كان اليمين الفرنسي المتطرف حاضراً في السباق إلى كرسي الرئاسة منذ أكثر من أربعة عقود. وجرت العادة، في السابق، أن يتقدم زعيم هذا التيار والأب المؤسس جان ماري لوبان لمنافسة مرشحي أكبر حزبين سياسيين، اليمين التقليدي والاشتراكيين. لم يكن أحد يحسب حساباً فعلياً لزعيم تنظيم "الجبهة الوطنية" العنصري، الذي كان منبوذا من الوسط السياسي والرأي العام. حتى تمكن لوبان في انتخابات عام 2002 من أن يتجاوز مرشح الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان، وينتقل إلى الدورة الثانية في مواجهة مرشح اليمين التقليدي جاك شيراك، الذي فاز بولاية رئاسية ثانية بنسبة عالية جداً. ورغم أن لوبان تعرّض لهزيمة ساحقة، فإنه حقق فوزاً معنوياً كبيراً لا يقدّر بثمن، وهو الوصول للدور الثاني. ولن يكون ذلك حكراً عليه، بل إن خليفته الابنة مارين نجحت في ذلك، وتنافست مع إيمانويل ماكرون في الدورة الثانية في 2017. وفي حين أنها خسرت الجولة، فإنها حققت نسبة من الأصوات بلغت 34 في المائة.
وصف زيمور المهاجرين القصّر غير المصحوبين بذويهم بأنهم "لصوص" و"قتلة" ومغتصبون
وكعادة هذه العائلة التي لا تعترف بالهزيمة، وتكرر المواجهة، فإن مارين لوبان تعد العدة للمواجهة في الانتخابات الرئاسية في إبريل/نيسان المقبل. وفي آخر استطلاع للرأي جاءت في المرتبة الثانية بنسبة 18 في المائة، بعد ماكرون الذي حاز نسبة 25 في المائة. ولكن معركتها ليست سهلة هذه المرة، فهي تواجه منافساً يأتي من ذات المعسكر، لكن بمواصفات وأسلحة مختلفة، وخطاب يتجاوز ذلك الذي عاشت عليه أسطورة آل لوبان، واضطرت إلى تعديله في العقد الأخير، إلى حد أن مارين لوبان طردت والدها من الحزب الذي أسسه لتسقط عنه صفة التطرف، وعدلت اسمه إلى "التجمع الوطني".
خصم مارين لوبان هو الصحافي إريك زيمور، صاحب الآراء الشعبوية التي لا تنفك تصدم الأوساط كافة، اليمين المتطرف والتقليدي، واليسار والوسط. هو نسخة فجة جداً من الشعبوية، يساعد في انتشارها أنه نجم إعلامي يعمل في عدة قنوات تلفزة، ومنها "سي نيوز" واسعة الانتشار، ويكتب في صحيفة "لوفيغارو"، ومؤلف مثابر على تأليف الكتب التي تلقى إقبالاً واسعاً، وهو كاتب ذو ثقافة واسعة بفضل دراسة عميقة للتاريخ والعلوم السياسية. وزيمور قادر على تزويج المتناقضات، وخلخلة الحقائق، وطرح ثيمات تعتبر من المحرمات حتى وقت قريب. فهو مثلاً لا يكف عن مديح المارشال فيليب بيتان الذي تعاون مع النازية في الحرب العالمية الثانية، ووافق على إرسال اليهود الفرنسيين إلى أفران الغاز. يقول زيمور كل يوم ما لا يستطيع أن يقوله أي سياسي فرنسي عن العرب والمسلمين في فرنسا. يسميهم المستوطنين، كما وصف المهاجرين القصّر غير المصحوبين بذويهم بأنهم "لصوص" و"قتلة" و"مغتصبون". ويؤسس حملته الانتخابية على هذا الأساس، بما يتجاوز مارين لوبان بكثير، وهدفه مواجهة ماكرون الذي يبدو أمامه مبشراً، ينشغل بتطمين الفرنسيين على أن أسعار "الباغيت" (الخبز) وليتر البنزين والبطاطا، لن ترتفع في الولاية الرئاسية الثانية.
