تتجه الأنظار اليوم الأحد إلى ألمانيا، التي ستكون على موعد مع انتخابات برلمانية (انتخابات البوندستاغ) تفتح الباب أمام حقبة سياسية جديدة في البلاد، مع مغادرة المستشارة أنجيلا ميركل السلطة بعد 16 عاماً في الحكم، وفي ظل مشهد انتخابي غامض، وسط التقارب الكبير في نتائج استطلاعات الرأي، بين الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" المتصدر بنسبة 25 في المائة من الأصوات، وخلفه حزب ميركل، "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، بنسبة 22 في المائة. ومع عدم إعطاء الاستطلاعات فائزاً واضحاً، لاسيما بعد خروج استطلاع جديد يؤكد استمرار التقارب بين الحزبين المتصدرين، تبرز أسئلة كثيرة عن أيّ أكثرية ستستلم الحكم، وسط توقعات بفترة مفاوضات طويلة لتشكيل الائتلاف الحاكم بعد انتخابات اليوم، ما يعني إمكانية أن تمارس حكومة ميركل تصريف الأعمال لمرحلة غير قصيرة.
توقعات بمفاوضات طويلة لتشكيل الائتلاف الحاكم، ما يعني أن تمارس حكومة ميركل تصريف الأعمال لمرحلة غير قصيرة
وتلعب عوامل جديدة في حسم ملايين الألمان لتصويتهم، خصوصاً مع الاهتمام المتزايد بقضايا البيئة، بما زاد من تقدم حزب الخضر إلى نحو 15 في المائة وفق نوايا التصويت. كما يحضر ملف الهجرة كعامل أساسي يعزّز حظوظ حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، الذي تمنحه الاستطلاعات نحو 11 في المائة من الأصوات. وإضافة إلى الاهتمام الداخلي، تتركز أنظار الدول الأوروبية على هذا الاستحقاق، في ظلّ الدور الحاسم لبرلين في شؤون الاتحاد الأوروبي، والعلاقة مع باقي دول العالم والولايات المتحدة.
صورة غامضة
وتشهد الانتخابات العامة الـ20 لاختيار نواب البوندستاغ (البرلمان)، منافسة بين 6211 مرشحاً، بينهم 2024 امرأة. ويحق لحوالي 60.4 مليون ألماني المشاركة في العملية الانتخابية، بما في ذلك الألمان الذين يعيشون في الخارج، بينهم 4.6 ملايين يحق لهم التصويت للمرة الأولى، وفقاً لتقديرات مكتب الإحصاء الفيدرالي. ويشارك في هذه الانتخابات 47 حزباً، وهو رقم قياسي منذ إعادة الوحدة الألمانية، لكن ما بات محسوماً أنه لن يتجاوز أكثر من 7 أحزاب نسبة الخمسة في المائة المحددة قانوناً لدخول البرلمان الاتحادي.
وتحمل هذه الانتخابات اهتماماً متزايداً مع مغادرة ميركل للسلطة، وهي التي كرّست على مدى 16 عاماً في الحكم، بحضورها وحكمتها ودماثة أخلاقها وبراغماتيتها، زخماً للحياة السياسية داخلياً وأوروبياً، كما على مستوى العالم من خلال الدبلوماسية البناءة، وبات لألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، دور فاعل في معالجة الصراعات والملفات الإقليمية والدولية العالقة.
وعلى الرغم من أن ميركل التي حملت لقب المرأة الحديدية، لا تزال تحتل الصدارة في الاستطلاعات، فإن "الاتحاد المسيحي"، الذي يضم حزبها "الديمقراطي المسيحي" والشقيق الأصغر في بافاريا "الاجتماعي المسيحي"، في وضع حرج، مع تراجع أرقامه في استطلاعات الرأي خلال الأشهر الأخيرة. وأبرز آخر استطلاع لمعهد النسباخ، أن "الاتحاد المسيحي" تمكن من تقليص الفارق مع الاشتراكي لنقطة واحدة، ونال ما نسبته 25 في المائة من الأصوات، مقابل 26 في المائة للاشتراكي، فيما حل حزب الخضر ثالثاً بنسبة 16 في المائة، والليبرالي الحر 10.5 في المائة، فيما نال حزب البديل من أجل المانيا 10 في المائة، وسط تراجع حزب اليسار إلى ما نسبته 5 في المائة، وبات في وضع حرج قد يحرمه من الدخول الى البوندستاغ اذا ما تراجع عن هذه النسبة المطلوبة عند إعلان نتائج الانتخابات مساء اليوم الأحد. مع العلم، أن معهد فورسا لأبحاث الراي، بيّن أول من أمس الجمعة، أن الفارق بين اتحاد ميركل والاشتراكي ما زال عند 3 في المائة، أي ما نسبته 25 في المائة من الأصوات للاشتراكي، مقابل 22 في المائة للاتحاد المسيحي.
