على الجانب الآخر من الأزمة السياسية العراقية المتفاقمة منذ نحو سبعة أشهر، والانقسام الحاد بين مختلف القوى الرئيسة حيال ملف تشكيل الحكومة الجديدة، والذي دفع بزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أول من أمس الأحد، للطلب من نواب كتلته في البرلمان تقديم استقالاتهم، وهو ما حصل، تتواصل الخلافات داخل "الحشد الشعبي"، المظلة الجامعة لأكثر من 70 فصيلاً مسلحاً في البلاد.
وقد برزت هذه الخلافات بشكل جلي في اليومين الماضيين في ذكرى تأسيس "الحشد الشعبي"، مع دعوة الصدر أول من أمس لتطهير هذه الهيئة، فيما حذر رئيسها فالح الفياض أمس الإثنين "من تزييف الرأي العام وآثاره ومخاطره على العراق وشعبه"، مؤكداً أن "هناك من يحاول تسقيط الحشد".
الصدر يدعو لتطهير "الحشد الشعبي" والفياض يرد
وجدد الصدر، في بيان بذكرى تأسيس "الحشد الشعبي"، أول من أمس الأحد، دعوته إلى إعادة تنظيم "الحشد" وفصله عما يُعرف بـ"فصائل المقاومة المسلحة" المرتبطة بإيران، والمعروفة محلياً باسم "المليشيات الولائية"، وكذلك إبعاده عن السياسة والتجارة.
وتشكَّل "الحشد الشعبي" بناء على فتوى "الجهاد الكفائي" التي أصدرها المرجع الديني علي السيستاني، منتصف عام 2014، بعد سيطرة تنظيم "داعش" على مدن ومساحات واسعة من شمالي العراق وغربه.
وذكر الصدر، في بيانه، أنه "صار لزاماً على الجميع تنظيم الحشد وقياداته والالتزام بالمركزية، وفصله عما يسمى بالفصائل، وتصفيته من المسيئين، من أجل بقاء سمعة الجهاد والمجاهدين ودمائهم طاهرة أولاً، ومن أجل تقوية العراق وقوّاته الأمنية ثانياً، وليبقى الحشد حشد الوطن وفي الوطن". وشدد على أنه "لا ينبغي زجّ عنوان الحشد في السياسة والتجارة والخلافات والصراعات السياسية، وما شاكل ذلك".
الصدر يدعو لتنظيم "الحشد الشعبي" والفياض يحذر من تزييف الرأي العام
في المقابل، دافع رئيس هيئة "الحشد الشعبي"، فالح الفياض، أمس الإثنين، عن هذه الهيئة، مؤكداً أن الحشد "لن يكون طرفاً بأي معركة سياسية". وقال الفياض في كلمة في المؤتمر السنوي لإحياء الذكرى الثامنة لتأسيس الحشد الشعبي، في بغداد، إن "الحشد سيبقى رافعاً راية العراق من دون أي تراجع".
وحذر الفياض في كلمته "من تزييف الرأي العام وآثار ذلك ومخاطره على العراق وشعبه"، مؤكداً أن "هناك من يحاول تسقيط الحشد ووصفه بالمؤقت في محاولة لإعادة الفوضى للعراق".
ووجه الفياض "كلمة شكر لزعيم التيار الصدري بشأن البيان الذي أصدره (الأحد) عن الحشد الشعبي"، مؤكداً أن "الحشد ضامن للأمن ولن يكون منحازاً لأي طرف سياسي، ولن يتم استخدام موارده بأي فرقة سياسية ولن يسمح بإسقاط الدولة"، في رد على الدعوات التي أطلقها الصدر في بيانه في إطار دعوته لتنظيم "الحشد".
وتبدو الخلافات واضحة على المستوى التنظيمي داخل "الحشد الشعبي". إذ تواصل الفصائل المسلحة المرتبطة بالنجف، والتي يُطلق عليها اختصاراً اسم "حشد العتبات"، إضافة إلى جماعة "سرايا السلام"، الجناح المسلح لـ"التيار الصدري" بزعامة مقتدى الصدر، رفضها الارتباط برئيس أركان "الحشد الشعبي" عبد العزيز المحمداوي، المعروف بلقب "أبو فدك". وتتعامل هذه الفصائل مع ديوان وزارة الدفاع ومكتب القائد العام للقوات المسلحة، الذي يشغله دستورياً رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي.
