مرّت الاستراتيجية الصهيونية في فلسطين بعدة تحولات تاريخية تتعلق أساساً باختلاف الظروف السياسية والجغرافية والجيو سياسية، إلا أنها استندت دائماً على قاعدة استخدام القوة الجبرية والقهرية القائلة "وإن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد منها"، بما في ذلك ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لإدامة السيطرة الصهيونية على الشعب الفلسطيني وسلبه حقوقه الأساسية في العودة والاستقلال وتقرير المصير.
إذن اعتمدت الاستراتيجية الصهيونية أساساً على القوة بكافة أشكالها وبشكل دائم، وأنكرت حتى وجود الشعب الفلسطيني نفسه وفق قاعدة أن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، لذلك تم اعتماد الترانسفير ولو بشكل غير رسمي ومُعلن لتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين عن وطنهم ومدنهم وبلداتهم ومقراتهم، وعند تأسيس الدولة العبرية "النكبة الأولى" تم تدمير مئات القرى والبلدات وتهجير قرابة مليون فلسطيني، وفقط حالت ظروف سياسية وعسكرية وميدانية دون تهجير عدد مماثل بقي في الأراضي المحتلة عام 1948، كما عدم تهجير فلسطينيي الضفة وغزة اللتين كانتا خاضعتين للحكمين الأردني والمصري.
بعد تأسيس الدولة العبرية مباشرة تم إعلان الحكم العسكري ضد المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48، رغم كونهم مواطنين إسرائيليين حسب القانون، إلا أنهم تعرّضوا لكل أنواع البطش والقهر والتمييز لكسرهم وإخضاعهم بعد العجز عن تهجيرهم إلى أن وقعت انتفاضة يوم الأرض 1976 التي كانت نقطة تحوّل مفصلية، وأطلقت مرحلة جديدة لجهة اعتماد فلسطينيي 48 على أنفسهم، ومقاومة الاستراتيجية الصهيونية بكل الوسائل المتاحة بعد انهيار آمالهم في تحرير الدول العربية لفلسطين وإلقاء المستعمرين الصهاينة في البحر، كما كان يقال آنذاك.
بالتزامن مع ذلك تقريباً وقع احتلال الضفة الغربية وغزة بعد النكبة الثانية يونيو/ حزيران 1967 وخلالها أيضاً تم تنفيذ الترانفسير بالقوة العسكرية الجبرية المسلحة، وجرى تهجير مئات آلاف الفلسطينيين قسراً عن وطنهم إلى الأردن أساساً ومصر بدرجة أقل.
بعد النكبة الثانية ومع صعوبة استحالة تنفيذ الترانسفير الكامل تم اتباع عقيدة مختلفة لإضعاف الفلسطينيين، وتحويلهم إلى أيد عاملة رخيصة للمشروع الصهيوني - مشروع موشيه دايان - مع إنكار حقوقهم الوطنية وحتى وجودهم بحد ذاته ضمن ذهنية عنصرية انفصامية ومتعالية طبعت عادة الاستراتيجية الصهيونية، مع الانتباه إلى أننا لم نكن أمام خنوع من قبل فلسطينيي الضفة وغزة، وإنما صبر واعتماد على الثورة المعاصرة التي أطلقت بقيادة منظمة التحرير في الخارج لتحرير فلسطين كل فلسطين من الماء إلى الماء وفق الأدبيات المعلنة أيضاً آنذاك.
إثر خروج منظمة التحرير من بيروت 1982 وتشتت قواتها بين الدول العربية، انفجر الفلسطينيون في الداخل - في وجه الاحتلال وأطلقوا الانتفاضة الأولى – 1987 - التي زعزعت أسس الاستراتيجية الصهيونية وأجبرت قادتها على التخلي عن قاعدة فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، والاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني والبحث في المقابل عن تسويات تقلل الخسائر وتخفف أو تزيل عن كاهلهم عبء الاحتلال دون إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، تحديداً حقهم الأصيل في تقرير المصير.
في هذه الفترة طرحت أفكار وخيارات عدة، منها الوطن الفلسطيني البديل في الأردن وحتى الخيار الأردني، أي تحمّل عمان المسؤولية عن الضفة وغزة - في إنكار ضمني للشعب الفلسطيني وحقوقه - والحكم الذاتي للسكان لا الأرض، وصولاً إلى كيان فلسطيني ممزق وفق قاعدة دولة ناقص وحكم ذاتي زائد، حسب التعبير الإسرائيلي الدارج ودائماً على قاعدة الاحتفاظ بأكبر قدر من الأراضي في فلسطين وأقل عدد ممكن من الفلسطينيين عليها.
مع اندلاع الانتفاضة الثانية – 2000 - في الضفة وغزة وهبّة تشرين الأول/ أكتوبر في أراضي 48 المتضامنة معها، والتحولات والمتغيرات العالمية التي كرّست القناعة باستحالة المضي قدماً في الترانسفير القسري أو إخضاع الشعب الفلسطيني بشكل تام، لجأت الاستراتيجية الصهيونية إلى اتباع التمييز العنصري في الأراضي المحتلة عام 48 والفصل العنصري في الأراضي المحتلة عام 67، خاصة مع تضخم المشروع الاستيطاني هناك وإعادة الانتشار في غزة ومحيطها لتحقيق نفس الأهداف سالفة الذكر.
مقاومة الشعب الفلسطيني استمرت في مواجهة الاستراتيجية الصهيونية الجديدة، وتم اتباع أشكال وأساليب متعددة سياسية وإعلامية وقانونية واقتصادية وميدانية طبعاً تبدت جميعها في التحوّل المهم وحتى الاستراتيجي الذي رأيناه خلال الشهور الماضية.
تمثل هذا التحوّل بهبّة القدس ومعركة سيفها التي أكدت وحدة الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده المختلفة، وإنهاء التقسيمات والتصنيفات التي حاول الاحتلال فرضها عليه والنجاح، وبالتالي في نقل المعركة إلى قلب فلسطين المحتلة لا أطرافها فقط "غزة وعمق الضفة الغربية"، كما قالت دراسة لافتة جداً لمعهد أبحاث الأمن القومي - أوائل حزيران/ يونيو الماضي – وبالتالي فتح معركة استنزاف متعددة الجبهات والأساليب أمام الاحتلال واستراتيجيته العنصرية.
هذه الهبة ما زالت مستمرة وعلى موجات في مواجهة التمييز والفصل العنصري، بما في ذلك المحاولات اليائسة للتهجير القسري في القدس عبر أدوات غير رسمية مدعومة من المؤسسة الصهيونية التي توقفت، ولو مؤقتاً، للعجز عن دفع الأثمان العالية التي فرضها الفلسطينيون، والتي لم تتحملها الدولة العبرية سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وميدانياً.
في الأخير وباختصار لا مجال أبداً لانتصار الاستراتيجية الصهيونية ومشروعها الاستعماري في فلسطين، أيّا كانت التحديثات أو المتغيرات التي مرت فيها أمام العناد والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، وإصراره على مقاومة تلك الاستراتيجية بتحديثاتها وتحوّلاتها بكل الوسائل المتاحة في طريقه نحو انتصار حتمي بإذن الله، ولو بعد حين.