استمع إلى الملخص
- **ديمومة الحركة الاحتجاجية العالمية**: بعد "طوفان الأقصى"، تحولت الآراء النظرية إلى حراك اجتماعي يهدف إلى وقف العدوان وكسر الحصار على غزة، مما يعبر عن عزيمة المتظاهرين.
- **تأطير الحركة الاحتجاجية**: بدأت الحركة الاحتجاجية تتأطر في مؤسسات سياسية واجتماعية وثقافية، مما يعزز من استمراريتها وتصاعدها.
يكثر الحديث في الوسط الفلسطيني والعربي عن عولمة قضية فلسطين بعد "طوفان الأقصى"، أو بعد عدوان الإبادة الجماعية الصهيونية بحقّ شعب فلسطين الأصلي، ومن ضمن النقاشات والمداولات المهمة إشارة بعضهم إلى آنية الحركة الاحتجاجية العالمية، وهامشية تأثيرها على مجمل القضية الفلسطينية، كونها بعيدةٌ عن مراكز صنع القرار، السياسية منها كالأحزاب والقوى السياسية الكبرى، والاقتصادية كالمؤسسات الاقتصادية واللوبيات الاقتصادية.
يتطلب نقاش طبيعة الحركة الاحتجاجية العالمية الراهنة المناصرة لفلسطين وقضيتها والتنبؤ بآثارها المرور بمفاصلٍ حاسمةٍ، هي: موقف الشعوب من القضية الفلسطينية قبل "طوفان الأقصى"وبعده، وآفاقها المستقبلية.
يوحي التعامل الصهيوني مع هذه الظاهرة قبل "طوفان الأقصى" باستشعاره مخاطر هذا التحول في الرأي العام العالمي
بدايةً؛ وفي ما يتعلق بسياق دعم القضية الفلسطينية، نلحظ من خلال العودة إلى استطلاعات الرأي في دول المعسكر الغربي مسارًا تصاعديًا واضحًا في نسبة مؤيّدي القضية الفلسطينية في مجتمعات هذه الدول قبل "طوفان الأقصى"، فمثلًا أظهرت استطلاعات رأي مؤسسة (Pew Research) أنّ 61% من فئة الشباب الأميركي؛ ضمن الفئة العمرية 18- 30 عامًا، تؤيّد الفلسطينيين، مقابل 56% تؤيّد الاحتلال، في حين تنخفض النسبة إلى 52% تؤيّد الفلسطينيين، مقابل 67% تؤيّد الاحتلال بين مجمل الأميركيين بغض النظر عن أعمارهم. أما عام 2019 فقد كانت نسبة مؤيّدي الفلسطينيين نحو 58% مقابل 63% يؤيّدون الاحتلال. من هنا نلحظ أن التزايد في نسبة مؤيدي الفلسطينيين غير مرتبطٍ بجرائم الاحتلال الأخيرة، أو بـ"طوفان الأقصى"، بقدر ما يعكس تحولاً تدريجيًا بالرأي العام الأميركي آخذًا بالتزايد رويدًا رويدًا نتيجة عوامل عديدة، أهمّها؛ سهولة الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالصراع، الراهنة والماضية، فضلاً عن نجاح الفلسطينيين وداعميهم في كسر حاجز التواصل مع المجتمعات الغربية، استنادًا إلى فعالية الجالية الفلسطينية والعربية في تلك الدول، وحسن استخدام الوسائل المتاحة الأكاديمية منها والإعلامية، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، وأخيرًا نتيجة جهود التوثيق الفلسطينية والدولية الموثوقة، التي وثقت وتوثق معظم جرائم الاحتلال.
نجد الأمر ذاته في معظم دول المعسكر الغربي، أو على الأقلّ في أهمّها، فمثلاً عبر 16% من البريطانيين عام 2014 عن تعاطفهم مع الاحتلال، مقابل 22% مع الفلسطينيين، وفق استطلاعات رأي مؤسسة "يوغوف". كما أشارت استطلاعات رأي عديدة أجرتها المؤسسة ذاتها، إلى جانب مؤسسة "بوبليوس" في الفترة الممتدة بين 2005- 2012 إلى أن أكثر من 40% من البريطانيين يعتبرون أن الاحتلال يرتكب حرب إبادة ضدّ الفلسطينيين.
