تتفاقم الأزمة السياسية في باكستان، ويشتد الصراع يوماً بعد آخر، بين الحكومة وحركة الإنصاف بزعامة رئيس الوزراء السابق عمران خان من جهة، وأيضاً بين الحركة والمؤسسة العسكرية. والسبب الظاهر هو رفض الحكومة طلب خان إجراء انتخابات عامة مبكرة، والإصرار على أن يجري هذا الاستحقاق في موعده المحدد في أغسطس/ آب المقبل. لكن خلف الكواليس يدرك المراقبون أن السبب الرئيسي هو فشل المفاوضات الجارية بصمت بين حزب خان والمؤسسة العسكرية، وذلك لأن كل طرف منهما متمسك بموقفه.
وتريد المؤسسة العسكرية الباكستانية أن تحتفظ باستقلاليتها في جميع قراراتها، بدءاً بتحديد ميزانيتها مروراً برسم الخطوط العريضة للسياسة الخارجية، وتحديداً ما يدور في المنطقة، وأن يكون لها كلمة في ما يدور أيضاً في الداخل الباكستاني. من جهته، يرى خان أن لا دخل للمؤسسة العسكرية في السياسة، سواء كانت الداخلية أو الخارجية، وعلى المؤسسة العسكرية أن تقدّم حساباً واضحاً للحكومة حول ميزانيتها.
تجرى مفاوضات بصمت بين حزب خان والمؤسسة العسكرية، لكن كل طرف متمسك بموقفه
صراع خان والمؤسسة العسكرية
في حين كان الزعم السائد في باكستان، وما تردده الأحزاب السياسية، أن خان وصل إلى الحكم وفاز في انتخابات عام 2018 بمساندة المؤسسة العسكرية، وفيما كان معظم أعضاء التحالف الحاكم حالياً من الأحزاب السياسية والدينية، يتهمون المؤسسة العسكرية بالتزوير لصالح خان، بدأ الأخير ينظر إلى نفسه قائداً شعبياً وكان يسعى لإجراء إصلاحات وتغييرات في كل ما يخص المؤسسة العسكرية، خصوصاً في ما يتعلق بالميزانية وتعيين قائد الجيش وإبعاد المؤسسة عن الشؤون السياسية، وهو ما لم يرض به الجيش.
حاولت المؤسسة العسكرية أن تثني خان عن بعض مطالبه، لكنه رفض، ما دفعها إلى ترميم علاقاتها مع أحزاب سياسية أخرى، على رأسها حزب الشعب الباكستاني بزعامة أصف زرداري، وحزب الرابطة بزعامة نواز شريف.
وجاء ذلك على الرغم من التاريخ الطويل من الصراع بين هذين الحزبين والعسكر، لا سيما حزب "الرابطة الإسلامية" - جناح نواز شريف الذي كان ينتقد الجيش دائماً، وجاء ذلك خصوصاً من جانب رئيس الوزراء السابق نواز شريف. أما رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف، شقيق نواز، فمعروف بعلاقاته الجيدة إلى حدّ ما مع المؤسسة العسكرية، خصوصاً الاستخبارات.
لم يهتم خان بما تريده المؤسسة العسكرية، وكان يقول في العلن إن علاقات حكومته معها جيّدة، لكن المؤسسة لم تكن راضية. وهكذا، جرى تقديم قرار سحب الثقة عن حكومة خان في البرلمان الباكستاني، من قبل التحالف من أجل الديمقراطية، الذي يقوده الزعيم الديني المولوي فضل الرحمن، وهو أحد المقربين من الجيش والاستخبارات.
في إبريل/ نيسان الماضي نجحت محاولة سحب الثقة من حكومة خان في البرلمان، وظلّ الأخير يردّد بعدها أن كل ما حدث تقف خلفه الولايات المتحدة، التي تتدخل برأيه من خلال الجيش والاستخبارات، لكونه سعى لأن تكون لباكستان سياسة خارجية مستقلة.
بعد سقوط حكومة خان، خرجت الاتهامات من قبل أنصار وقادة حركة الإنصاف، في صورة إيحاءات وإشارات، باتجاه المؤسسة العسكرية، لكنها أصبحت أكثر علانية ووضوحاً، بعد اعتقال شهباز غل، مساعد خان، من قبل الشرطة والاستخبارات، وتعرضه للتعذيب في أغسطس/ آب الماضي، قبل الإفراج عنه بكفالة في سبتمبر/ أيلول بكفالة.
