تنظر محكمة العدل الدولية بدعوى جنوب أفريقيا المرفوعة ضدّ إسرائيل، التي تتهمها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في فلسطين، نظرًا لارتكاب الاحتلال الإسرائيلي كلّ الأفعال المذكورة بالفقرات الخمس للمادة الثانية من اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
قتلٌ جماعيٌ؛ إذ وصل عدد القتلى الفلسطينيين في غزّة إلى 1.5% من إجمالي عدد السكان (إذا ما أسقطنا هذه النسبة على دولةٍ مثل الصين لتجاوز عدد القتلى الـ 22 مليون إنسانٍ)، نصفهم من الأطفال، إذ يقتل طفلٌ واحدٌ على الأقلّ كلّ عشر دقائق، لذلك وصفت منظمة العفو الدولية الوضع في غزّة بأنّها تحولت من أكبر سجنٍ في العالم، إلى أكبر مقبرةٍ جماعيةٍ في العالم، ما دفع الفلسطينيين إلى دفن موتاهم جماعيًا بأيّ حديقةٍ أو ساحةٍ وتحت أيّ ترابٍ يجدونه.
إلحاق أذىً فادحٍ؛ تجاوز عدد الجرحى 62 ألف جريحٍ، أيّ 3% من مجمل سكان غزّة، منهم أكثر من عشرة آلاف بحالةٍ حرجةٍ، أو تعرضوا لإعاقاتٍ دائمةٍ، فكلّ يوم يخسر عشرة أطفالٍ أقدامهم؛ أكثر من ألف طفلٍ في غزّة لم يعد بمقدورهم الركض مرّةً ثانيةً، في حال بقائهم على قيد الحياة. كما منع الاحتلال كلّ سبل الحياة عن غزّة، وهجر أكثر من 90% من سكانها، إضافةً إلى قصفٍ مستمرٍ يخلق أثرًا نفسيًا مدمرًا لا يمكن الشفاء منه بسهولةٍ.
الإبادة الجماعية الممارسة من قبل الاحتلال ضدّ الفلسطينيين مستمرةٌ منذ النكبة الفلسطينية إلى يومنا هذا
ظروفٌ معيشيةٌ مدمرةٌ؛ نسف الاحتلال بنية القطاع التحتية، إذ دمّر المؤسسات الخدمية، والجامعات، واستهداف المدارس، التي تغيير دورها الوظيفي من التعليم إلى إيواء النازحين، ودمّر دور العبادة؛ مساجد وكنائس، كما لم تسلم المستشفيات والمراكز الصحية من الاستهداف. بمختصر القول؛ حوّل الاحتلال قطاع غزّة إلى مكانٍ غير صالحٍ للعيش. كلّ هذا القتل والدمار يؤديان حكمًا إلى عدم قدرة الفلسطينيين في غزّة على إنجاب الأطفال، ما يعني سعي الاحتلال إلى الحؤول دون إنجاب الفلسطينيين للأطفال.
نقل الأطفال عنوةً إلى جماعةٍ أخرى؛ ظهرت في الآونة الأخيرة شهاداتٌ لسكان قطاع غزة تتحدث عن خطف الاحتلال أطفالًا فلسطينيين، واقتيادهم الى أماكن مجهولةً، تحديداً الرضع منهم، أكّدتها شهادات جنود الاحتلال الفخورين بسرقة أطفالٍ فلسطينيين رضع.
لم يترك الاحتلال فعلًا واحدًا من أفعال الإبادة الجماعية المنصوص عليها إلّا ومارسه، لكن جريمة الإبادة الجماعية شأنها شأن أيّ جريمةٍ أخرى تتطلّب اكتمال ثلاثة أركانٍ (النية والفعل والنتيجة)، كما هو حال الفعل والنتيجة الواضحين وضوح الشمس، لم يخفي الاحتلال نيته الجرمية، إذ أعلنها بكلّ وضوحٍ، بسبب عنجهيته، والدعم الغربي، إضافةً إلى الصمت العربي والدولي.