"حشد العتبات" و"سرايا السلام" تواصل رفضها الارتباط برئيس أركان "الحشد الشعبي" عبد العزيز المحمداوي
محاور الخلاف بين فصائل "الحشد الشعبي"
أبرز ثلاث نقاط للخلافات بين "حشد العتبات"، التي تمثلها كل من "فرقة العباس القتالية"، و"لواء أنصار المرجعية"، و"فرقة الإمام علي"، و"لواء علي الأكبر"، إلى جانب جماعة "سرايا السلام" من جهة، وبين رئاسة هيئة "الحشد الشعبي" من جهة أخرى، هو التمييز في التعامل بين الفصائل. إذ يتم منح تلك المقربة من إيران مثل "كتائب حزب الله" و"النجباء" و"عصائب أهل الحق" و"البدلاء" و"كتائب الإمام علي" و"جند الإمام"، الأفضلية على مستوى التسليح والانتشار لعناصرها، كما يتم منحها المناصب المهمة داخل هيئة "الحشد الشعبي"، بما يمثل المحورين الأولين للخلافات.
أما الخلاف الثالث، فيتعلق بتدخل تلك الفصائل (المقربة من إيران) بالمشهد السياسي واتخاذها مواقف منحازة، إلى جانب أسباب أخرى، منها متعلقة بأنشطة مالية وتجارية ضمن ما تعرف بـ"المكاتب الاقتصادية" للفصائل الحليفة لإيران، وتورطها بالقتال في سورية إلى جانب قوات النظام ضمن أجنحة لها يتقاضى معظم أفرادها مرتباتهم من "الحشد الشعبي".
نشوء الخلافات بين فصائل "الحشد الشعبي"
وبرزت الخلافات داخل "الحشد الشعبي" إلى السطح، بعد مرور أسابيع على مقتل نائب رئيس "الحشد" السابق أبو مهدي المهندس، بغارة أميركية إلى جانب الزعيم السابق لـ"فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، في مطلع يناير/ كانون الثاني عام 2020.
فقد رفض وقتها كل من "التيار الصدري" والفصائل المرتبطة بالنجف قرار تسمية القيادي في "كتائب حزب الله" والمقرب من إيران عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك)، خلفاً للمهندس وتكليفه بمنصب رئيس "هيئة أركان الحشد".
ونهاية إبريل/ نيسان 2020، أصدر رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي أمراً بفك ارتباط الفصائل الأربعة ضمن "حشد العتبات"، برئاسة "الحشد الشعبي"، وربطها بمكتب القائد العام للقوات المسلحة بناءً على طلبها. فيما أظهرت وثيقة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي، توجيهاً لجماعة "سرايا السلام" بعدم التعامل مع رئيس "أركان الحشد الشعبي" عبد العزيز المحمداوي.
التوجيهات تصدر حالياً من مكتب القائد العام للقوات المسلحة لحشد العتبات
تطورات الخلافات بين فصائل "الحشد الشعبي"
وفي جديد التطورات على مستوى الخلافات داخل فصائل "الحشد الشعبي"، أفاد عضو بارز في فصائل "حشد العتبات" بأن الأخيرة رفضت المشاركة في تمرين عسكري نظمته أخيراً رئاسة أركان الحشد الشعبي مع باقي الفصائل، مؤكداً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "سرايا السلام امتنعت أيضاً عن المشاركة في هذا التمرين".
ولفت المصدر نفسه، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أن "التوجيهات تصدر حالياً من مكتب القائد العام للقوات المسلحة لحشد العتبات، ولا يوجد ارتباط تنظيمي أو توجيهي مع رئاسة أركان الحشد الشعبي".
من جهته، قال قيادي آخر مقرب من قائد "فرقة العباس القتالية" ميثم الزيدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الخلافات هدأت خلال الفترة الماضية من دون أن يتم حلها، غير أنها تفاعلت مجدداً مع اكتشاف تحرك بعض الفصائل الولائية (الموالية لإيران) للتحريض على تمرّد وانشقاقات داخل فصائل حشد العتبات، وإقناع عناصرها بعزل قادتهم أو الالتحاق بتلك الفصائل (الولائية)".
وأوضح القيادي الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن "الخلاف بين حشد العتبات وبقية الفصائل، ورئاسة أركان الحشد، يكمن في محاولة تقزيم دور الفصائل العراقية المرتبطة بالنجف وكربلاء، واستغلال اسم الحشد في ملفات غير عراقية أو ملفات لحسابات شخصية وحزبية، فالحشد الذي انطلق من فتوى دينية هدفه أمني وعسكري وليس سياسياً ودبلوماسياً".