زيمور يهودي من أصل أمازيغي جزائري. ولد في فرنسا في عام 1958، بعد أن رحلت عائلته قبل زمن طويل من استقلال الجزائر عام 1962. وهو يرى أن "هذه الهجرة فرصة ذهبية لهذه الأسرة اليهودية للانتماء إلى حضارة متجذِرة العراقة كالحضارة الفرنسية بتاريخها الكبير وثقافتها الغنية". وهو يرفض الاتهامات الموجهة لفرنسا بارتكاب مجازر في الجزائر، معتبراً أنه بينما جاءت لحظة استقلال الجزائر، اتخذت فرنسا قراراً إنسانياً خالصاً بعد رفضها إبادة الشعب الجزائري عن بكرة أبيه، كما "فعل مستكشفو أميركا الذين أبادوا شعباً وحضارة بأكملها حتى يتسنى لهم إقامة حضارتهم". ومن هاجروا من الجزائر وبلدان المغرب وأفريقيا إلى فرنسا، فهؤلاء مستوطنون، يعيشون وفق استراتيجية "الاستبدال الكبير"، ويقصد بذلك التبدل في الخريطة الديمغرافية لفرنسا، بسبب الهجرة، والتي ستؤدي بحسبه في نهاية المطاف إلى استبدال شعوب عربية ومسلمة، تنتشر وتحتل هذه البلدان بحكم التفوق العددي، بالشعوب البيضاء. وهو هنا لا يجد حرجاً في المطالبة بترحيل خمسة ملايين عربي ومسلم يحملون الجنسية الفرنسية، لأنه يعتبر أن هؤلاء يعيشون منغلقين على أنفسهم، ولديهم قانونهم المدني المستمد من القرآن، ومن غير المستبعد أن يأتي يوم يقوم فيه هؤلاء بإعلان دولتهم على الأراضي الفرنسية. ودعا الجيش الفرنسي إلى أن يقوم بالمهمة، كما فعل الجيش الإسرائيلي تجاه قطاع غزة. ولا ضير أن يطلب الجيش الفرنسي مساعدة من الجيش الإسرائيلي، والذهاب حتى القيام بحرب إبادة مثل تلك التي قام بها الصرب ضد مسلمي كوسوفو.
لا يجد زيمور حرجاً في المطالبة بترحيل خمسة ملايين عربي ومسلم يحملون الجنسية الفرنسية
وقبل نحو عام، رمى زيمور قنبلة مدوية في مؤتمر لليمين المتطرف، عندما اعتبر في خطابه أن الدين الإسلامي "أكثر لعنة على البشرية من النازية. أحد أبشع النظم السياسية التي عرفها التاريخ الحديث". وقال "في الكثير من الأحيان يغضب مني البعض لأنني أقارن الإسلام بالنازية. يعتبرون ذلك غير معقول. وأنا أتفق معهم في هذا الأمر أحياناً. نعم، من غير المعقول مقارنة النازية - رغم جرائمها الفظيعة- بالإسلام، ذلك الدين الدموي. هذا ظلم كبير للنازية والنازيين دون شك".
وهدد في حال وصوله إلى الرئاسة بالتعامل مع المسلمين كما تعاملت الثورة الفرنسية ونابليون بونابرت مع اليهود، مؤكداً أنه سيعيد العمل بقانون عام 1803 (القانون المدني للجمهورية الفرنسية قبل تعديله) ليحظر على أي فرنسي تسمية ابنه باسم مُحمد. وفي كتابه الأخير "فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة"، والذي يلقى رواجاً واسعاً هذه الأيام، كتب زيمور أن فرنسا في ورطة وخطر. لكنها ليست المرة الأولى في تاريخها، معتبراً أنها "كانت دائماً تضم الفرنسيين الذين أرادوا رؤيتها تختفي، والغزاة على أبوابها لنفس الهدف. لقد كانت فرنسا بالفعل على شفا الهاوية، لكنها عرفت دائماً كيف تتعافى بمساعدة الرجال والنساء ذوي النوايا الحسنة، في حب فرنسا والذين عرفوا كيف يقاتلون من أجلها". وعلى حد تعليق صحافي فرنسي، فإن زيمور يريد أن يقول إنه أحد هؤلاء الملائكة المكلفين من العناية الإلهية بإنقاذ فرنسا من المسلمين. ويبدو أن هذا الكتاب بمثابة طلب ترشح للانتخابات الرئاسية. أكثر من ذلك، هو شرارة لإثارة الحماس بين ناخبي اليمين المتطرف، الذين يزودهم ببرنامج رئاسي مستقبلي في خمس ثيمات: الهوية، والهجرة، والاستقلال، والتعليم، والتصنيع. ويركز في خطابه على الإسلام والمسلمين، وأزمة المهاجرين، والهوية الفرنسية، قبل أن يأخذ الخطاب منحى تحريضياً واضحاً ضد كل ما هو غير فرنسي، وفق تعريفات اليمين المتطرف.
