يجيب المقال عن مجموعةٍ من التساؤلات على النحو التالي: كم عدد التشكيلات العسكرية في الحالة الفلسطينية؟ وما سلبيات وإيجابيات تعدد الحالات العسكرية، وانعكاسها على مشروع التحرر الوطني؟ وهل يتناسب الواقع الميداني والسياسي مع هذا الشكل التنظيمي؟ وهل تتلاءم مع طول النفس النضالي؟ وما الرؤية الأمثل التي تنسجم وخصوصية الحالة الفلسطينية؟
أولًا: هوية التشكيلات العسكرية بالحالة الفلسطينية
لو عدنا للسياق التاريخي لحركات التحرر في العالم، سنجد مسألتين لافتتين في الثورة الجزائرية، هما: الأولى وحدة الأحزاب وحركات التحرر الجزائرية في جبهة التحرير الوطني (FLN). في حين تتمثل الثانية بأن جزءًا كبيرًا من تمويل الثورة كان من جزائريي الشتات. ولو انتقالنا سريعًا إلى فيتنام، فإن الثوار الفيتناميين عملوا موحدين ضمن استراتيجية حرب الشوارع، وكبدوا الحلفاء خسائر فادحةً، وعملوا بكل الوسائل الممكنة لإضعاف دولة الجنوب في فيتنام، واللافت هنا هو صلابة الموقف السياسي الفيتنامي في التفاوض، الذي انطلق من محددٍ، أن أي تسويةٍ سياسيةٍ تبدأ بالانسحاب الأجنبي من فيتنام، واجراء انتخاباتٍ لتوحيد الفيتناميين في دولةٍ واحدةٍ، وهو ما حدث بالضبط.
أما جنوب أفريقيا، فقد اتحد السود خلف عنوانٍ وهدفٍ واحدٍ، يقودهم نيلسون مانديلا، ونجحوا في التخلص من التمييز العنصري، الذي مارسه المستعمرون البيض ضدهم. التقاطعات بين النماذج التاريخية المختلفة تؤكد أن وحدة الصف والهدف كانت الطريق الأمثل للخلاص من الاحتلال، فهل ينطبق ذلك على الحالة الفلسطينية؟
فلسطين من بحرها إلى نهرها هي المخرج الوحيد للرد على تقويض حل الدولتين، من قبل إسرائيل، وسط صمت المجتمع الدولي
يوجد في الحالة الفلسطينية ما يقارب 17 تشكيلًا عسكريًا، يمارس المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، هي: كتائب الشهيد عز الدين القسام التابعة لحركة حماس، وسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وتعمل في جنين باسم كتيبة جنين، كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وتضم أكثر من تشكيلٍ عسكريٍ؛ أهمها وحدات الشهيد أيمن جودة، ووحدات الشهيد نضال العامودي، وكتائب أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكتائب المقاومة الوطنية التابعة للجبهة الديمقراطية، كتائب الشهيد جهاد جبريل، التابعة للجبهة الشعبية القيادة العامة، وجيش العاصفة، وكتائب الشهيد عبد القادر الحسيني، وكتائب الأنصار التابعة لحركة الأحرار، وألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة في فلسطين، وكتائب الناصر صلاح الدين التابعة لحركة المقاومة الشعبية، وحركة المجاهدين، وعرين الأسود، وأسود الحق، وكتيبة طولكرم.
ثانيًا: إيجابيات وسلبيات تعدد التشكيلات العسكرية في الحالة الفلسطينية
تتمثل خصوصية الحالة الفلسطينية في أن إسرائيل كيانٌ استيطانيٌ كولونياليٌ، ولد عبر هجراتٍ متتاليةٍ من الغرب إلى فلسطين، ليشكل شعبًا وأرضًا وسيادةً على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني، وهو أمرٌ مختلفٌ عن باقي نماذج الاستعمار في تاريخنا المعاصر. كذلك اختلفت الحركة الوطنية الفلسطينية فيما بينها على الأدوات والوسائل والرؤية تجاه هذا الاحتلال، فمنهم من أقر بشرعيته على 78% من مساحة فلسطين، ومنهم من رفض فكرة الكفاح المسلح وسيلةً للتخلص من الاحتلال، وهذا أسس لنواة الانقسام السياسي بشأن فكرة التحرير، بما يطرح تساؤلاً استراتيجيًا هو: ما حدود الأرض المراد تحريرها؟ وما شكل المقاومة الذي يحقق ذلك؟
وفقاً لما سبق نسرد أهم الإيجابيات والسلبيات من تعدد التشكيلات العسكرية في الحالة الفلسطينية، على النحو التالي:
1. الإيجابيات:
• تعكس حالةً تنافسيةً بين التشكيلات العسكرية، في الفعل المقاوم ضد الاحتلال.