عبر الاحتلال عن نيته الجرمية من أعلى المستويات القيادية (رئيس الوزراء، ورئيس الدولة، ووزير الدفاع، ومجمل الوزراء، إضافةً إلى العديد من نواب الكنيست)، التي تضمنت وصف الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، والدعوة إلى تهجيرهم من القطاع، وإلقاء قنبلةٍ نوويةٍ على غزّة، وغيرها من تصريحاتٍ كثيرةٍ لم تقتصر على السياسيين وأصحاب القرار فقط، بل امتدت إلى وسائل الإعلام، الرسمية منها والخاصة. كما دعا رياضيون وفنانون وأطباء إلى الإبادة، إذ طالب مئة طبيبٍ "إسرائيليٍ" الحكومة الإسرائيلية بقصف المستشفيات الفلسطينية. كما دفعت حالة ضباط وجنود الاحتلال السكوباتية إلى توثيق جرائمهم بفيديوهاتٍ، لأنهم واثقون من حصانتهم من أيّة مساءلةٍ، وهو ما وضَّحَ نيتهم الجرمية عبر توثيق تفجيرهم منازل وأحياء الفلسطينيين، وإهدائها لعائلاتهم وأصدقائهم، ووثقت مقاطعٌ أخرى تنكيلهم بأسرى مدنيين. كما وثق أحد المقاطع المصورة جنديًا "إسرائيليًا" منزعجًا بعد قتله طفلةً فلسطينيةً عمرها 12 عاماً، لأنه لم يستطع حتّى الآن من قتل رضيعٍ فلسطينيٍ!
يستغرب بعضهم من تضمين ادعاء جنوب أفريقيا في 84 صفحةٍ فقط، إذ إن الجرائم المرتكبة تحتاج إلى مجلداتٍ كثيرةٍ، ورغم ذلك تسعى إسرائيل وداعموها إلى ممارسة ضغوطاتٍ كبيرةٍ على المحكمة للحيلولة دون إصدار حكمٍ ضدّ إسرائيل، لأن اصداره سيفتح الباب أمام مساءلة الدول الداعمة لإسرائيل، بحسب المادتين الثالثة والرابعة من اتّفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. أي ستصبح الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا عرضةً للمساءلة، لما قدموه من دعمٍ عسكريٍ وسياسيٍ وإعلاميٍ، فهم شركاء في هذه الجريمة، ومحرضون عليها. لا بل قررت الحكومة الألمانية التدخل كطرفٍ ثالثٍ في الدعوى لصالح الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي استدعى ردًا من ناميبيا إحدى ضحايا الإبادة الجماعية الألمانية، متهمةً ألمانيا بعدم استخلاص الدروس من تاريخها الاستعماري.
تبقى دعوى جنوب أفريقيا خطوةً في الاتجاه الصحيح، حتّى إن خضعت المحكمة للضغوط الإمبريالية، فهي صرخة رفضٍ ويقظةٍ إنسانيةٍ، فما يحدث في فلسطين فتح ذاكرة الجرح الأفريقي؛ الذي لم يندمل؛ من جديدٍ، ودفع جنوب أفريقيا؛ دون باقي دول العالم، نحو هذه الخطوة الجريئة، متحملةً كلّ التبعات، ومعاداة القوى الإمبريالية، لا سيّما أن شعب هذه الدولة قد عانى طويلًا من ممارسات الفصل العنصري، والتمييز والإبادة، من نفس الاستعمار وإن اختلف اسمه.
إن الإبادة الجماعية الممارسة من قبل الاحتلال ضدّ الفلسطينيين مستمرةٌ منذ النكبة الفلسطينية إلى يومنا هذا، لا بل إنّ النكبة الفلسطينية، والتطهير العرقي الذي تم بحقّ الفلسطينيين كان نتيجة ممارسة الاحتلال للإبادة الجماعية، وما حصل ويحصل في الضفّة الغربية أفعالٌ تتطابق تمامًا مع التوصيف القانوني للإبادة الجماعية أيضًا، وهذا متضمنٌ في ادعاء جنوب أفريقيا. رغم الإبادة الجماعية للفلسطينيين؛ أعادت غزّة الروح للقضية الفلسطينية، وأحيتها من جديدٍ، والتي بدورها أعادت إحياء اليسار العالمي، والضمير الإنساني.