في المياه المصرية والسعودية والسودانية على حد سواء، بل إن ذلك سيساهم أيضاً في تجميد الصراع على مثلث حلايب وشلاتين، أو الحد من آثاره السلبية على المدى القريب. وذكرت المصادر أن الاتصالات بين مصر ودولة الاحتلال في هذا الصدد لا تقتصر على طرح أفكار محدودة، أو مشاريع مؤقتة تتضمن بعض الحقول، ولكنها تتفق على ضرورة تحويل حوض البحر الأحمر إلى مصدر للطاقة، وليس فقط معبراً مهماً لها، عن طريق قناة السويس ومضيق باب المندب، وأن تتكامل هذه الرؤية بشكل أساسي مع أنشطة منتدى شرق البحر المتوسط للغاز، الذي تنخرط فيه الدولتان مع قبرص واليونان بمشاركة إيطالية وفرنسية وأميركية.
ومنذ يومين، قال رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، في حوار مع صحيفة "الشروق" المصرية: "إن أجهزة الحكم الانتقالي، حسب الوثيقة الدستورية، هي مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، والمجلس التشريعي، والآن مجلسا السيادة والوزراء، شركاء في خطوة إنهاء العداء مع إسرائيل، ومتى ما قام المجلس التشريعي فهو الجهة المخولة بالتصديق على الاتفاقيات الدولية. إلا أننا تشاورنا مع طيف واسع من القوى السياسية والمجتمعية ووجدنا عدم ممانعة في إنهاء حالة العداء مع إسرائيل والقيام بمصالحة معها".