في ألمانيا أيضًا؛ كشف استطلاعٌ للرأي نشرته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" الصهيونية عن أن 36% من الألمان يعتقدون أن الاحتلال الصهيوني يعامل الفلسطينيين كما عامل النازيون اليهود، فضلاً عن 25% من الألمان ممن لا يستبعدون ذلك.
كلّ تلك الاستطلاعات سابقة لـ"طوفان الأقصى"، ولعدوان الإبادة الجماعية الصهيونية الحالية ضدّ الفلسطينيين، ما يؤشر إلى تحولٍ متدرجٍ في الرأي العام العالمي حول الاحتلال أولاً، وحول الفلسطينيين ثانيًا. بناء عليه لا تعكس التظاهرات الحاشدة العالمية اليوم رد فعلٍ آنيٍ مؤقتٍ بقدر ما تعبر عن تزايدٍ واضحٍ في الشرائح الاجتماعية المطلعة على القضية الفلسطينية وحيثياتها، ممن كونوا آراءً؛ ربّما معتقداتٍ، بشأنها تخلص إلى إدانة الاحتلال، والتعاطف مع الجانب الفلسطيني.
الجدير بالملاحظة هنا إن مسار تأطير الحركة الاحتجاجية العالمية قد بدأ في دولٍ عديدةٍ حول العالم
انطلاقًا من ذلك؛ نلحظ مساهمة "طوفان الأقصى"، وعدوان الإبادة الجماعية الصهيونية في تحول تلك الآراء والمواقف الحاسمة تجاه الاحتلال من المواقف النظرية المعبر عنها في استطلاعات الرأي، إلى حراكٍ اجتماعيٍ متواصلٍ ودؤوبٍ يهدف إلى جملةٍ من الأهداف الآنية منها والبعيدة، وفي مقدمتها وقف عدوان الإبادة الجماعية الصهيونية فورًا، وكسر الحصار اللاإنساني على قطاع غزّة فورًا، إلى جانب دعم الصمود الفلسطيني، ودعم استعادة كلّ، أو معظم، الحقوق الفلسطينية المستلبة.
ديمومة الحركة الاحتجاجية العالمية وحيويتها في ابتكار أنماطٍ احتجاجيةٍ جديدةٍ ومتنوعةٍ تثبت أيضًا طبيعتها الراسخة في عقول ووجدان المتظاهرين، إذ روجت بعض الأطراف المعنية برصد تحولات الرأي العام لاعتقاداتٍ خادعةٍ مبنيةٍ على فرضية تحول فلسطين وقضيتها، وقطاع غزّة تحديدًا، إلى ترند عالمي، سرعان ما ستزول مظاهره الاحتجاجية، إذ سيتسرب اليأس والملل إلى قلوب المتظاهرين، ما سيدفعهم إلى هجران الحركة الاحتجاجية، والعودة إلى حياتهم الروتينية، أو الالتحاق بترندٍ جديدٍ هنا أو هناك، لكن الجميع فوجئوا بديمومة الحركة الاحتجاجية على مدى الأحد عشر شهراً الماضية، وبعدم تراجع حدتها وكثافتها، إلّا في مناسباتٍ استثنائيةٍ، ما يكشف عن عزيمة المتظاهرين وإصرارهم، كما يعبر عن رسوخ أفكارهم وجدية مطالبهم.
أيضًا؛ يوحي التعامل الصهيوني مع هذه الظاهرة قبل "طوفان الأقصى" باستشعاره مخاطر هذا التحول في الرأي العام العالمي، إذ عمدت حكومات الاحتلال المتعاقبة على إنشاء وزارةٍ مستحدثةٍ عام 2006؛ بعد ذلك توقفت الوزارة عن العمل لنحو عام واحد فقط، هي وزارة الشؤون الاستراتيجية والدعاية، من أهمّ مهامها مواجهة/ محاربة تأثير حركة المقاطعة في الجامعات وفي الرأي العام الدولي. إلى جانب تكليف مجلس الأمن القومي الصهيوني، عبر التعاون مع وزارة الخارجية الصهيونية، بمهمة التصدي لهذا التحول، ما يدل على جذريته وعمقه وثباته.
إذًا؛ لا تبدو الحركة الاحتجاجية اليوم طفرةً استثنائيةً في توجهات الرأي العام الدولي، بقد ما تعبر عن التحول من دعم الفلسطينيين وإدانة الاحتلال لفظيًا إلى ممارستهما عمليًا عبر أنماطٍ احتجاجيةٍ متنوعةٍ، لكن هل يعني ذلك استمرارية هذا الفعل الاحتجاجي بعد توقف العدوان الصهيوني على قطاع غزّة؟!
