بعد عقودٍ طويلةٍ مضت على حصار قطاع غزّة، واضطهاد سكانه من قبل دولة "الأبارتهايد" الصهيوني، قررت حركات المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، الخروج من دائرة ردة الفعل، في ما يتعلق بمقاومة الاحتلال عسكريًا، والابتعاد عن نهج العمليات الخاطفة لتحقيق مكاسب محدودةٍ، باتجاه تبنّي مقاربة حرب التحرير الشعبية الشاملة. على الأقلّ هذا ما تبينه تداعيات عملية طوفان الأقصى والحرب الشرسة على قطاع غزّة.
لم يكن توقيت العملية عبثيًا، فمن جهةٍ، وصلت الأوضاع الإنسانية في القطاع إلى درجةٍ لم يعد بالإمكان تحملها، في الوقت ذاته الذي تتسابق فيه حكومات الرجعية النفطية العربية لتطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال، ولتمكين الكيان الصهيوني من فرض هيمنته وأجنداته الإمبريالية العنصرية على المنطقة بأسرها.
من جهةٍ أخرى، تزامن تاريخ هذه العملية مع ذكرى حرب أكتوبر عام 1973، التي استغل فيها الجيش المصري آنذاك انشغال العدو بعطلة "بهجة التوراة" لمباغتته، وهو تمامًا ما فعلته حركة حماس. اختيار هذا التاريخ كان، كما هو واضح، بهدف استنهاض المشاعر الشعبية العربية، من أجل تحقيق أكبر التفافٍ شعبيٍ إقليميٍ ممكنٍ حول قرار المقاومة. التظاهرات الشعبية في مختلف العواصم العربية، بل والعالمية أيضًا، تبيّن أنّ حركة حماس نجحت تمامًا في تحقيق هذا الهدف.
فشل العدو الصهيوني تمامًا في تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب على غزّة، فجيش الاحتلال لم يتمكن من تحرير أسيرٍ واحدٍ لدى فصائل المقاومة
كسرت المقاومة الفلسطينية الحصار جوًا وبرًا وبحرً، لتهاجم مواقع العدو العسكرية، ومستوطنات غلاف غزّة التي تقطنها ميليشيات المستوطنين شبه العسكرية، بهدف استلام زمام المبادرة، في أكبر عمليةٍ عسكريةٍ نوعيةٍ، أسفرت عن مقتل نحو 1000 جنديٍ ومستوطنٍ صهيونيٍ، وأسر 250 مستوطنًا وجنديًا، من بينهم جنرالاتٌ وضباطٌ برتبٍ عسكريةٍ عاليةٍ.
راهنت حركة حماس على توسيع دائرة الصراع، عبر تدخل المجموعات الفلسطينية المسلّحة في الضفّة الغربية، وفي مقدمتها مجموعتا عرين الأسود وكتيبة جنين، إلّا أنّ الدور الذي تلعبه سلطة رام الله للحفاظ على أمن الاحتلال، عبر التنسيق الأمني، حال دون ذلك. كما أنّ الرهان على فتح خطوط النار عبر الجبهة الشمالية من قبل حزب الله اللبناني لم يكن مجديًا، بسبب عدم رغبة طهران وما يسمى بمحور الممانعة بخوض صراعٍ عسكريٍ مع "اليانكيز".
كانت السلطة الفلسطينية من جهتها؛ ولا تزال، تخشى انفجار الأوضاع في الضفّة الغربية، واندلاع حرب التحرير الشعبية الشاملة، أكثر من خشية حكومة الاحتلال من هذا السيناريو، بسبب مصالحها الطبقية البرجوازية، لدرجة أنّها باتت تتوسل دولة الاحتلال من أجل التدخل لوقف هجمات المستوطنين المسلحين على المدنيين الفلسطينيين، خوفًا من انخراط المقاومة العسكرية الفلسطينية في الضفّة الغربية في هذه المعركة.
لذا يواجه الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منفردًا حكومات الإمبرياليتين الأميركية والأوروبية، ودولة الاحتلال الصهيوني، والبرجوازية العربية، وحتى الفلسطينية. لكنه رغم هذا الظرف الوحشي، سجل انتصارًا تاريخيًا، لم يسبق لأي شعبٍ في العالم تحقيق مثيله.
فشل العدو الصهيوني تمامًا في تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب على غزّة، فجيش الاحتلال لم يتمكن من تحرير أسيرٍ واحدٍ لدى فصائل المقاومة، كما أن الالتفاف الشعبي حول المقاومة المسلّحة قد تزايد، على عكس ما كانت تراهن عليه "إسرائيل" عبر حربها الوحشية على المدنيين في أكبر سجنٍ مفتوحٍ شهده التاريخ الحديث.
لكن الأهمّ هو الانتصار الأخلاقي الذي حققته المقاومة الفلسطينية، إذ شهد العالم بأسره التعامل الإنساني لأفراد المقاومة مع الأسرى "الإسرائيليين"، مقابل همجية الجيش الصهيوني الذي أزهق نحو 30 ألف روحٍ بريئةٍ، الأمر أدى إلى إعادة إبراز القضية الفلسطينية على المشهد الدولي، وتحقيق تعاطفٍ أمميٍ واسعٍ، تحت شعار تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، من النهر إلى البحر.