• تصعب على الاحتلال الصهيوني ملاحقتها أمنيًا.
• تعدد مصادر التمويل، إذ هناك من يمول المقاومة على أسسٍ سياسيةٍ أو أيديولوجيةٍ أو جغرافيةٍ...إلخ.
التقاطعات بين النماذج التاريخية المختلفة تؤكد أن وحدة الصف والهدف كانت الطريق الأمثل للخلاص من الاحتلال
2. السلبيات:
• بعض الإيجابيات التي ذكرها المقال قد تصبح في لحظةٍ ما سلبيةً، انطلاقًا من تدخل الممول في توجيه المقاومة، بما يخدم توجهاته السياسية في المنطقة، وعليه تصبح بعض التشكيلات أداةً بيد الممول، بما ينعكس سلبًا على صورة النضال الوطني الفلسطيني.
• تعدد التشكيلات العسكرية هو انعكاسٌ طبيعيٌ لتعدد الرؤى والأهداف والأيديولوجيات، وعليه فإن من أهم السلبيات بروز الانقسام والتباين والصراع ما بين تلك الفصائل، على حساب الفعل المقاوم المبني على رؤيةٍ واستراتيجيةٍ وهدفٍ واضح المعالم.
• التجارب التاريخية الناجحة في التخلص من الاستعمار انطلقت من: وحدة المقاومة ضد الاستعمار، والتخلص من المال السياسي قدر المستطاع، عبر الاعتماد على الذات، وعلى الإسناد الشعبي، وعلى الدول التي تتقاطع مع الأهداف الوطنية، التي يتبناها الشعب المُحتل؛ الفلسطيني. وحدة التشكيلات العسكرية في مكونٍ واحدٍ جامعٍ سيفشل الضغوط الإقليمية والدولية كافة على المقاومة الفلسطينية، وسيجعل المفاوض الفلسطيني أكثر قوةً وحضورًا لأنه يستند إلى قوةٍ وهدفٍ ورؤيةٍ واضحة المعالم، في ظل انهيار حل الدولتين، وانتقال إسرائيل من مرحلة إدارة الصراع إلى حسمه، والقائم أساسًا على ضم الضفة الغربية، واقتلاع الشعب الفلسطيني، عبر زيادة وتيرة الاستيطان.
ثالثًا: مدى مواءمة الواقع الميداني والسياسي مع هذا الشكل التنظيمي
نلحظ من الوهلة الأولى عدم سهولة تغييب أسماء تلك التشكيلات لصالح انصهارها في بوتقةٍ واحدةٍ، ففيها الإسلامي والليبرالي واليساري، وفيها من يرى فلسطين على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967م، ومنها من يرى فلسطين من البحر إلى النهر، ومن تلك الفصائل من لها تشكيلاتٌ عسكريةٌ ولكن قيادتها السياسية لا تؤمن بالكفاح المسلح (حالة حركة فتح ممثلة بالرئيس محمود عباس)، وعليه بات سلاح المقاومة معضلةً من وجهة نظر بعض الأشخاص، وهو ما دفع الكاتب لطرح تساؤلٍ على رئيس حركة حماس في قطاع غزّة؛ يحيى السنوار، في أحد اللقاءات التي جمعته معه برفقة بعض الكتاب، سأله عن معضلة سلاح المقاومة حال أنجاز المصالحة الفلسطينية، أجابه بجهوزية حركته؛ حماس، أن تضع مقدرات كتائب القسام وقادتها وجندها تحت قيادة جيش التحرير الفلسطيني، التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، بشرطٍ واحدٍ ووحيد، هو إعادة هيكلة المنظمة على أسسٍ ديمقراطيةٍ، كي تصبح ممثلةً للجميع.