ويبدو أن خيار "الديمقراطي المسيحي" ترشيح زعيمه، رئيس حكومة ولاية شمال الراين فستفاليا، أرمين لاشيت، غير المحبوب لدى الرأي العام، لمنصب مستشار خلفاً لميركل، لم يكن على مستوى طموحات المواطنين، في حين يحظى مرشح "الاشتراكي"، نائب المستشارة ووزير المالية الاتحادي، أولاف شولز، بثقة أكبر لدى الألمان، وفق استطلاعات الرأي.
والأبرز في هذه الانتخابات التشريعية، القفزة الذي حققها حزب الخضر بالأرقام، إذ يحصد حالياً بين 15 و16 في المائة من الأصوات ويحل في المركز الثالث، بعدما كان قد نال 8.9 في المائة فقط في انتخابات عام 2017. ويأتي ذلك علماً أن أرقام "الخضر" كانت قد تخطت، وقبل أشهر قليلة، نسبة 20 في المائة، الأمر الذي دفع بالحزب البيئي لخوض غمار السباق إلى المستشارية، فعمد إلى ترشيح الزعيمة المشاركة لحزبه أنالينا باربوك (40 عاما). لكن حضور الأخيرة تراجع بالفعل نتيجة ارتكابها الأخطاء والهفوات، مع ما تفتقده من خبرة في العمل الوزاري، ما أثّر على أرقام حزبها وباتت حظوظها شبه معدومة لتكون المستشارة المحتملة لألمانيا.
لم يكن خيار "الديمقراطي المسيحي" ترشيح زعيمه أرمين لاشيت على مستوى طموحات الناخبين
أما الحزب اليميني الشعبوي "البديل من أجل ألمانيا"، الذي دخل البوندستاغ للمرة الأولى في انتخابات 2017، فمن المتوقع أن يعود مجدداً إلى البرلمان، وتعطيه الاستطلاعات إلى حدود 11 في المائة من الأصوات، أي بتراجع طفيف عن الانتخابات قبل أربعة أعوام (12.6 في المائة). في المقابل، يسجل الحزب الليبرالي الحر، وفق معهد إنسا لأبحاث الرأي، نسبة تصل إلى 12 في المائة من الأصوات. ويعد من أكثر الأحزاب التي سيكون لها فرصة وموقف قد يحدد طبيعة التحالف الحكومي المستقبلي. أما حزب اليسار فينال حتى 6.5 في المائة من الأصوات، ومن المستبعد مبدئياً مشاركته في أي تحالف مستقبلي، نظراً لمعارضته قضايا تهم أوروبا، وفي مقدمتها حلف شمال الأطلسي.
تضخم أعداد النواب
وفق صحيفة "بيلد" واسعة الانتشار، من المتوقع أن يقارب عدد أعضاء البوندستاغ المقبل حوالي 926 نائباً، فيما عددهم في هذه الدورة التشريعية 709 نواب، وبهذا سيضطر عدد منهم ولضيق المساحة، للعمل مرحلياً وحتى العام المقبل، من مكاتب خارجية خشبية جاهزة وريثما يتم الانتهاء من أعمال التوسيع في مباني البرلمان التي بدأت منذ عام 2019. مع العلم، أن البوندستاغ سيعقد أولى جلساته خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
وبشكل عام، هناك نوعان من المرشحين في كل دائرة من الدوائر الانتخابية البالغ عددها 299 دائرة: المرشحون المباشرون وقائمة المرشحين، لذلك يمكن لكل ناخب وضع التصويت الأول لمرشح مباشر في دائرته الانتخابية، ومع التصويت الثاني لقائمة تضم عدة مرشحين، ويتم احتساب إجمالي عدد المقاعد في البرلمان على أساس نسبة التصويت الثانية للأحزاب. وتقسم الأصوات بين التصويتين الأول كمّا والثاني التفضيلي المتراكم، ويحصل ذلك عندما يفوز حزب في ولاية بتفويضات مباشرة أكثر مما يحق له بناء على الحصة الثانية من التصويت، وهذا ما يرفع عدد النواب في البوندستاغ، مع الإشارة إلى أن معهد إنسا لاستطلاعات الرأي يتوقع نجاح 835 نائباً.