كتاب زيمور "فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة" بمثابة طلب ترشح للانتخابات الرئاسية
ومن الواضح أنه منذ بداية صعوده قبل عقدين، ركب موجة العداء للإسلام كي ينمي شهرته الإعلامية التي تدر عليه قدراً كبيراً من المال، وحان الوقت حتى يوظفها في الانتخابات الرئاسية. وهناك من يرشحه منافساً لماكرون في الدورة الثانية، فيما تعطيه بعض الاستطلاعات نسبة 45 في المائة من الأصوات. وإذا حصل ذلك فإنه يكون قد حقق اختراقاً مهماً في جبهة اليمين المتطرف التي تسيطر عليها عائلة لوبان منذ ثمانينيات القرن الماضي. ولكن ذلك لن يكون في صالح اليمين المتطرف الذي سينقسم إلى أكثر من تيار، وربما فقد البوصلة في المدى المنظور، لأن مارين لوبان وابنة شقيقتها النجمة الصاعدة ماريون (حفيدة جان ماري لوبان) فشلتا في تحقيق إنجاز يجعل اليمين المتطرف قوة متجذرة في الساحة السياسية. ولم ينجح هذا التيار إلا في تنمية العداء للإسلام ونشر "الإسلاموفوبيا". وهذا ما لا يمكنه تصريفه على الدوام في بورصة العمل السياسي، ومنافسة بضاعة زيمور الذي تجاوز كل سقف للعداء مع الإسلام، ووصل إلى حد الدعوة إلى حرب إبادة ضد المسلمين. ومن شأن ذلك أن يترك شرخاً بالغاً في وحدة المجتمع الفرنسي التعددي، ولذلك تعرّض لانتقادات من قبل أوساط يهودية، مثل الفيلسوف برنار هنري ليفي الذي دخل في مواجهة مفتوحة معه في الآونة الأخيرة. وأحدث زيمور ما يشبه السابقة، لأنه يعمل على تجييش أصوات من الجالية اليهودية للتصويت لليمين المتطرف، الذي يتبنى الأفكار النازية، وينكر "المحرقة" اليهودية، بينما كانت هذه الجالية تصوت في أغلبيتها لصالح الحزب الاشتراكي الذي لعب دوراً أساسياً في تأسيس إسرائيل، وتسليحها بالنووي.
وفي كل الأحوال، لن يتمكن زيمور من هزيمة ماكرون في حال حصلت المواجهة في الجولة الثانية. والمرجح أن يتحد الشارع والقوى السياسية كما حصل في مرات سابقة للوقوف ضد مرشح اليمين المتطرف. إلا أن خسارته الانتخابية لن تنهي الظاهرة، التي تفعل فعلها بقوة في إثارة العواصف ضد المسلمين والتحريض، حتى القتل، وستبقى هذه البضاعة رابحة إلى حين سن قانون يضع حداً للتطرف الذي يروج له زيمور. وكما يقول العديد من المعلقين على شاشات التلفزة الفرنسية، ليس هناك جديد في خطاب زيمور، بل الجديد هو أنه مُنح مساحة وشرعية كبيرة من قبل وسائل الإعلام، في حين أن شيراك رفض، في 2002، الدخول في مناظرة مع جان ماري لوبان، ورفض الكثير من الصحافيين دعوته إلى برامج النقاشات السياسية.