إن مواءمة الواقع الميداني والسياسي مع هذا الشكل التنظيمي في تقدير الكاتب هو أمرٌ مرهقٌ جدًا للثورة الفلسطينية، وليس رافعًا لها، ويبدو حديث السنوار منطلقًا من تلك الرؤية، ولكن ليس من السهل تجاوز ذلك، في ظل حجم التباينات، وقوة جماعات المصالح والتأثير، ونفوذ بعض العواصم الإقليمية والدولية في الحالة الفلسطينية، وعليه يقدر الكاتب استمرار الحالة الراهنة إلى أن يتحقق أحد التحولات التالية:
1. أن تقتنع القيادة الفلسطينية الراهنة بأن إسرائيل ماضيةٌ في حسم الصراع، وأن حل الدولتين بات سرابًا، واقتلاع الفلسطيني من أرضه وبيته أصبح قاب قوسين أو أدنى.
2. أن يخرج الشارع الفلسطيني ويتحرر من انتمائه الحزبي، لصالح قضاياه الوطنية الكبرى، ويقرر المسار الذي يرى فيه خلاصه من الاحتلال.
من وجهة نظر الكاتب، وبعد كل هذه السنوات من النضال الوطني، فإن تعدد الرؤى والأهداف والمفاهيم في القضايا الوطنية الكبرى، لا يخدم مشروع التحرر الوطني، كما أن أحد أهم تجليات هذا التعدد هو وجود تلك التشكيلات العسكرية المختلفة، التي تزيد من حالة الاستقطاب، وعليه فإن مواءمة الواقع السياسي والميداني مع هذا الشكل التنظيمي بحاجةٍ إلى إعادة نظر، وعليه فإن الرؤية الأمثل تتمثل في اتحادهم، لتحقيق هدفٍ واحدٍ وهو تحرير فلسطين.
تتمثل خصوصية الحالة الفلسطينية في أن إسرائيل كيانٌ استيطانيٌ كولونياليٌ، ولد عبر هجراتٍ متتاليةٍ من الغرب إلى فلسطين
لكن إذا استمر الانقسام في الرؤى السياسية الفلسطينية؛ فإن استمرار التعدد ممكنٌ، ولكنه يحتاج إلى طول النفس النضالي، وهو ما يترتب عليه خسائر أكبر. لكن الكرة بيد الشعب الفلسطيني، الذي ينبغي عليه حسم توجهاته الاستراتيجية، عبر الإجابة على سؤالين هما: ماذا يريد؟ وكيف يحقق ما يريد؟
رابعًا: الرؤية الأمثل التي تنسجم وخصوصية الحالة الفلسطينية
قد يكون هذا المحور من أهم ما جاء في المقال، كونه يجيب على السؤال الصعب، ماذا بعد؟ فوصف المشكلة وتحديدها ربما يكون سهلًا، في حين يبدو وضع الحلول صعبًا، وهنا سيجتهد الكاتب من وحي خبرته، وعليه يضع أمام الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، المقرر اجتماعهم في يوليو/تموز الحالي في العاصمة المصرية القاهرة؛ برئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ما هو مطلوبٌ لاستدراك مسارٍ طويلٍ من النضال والتضحية، دون تحقيق الهدف، في التحرر والانعتاق من الاحتلال.