من الصعب الإجابة بدقةٍ متناهيةٍ على هذا السؤال، لكن وقبل العمل على مقاربة الإجابة لا بدّ من التساؤل هل يجب على الحركة الاحتجاجية العالمية الاستمرار في ذات الأنماط الاحتجاجية الحالية بعد نهاية عدوان الإبادة الجماعية على فلسطين/ قطاع غزّة؟ بكل تأكيد كلا، فتاريخ الحركات الاحتجاجية ينفي هذه الفرضية، كما أن مسؤوليات وأولويات المتظاهرين قد تختلف أو تتعدد في مراحل لاحقة، لذا ليس المطلوب استمرار هذه الحركة الاحتجاجية بالنمط ذاته المتبع اليوم، لكن عليها أن تتأطر في مؤسساتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ وأكاديميةٍ وحقوقيةٍ فاعلةٍ على كلّ المستويات.
نلحظ أن التزايد في نسبة مؤيدي الفلسطينيين غير مرتبطٍ بجرائم الاحتلال الأخيرة، أو بـ"طوفان الأقصى"، بقدر ما يعكس تحولاً تدريجيًا بالرأي العام الأميركي
الجدير بالملاحظة هنا إن مسار تأطير الحركة الاحتجاجية العالمية قد بدأ في دولٍ عديدةٍ حول العالم، سواء عبر تحالفات الحركات الاحتجاجية والمطلبية المتنوعة النقابية والنسوية الجندرية والمناهضة للعنصرية، أو عبر الأطر السياسية كما في الحملات الانتخابية الأميركية والبريطانية والفرنسية تحديدًا، والأوروبية عمومًا، التي كشفت عن إدراج قوىً سياسيةٍ يساريةٍ، أو أفرادٍ، تصوراتٍ سياسيةٍ تعنى بدعم حقوق الفلسطينيين، ودعم كفاحهم ونضالهم من أجل استعادتها، كما في تصوراتٍ تطالب بمقاطعة الاحتلال وفرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ وثقافيةٍ عليه. إلى جانب المسارات القانونية المتعددة، التي بدأت بدعوى جنوب أفريقيا، والتي ترجح معظم التقديرات استمرارها في التصاعد والتزايد والمضي قدمًا حتّى بعد نهاية العدوان الصهيوني الحالي.
كما لا بدّ من الإشارة إلى دور الجسم السياسي الفلسطيني في تأطير الحركة الاحتجاجية والمساعدة على تنظيمها، من خلال التواصل والتنسيق معها، بل والمساهمة في رفدها بالوثائق والإحصاءات ذات الصلة، فضلاً عن تقديم التفسيرات المنطقية والعلمية الدقيقة حول ما حصل ويحصل في فلسطين، إلى جانب تقديمه لرؤيةٍ سياسيةٍ تحرريةٍ شاملةٍ وتقدميةٍ وإنسانيةٍ للقضية الفلسطينية تتشابك مع الرؤى التحررية والتقدمية العالمية لمجمل الحركات الاحتجاجية والمطلبية العالمية المتضامنة مع فلسطين وقضيتها وشعبها اليوم.
خلاصة القول؛ لسنا أمام لحظةٍ عابرةٍ آنيةٍ، أخذت فيها شعوب العالم موقفًا إنسانيًا سريعًا رافضًا لعدوان الإبادة الجماعية في قطاع غزّة فقط، بل نحن أمام تعبيرٍ عمليٍ عن تحولٍ متدرجٍ سابقٍ في الرأي العام العالمي بشأن القضية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، تحولٍ بدأت مظاهره في الانكشاف قبل نحو عقدين من الزمن، وها هو اليوم يتحول إلى فعلٍ جماعيٍ منظمٍ في معظم عواصم العالم نتيجة ضرورة العمل على وقف جريمة الإبادة الجماعية الصهيونية فورًا، ومن ثمّ قد يتحول إلى فعلٍ منظمٍ بعيد المدى سياسيٍ وقانونيٍ وثقافيٍ واقتصاديٍ، وعليه فإن عولمة فلسطين اليوم هي تحولٌ جذريٌ عالميٌ قابلٌ للاستمرار والتصاعد أيضًا إن أحسنا التعامل معه.