الخلافات بين "حشد العتبات" و"سرايا السلام" و"الحشد الشعبي"
في السياق، قال عضو "التيار الصدري" مهند حسين، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الخلافات بين سرايا السلام، وبعض الجهات في الحشد الشعبي، تتعلق بحدود الوطن ومشاركة القوى المسلحة في العمل السياسي، واستغلال أموال الدولة لتمويل مقرات حزبية وإدارة الحملات الانتخابية، إضافة للاستمرار بدعم الفاسدين".
وتابع "ناهيك عن الخلاف بين السيد الصدر وقادة الفصائل الولائية بشأن زج الشباب العراقيين في حروب خارج العراق"، مؤكداً أن "سرايا السلام لن تخضع لتوجيهات تأتي من الخارج".
تحرك لبعض الفصائل الولائية للتحريض على تمرّد وانشقاقات داخل فصائل حشد العتبات
وتُشكّل فصائل "حشد العتبات" أكثر من 40 في المائة من تعداد عناصر "الحشد الشعبي"، وعادة ما توصف بأنها الأكثر التزاماً، في حين تسيطر الفصائل "الولائية" على كل المفاصل القيادية ودوائر القرار في "الحشد الشعبي".
إلى ذلك، اعتبر نائب زعيم جماعة "حركة الأبدال"، إحدى الفصائل المسلحة الحليفة لطهران في العراق، كمال الحسناوي، أن "الاختلاف بوجهات النظر لا يؤثر على العمل العسكري والمهام الأساسية للحشد الشعبي"، مضيفاً في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الخلافات غير جوهرية".
لكن عضو تحالف "الفتح" (الجناح السياسي للحشد الشعبي)، والنائب السابق رزاق الحيدري، أكد لـ"العربي الجديد"، "وجود مشاكل وتوتر أحياناً بين بعض الفصائل، لا سيما تلك التي تسمي نفسها حشد العتبات، وأخرى بات يطلق عليها وصف الولائية، على الرغم من أنها تخضع لقانون واحد، إلا أنها تختلف بالتوجهات".
وأشار إلى أن "الفترة الماضية شهدت توتراً بين قادة بعض الفصائل، وقد تدخلت أطراف وقللت من حدة الخلافات، لكن لا يبدو أنها انتهت".
علي البيدر: التضارب في المواقف لدى الجماعات المسلحة جزء من الحالة العراقية المتوترة
بدوره، قال الباحث والمحلل السياسي العراقي علي البيدر إن "الخلافات لا تنتهي ما بين الفصائل المسلحة، لأن الخلافات السياسية مستمرة. إذ إن فصائل حشد العتبات التي تسعى لأن تكون الصورة الوردية للحشد الشعبي، لديها متطلبات في صناعة محتوى وفكر معيّن، كما أن سرايا السلام تتبنى حالياً فكرة حكومة الأغلبية، التي يسعى إليها الصدر، بينما الفصائل الولائية تتبع تحالف الإطار التنسيقي بكل خطواته ومواقفه".
وتابع في اتصال مع "العربي الجديد": "وبالتالي، فإن هذا التضارب في المواقف لدى الجماعات المسلحة جزء من الحالة العراقية المتوترة".
واعتبر البيدر أن "للخلافات دوافع مصلحية، لأن كل جماعة تبحث عن مزيدٍ من المكاسب والنفوذ، وهي بالأصل تعمل من أجل حماية الوجود السياسي للقوى المشتركة في الحكومة، ناهيك عن وجود دوافع مذهبية. لكن مع ذلك، فإن المصالح تجمع المفترقين وتفرق المجتمعين، وبالتالي فإن سرايا السلام قد تنسجم في أي لحظة مع الولائيين، في حال اختار الصدر أن يتفق مع إيران".
وكان البرلمان العراقي قد أقر عام 2016 ما عرف باسم "قانون الحشد الشعبي"، الذي ضم جميع الفصائل المسلحة تحت هذا المسمى، واعتبرها جزءاً من المؤسسة العسكرية المرتبطة بالقائد العام للقوات المسلحة وتتلقى أوامرها منه.
لكن الفصائل المعروفة بـ"الولائية" لم تظهر التزاماً بهذا القانون، وظلّت تمارس أنشطة مخالفة له، بما في ذلك القتال في سورية. كما تورطت بتنفيذ جرائم وانتهاكات في المحافظات التي شهدت معارك ضد تنظيم "داعش".