إن كلمة السر الخاصة بنجاح اجتماعات القاهرة المقبلة تتمثل في التوافق على استراتيجيةٍ وطنيةٍ، تتضمن مفهومًا موحدًا للمشروع الوطني الفلسطيني، منسجمًا مع طبيعة المكون الصهيوني، وطبيعة الحكومة الحالية الفاشية بزعامة بنيامين نتنياهو، وحتى يتم هذا التوافق، ولا يكون الاجتماع مثل العديد من الاجتماعات التي سبقته، حتى بات لدينا أرشيف من الوثائق والقرارات والخطابات والتوصيات دون تنفيذ، ما دفع الشارع الفلسطيني إلى أن يطلق على مثل تلك اللقاءات مصطلح سياحة المؤتمرات، وهذه مسألةٌ تعكس زيادة الفجوة بين القيادة والقاعدة، ودون العمل على ردم تلك الفجوة، فإن فرص تنفيذ أي استراتيجيةٍ سيخرج بها قادة الفصائل ستكون صعبة التطبيق، دون مؤشراتٍ على الأرض، ومن أهم تلك المؤشرات:
• خطواتٌ لبناء الثقة، تتمثل بوقف الاعتقال السياسي، والإفراج عن المعتقلين السياسيين كافة.
• دعوة الخبراء من الشعب الفلسطيني، ومن الأشقاء العرب، ذوي الخبرة بالقضية الفلسطينية، لعقد مؤتمر طائفٍ جديدٍ للتفكير، ولدراسة ما يمكن عمله، عبر تقييمٍ وتقويمٍ شاملٍ للمشهد الفلسطيني، ونتيجة تلك الدراسة يؤسس للاستراتيجية التي ينبغي أن تقرها القيادات الفلسطينية المجتمعة بالقاهرة، وحتى ذلك فإنني أجتهد بوضع أهم ملامح الاستراتيجية الوطنية الممكن التفكير بها ودراستها واقرارها، على النحو التالي:
1. التوافق على إجراء انتخاباتٍ شاملةٍ، بموجبها ينتخب مجلس وطني جديد، قادر على إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة الاعتبار لمؤسساتها وميثاقها، ويؤسس لبناء جيش وطني، يدمج كافة التشكيلات العسكرية كافة داخله، للبدء بمرحلةٍ نضاليةٍ جديدةٍ، تقوم على الفعل العسكري والشعبي المشترك.
2. تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية، عبر التحول إلى الإعلان عن فلسطين دولة تحت الاحتلال، برلمانها هو المجلس الوطني، الذي يشترك به جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج.
3. فلسطين من بحرها إلى نهرها هي المخرج الوحيد للرد على تقويض حل الدولتين، من قبل إسرائيل، وسط صمت المجتمع الدولي، ومن يقبل من المجتمع الإسرائيلي العيش في كنف الدولة الفلسطينية، ينبغي على الاستراتيجية الوطنية؛ المأمول شعبيًا في رؤيتها، ألا تعارض ذلك.
4. توظيف أوراق القوة الفلسطينية، المتمثلة في فلسطيني 1948 والشتات، عبر رؤية واضحة، تناقش أدوارهم الرئيسة في خدمة تحقيق الهدف والمصير للقضية الفلسطينية.
5. التقاضي الدولي لمحاكمة إسرائيل في المحاكم الدولية على جرائمها المتعددة، من استيطانٍ وقتلٍ وتهويدٍ وتمييزٍ عنصريٍ بحق الشعب الفلسطيني.
6. بناء رؤية إعلامية تتجاوز حالة الانقسام، وتؤسس لخطاب وحدوي ينسجم وطبيعة المرحلة، في حالة التوافق على الاستراتيجية الوطنية، وألا يعود المجتمعون بخفي حنين، كما يتوقع الكثيرون.
إذا استمر الانقسام في الرؤى السياسية الفلسطينية؛ فإن استمرار التعدد ممكنٌ، ولكنه يحتاج إلى طول النفس النضالي
الخلاصة: انطلاقًا من تحليل الواقع الراهن، فإن تعدد التشكيلات العسكرية ممكن أن يخدم رؤية وهدف التحرير، إذا توافقت تلك التشكيلات وتكاملت بالفعل والأدوار، لتحقيق الهدف الاستراتيجي بالتحرير والعودة، وتشكل غرفة العمليات المشتركة نموذجًا بحاجةٍ إلى تطوير أكثر، للوصول إلى أفضل النتائج، وغرفة العمليات هنا هي محاكاةٌ لنموذج وحدة التشكيلات العسكرية.