وفي ترجمة لهذه الوقائع والتي قد تعدل نتائج صناديق الاقتراع نسبتها بشكل طفيف، يبدو واضحاً أن حكومة ميركل ستمارس تصريف الأعمال لمرحلة غير قصيرة، مع انطلاق المفاوضات لتشكيل ائتلاف حكومي جديد، وقد يكون بقيادة "الاشتراكي" وبتحالف يضّمه إلى حزبين آخرين.
وعلى خلفية جائحة كورونا، فإن رغبة الناخبين الألمان للإدلاء بأصواتهم عن طريق التصويت البريدي تكثفت هذا العام أكثر من أي وقت مضى. وقالت لجنة الانتخابات إن نسبة من اقترعوا بالبريد قد تتجاوز 40 في المائة. ويأتي كل ذلك، وسط المناشدات بالالتزام بالتباعد في غرف الاقتراع وداخل المباني في يوم الانتخابات، وارتداء الأقنعة الطبية إلزامي.
يمكن للناخبين من أصول مهاجرة أن يؤثروا بشكل كبير على توزيع المقاعد في البوندستاغ
مخاوف من تدخلات
تزايدت التحذيرات الألمانية أخيراً لروسيا من الوقوف وراء الهجمات السيبرانية التي زادت وتيرتها قبيل الانتخابات، والتي يستشف منها وجود نوايا مبيتة لعرقلة عملية التصويت أو التأثير عليها، وربطت برلين عمل هذه الجماعات بالاستخبارات العسكرية الروسية. وهناك قلق لدى المسؤولين من أن يتم تسريب البيانات ونشر المعلومات من خلال عمليات قرصنة إلكترونية، وربما يتم استغلال ذلك لإثارة التفرقة وتشويه سمعة السياسيين الذين يشغلون مناصب حسّاسة والتشكيك بنزاهة الانتخابات أو توجيه عمليات التصويت. وبحسب "بيلد"، فإن المؤشرات الأولية تفيد بأنه قد يتم استخدام البيانات بعد الانتخابات، وربما حتى خلال مفاوضات التحالف الحكومي المقبل، من خلال الإشارة أو التصويب على الخصم السياسي بطريقة مهينة.
مغازلة المهاجرين
يحق لملايين الأشخاص من أصول مهاجرة من حاملي الجنسية الألمانية، والممثلين تمثيلاً ناقصاً في البرلمانات وقضاياهم مهمشة، بالتصويت في الانتخابات البرلمانية العامة، لكن لا يعرف مدى التعاطف السياسي لدى القليل منهم، مع حزب بعينه. وإزاء ذلك، تحاول بعض الأحزاب حالياً كسب ودّهم ولو بطريقة متفاوتة وعلى درجات، وتحفيزهم على التصويت، إذ يمكن أن يكون لهم تأثير حاسم على الانتخابات، خصوصاً أن الفارق بين الاشتراكي المتصدر والاتحاد المسيحي لا يتخطى نسبة 3 في المائة. ومن المعلوم، أن هناك 7.4 ملايين ناخب من أصول مهاجرة يحق لهم التصويت في هذه الدورة الانتخابية، أي ما نسبته 12 في المائة من جميع الناخبين، وهم يمثلون إمكانيات كبيرة للأحزاب السياسية.
وحيال ما تقدم، أبرز موقع "ماغازين" أخيراً، أنه يمكن للناخبين من أصول مهاجرة أن يؤثروا بشكل كبير على توزيع المقاعد في البوندستاغ الألماني، مشيراً إلى أن دراسة حديثة أجرتها "مواطنون من أجل أوروبا"، وهي منظمة مجتمع مدني مقرها برلين، تفيد بأن الألمان من أصول أجنبية يحق لهم التصويت في 167 دائرة انتخابية من أصل 299، أي حوالي 56 في المائة من الدوائر. علاوة على ذلك، توقعت المنظمة تأثيراً متزايداً إضافياً بسبب التطور الديمغرافي ومعدلات التجنيس. وحالياً، يتحدر حوالي ربع السكان الألمان من أصول مهاجرة وترتفع نسبتهم بين الأطفال والمراهقين، وفي مدن مثل فرانكفورت وميونخ ونورمبرغ تبلغ نسبة الشباب منهم 60 في المائة. وفي برلين وحدها، هناك حوالي 690 ألف شخص تزيد أعمارهم عن 18 عاماً، غير حاصلين على الجنسية الألمانية.
وعن عدم اكتراث الأجانب للانتخابات بشكل عام، أبرزت الدراسة أن نقص التمثيل ينعكس على عدم إعطاء الأولوية لمواضيع مجتمع الهجرة في الحملات الانتخابية، على الرغم من أن العديد من تحالفات ومنظمات المجتمع المدني قد طورت مفاهيمها في هذا الإطار وقدّمت توصيات، إلا أنه لم يتم التصويب عليها ومناقشتها خلال الحملة الانتخابية. واعتبر معدو الدراسة، أنه ربما يكون هذا أحد الأسباب التي تجعل المهاجرين يتعاطفون بشكل أقل مع الأحزاب. كما أبرزت نقطة أخرى عن استنكاف الناخبين الأجانب، وهي عدم تمثيل السكّان من أصول مهاجرة في البوندستاغ، فهناك فقط 8.2 في المائة من أعضاء البرلمان الاتحادي من أصول مهاجرة، بل إنه في البلديات تصل النسبة إلى ما بين 2 و5 في المائة فقط من أصول أجنبية. وحالياً، فإنه من أصل 709 نواب في البوندستاغ، هناك 58 نائباً من أصول أجنبية، ناهيك عن عدم وفاء الأحزاب بالوعود للمهاجرين، ما أثر على حماسة هذا الناخب بالمشاركة في الانتخابات. وخلصت الدراسة إلى أهمية جمع البيانات حول توزيع الناخبين من أصول مهاجرة، لأنهم قد يكونون قيمة مضافة لاي حزب في أي انتخابات.
إلى ذلك، ووفق دراسة صادرة عن مؤسسة كونراد إيدنهاور، فإن "الأنماط الثابتة" في عملية الانتخاب هدأت نسبيا، مع الحراك السياسي الذي تعيشه ألمانيا وتحسين العديد من الأحزاب الصغرى لحضورها، مشيرة إلى أن الناخبين من أكبر ثلاث مجموعات مهاجرة في ألمانيا، أي من أصول تركية (2.8 مليون ناخب) وبولندية (2.2 مليون) وروسية (1.4 مليون)، بدّلوا قناعاتهم، وبات العديد من الناخبين الروس يصوتون للحزب اليميني الشعبوي "البديل من أجل ألمانيا"، فيما أولئك الذين يتحدرون من أصول تركية باتوا بأكثريتهم يوالون حزب ميركل، بعدما كانوا لسنوات كتلة ناخبة للحزب الاشتراكي الديمقراطي. أما حزب الخضر، فاستفاد من الناخبين البولنديين، لكن من المتوقع أن يتم التقييم الفعلي للتحول الجديد بعد الانتخابات. في السياق، قالت الباحثة في العلوم الاجتماعية سابرينا ماير، إنه من الثابت والأكيد أن العلاقات الحزبية آخذة في التدهور، ويتم اتخاذ القرارات بناء على المواضيع والقضايا وما يهم الناخب، بدلاً من التصويت للحزب كما كان سابقاً.
تجدر الإشارة إلى أن هناك 9 مرشحين بارزين من أصول عربية للانتخابات العامة، بينهم خمس نساء هن: المرشحة عن حزب الخضر الباحثة في الدراسات الإسلامية والمتحدرة من أصول سورية، لمياء القدور، المرشحة عن حزب اليسار من أب مصري، أميرة محمد علي، وهي نائبة رئيس كتلة حزبها في البوندستاغ، وعن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحقوقية سناء عبدي (35 عاماً)، هي من أم مغربية وأب ألماني، إلى المرشحة ياسمين عطية ذات الأصول المصرية والمنتمية إلى حزب الخضر، فضلا عن نهى الشريف (39 عاما) والمتحدرة من الصومال ودرست العلوم السياسية. يضاف إليهن 4 مرشحين هم: محمد رفيق طويل (68 عاماً) عن الحزب الماركسي اللينيني، وأيمن ذبيان من أصول لبنانية أيضاً، وهو مرشح مستقل، والمرشح عن حزب اليسار من أصول يمنية علي الدليمي (39 عاما)، إلى أصغر المرشحين إلى البوندستاغ عن حزب الخضر، وهو أنس القرعان (18 عاما) من أصول أردنية.