سجّلت حكومة شهباز شريف دعاوى قضائية عدة ضد خان وقياديين في حزبه
كذلك عارضت المؤسسة العسكرية خان وسياساته. وقال رئيس الاستخبارات الباكستانية الجنرال نديم أنجم، خلال مؤتمر صحافي نادر مشترك مع المتحدث الرسمي باسم الجيش، الجنرال بابر إفتخار، في 27 أكتوبر الماضي، إن عمران خان التقى سرّاً القائد العام للجيش قمر جاويد باجوا، لكي يطلب منه المساعدة في إعادته إلى السلطة، متهماً خان بمواصلة الاستفزازات المستمرة ضد قائد الجيش، منتقداً محاولات زعيم "حركة الإنصاف" إقحام المؤسسة العسكرية في السياسة.
كل تلك التطورات، تشير إلى أن الصراع الحقيقي في باكستان حالياً هو بين خان والمؤسسة العسكرية، فيما تحظى الحكومة بدعم واسع من العسكر ضد خان. ومع محاولة اغتياله في الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي (خلال مشاركته في المسيرة إلى العاصمة)، عاد خان إلى نغمة اتهام أحد أبرز جنرالات الاستخبارات، الجنرال نصير فيصل، بالضلوع في المحاولة، وهو اتهام رفضه الجيش بشدة، طالباً من حكومة شهباز شريف ملاحقة خان قانونياً.
الدعاوى القضائية سلاح آخر ضد خان
وفي خضم الاتهامات التي يوجهها خان إلى المؤسسة العسكرية، كانت الحكومة تتحرك ضدّ خان، تارة عبر الإطاحة بالحكومتين المحليتين المواليتين للأخير في إقليم خيبربختونخوا وإقليم البنجاب، واللتين يترأسهما حزب خان، وتارة من خلال تسجيل دعاوى قضائية ضد خان وقياديين في حزبه، أهمها: ازدراء القضاء والحصول على تمويل خارجي عبر حسابات سرّية وغيرها.
لكن حكومة شريف فشلت في اعتقال خان لسببين: أولاً لأن القضاء لم يصدر حكماً بذلك، وثانياً لأن خان يتمتع بشعبية كبيرة، ما يجعل الحكومة تخشى الحكومة إثارة أي بلبلة في البلاد إذا ما تمّ اعتقاله.
في الأثناء، كانت محاولات التطبيع بين خان والمؤسسة العسكرية متواصلة، وهو ما كشف عنه الضابط السابق في الجيش العميد خرم حميد روكري، الذي يتمتع بعلاقة متينة مع حزب خان. وقال حميد روكري في حديث لقناة "جيو" المحلية في العاشر من الشهر الحالي إنه أجرى لقاءين مع الجنرال فيصل نصير بأمر من عمران خان، موضحاً أن الجنرال اعترف بأن لخان شعبية كبيرة لا يستهان بها، من دون أن يقدّم تفاصيل حول اللقاءين.
مطالب رئيسية لزعيم حركة الإنصاف
بعيداً عما يدور في الكواليس بين حزب خان والمؤسسة العسكرية، ثمّة مطالب رئيسية لخان من الحكومة، وهي: إعلان تاريخ انتخابات مبكرة كحلّ وحيد لإخراج البلاد من مأزقها، وسط زعمه بأن حكومته سقطت نتيجة تدخّل خارجي، وألا يتم تعيين قائد جديد للجيش حتى انتخاب حكومة جديدة (تنتهي فترة قيادة قائد الجيش الحالي الجنرال قمر جاويد باجوه نهاية نوفمبر الحالي). لكن الحكومة تقول إنها ستجري مشاورات في هذا الشأن، وإنه سيتم تعيين قائد جديد للجيش وفق الدستور الباكستاني.
يراهن خان على شعبيته الواسعة، خصوصاً لدى جيل الشباب
أما الانتخابات المبكرة، فرفضتها حكومة شهباز شريف سابقاً وهي لا تزال تصّر على أن يجري هذا الاستحقاق في موعده المحدد، في 13 أغسطس 2023. ويرى مراقبون أنه مع بقاء نحو 9 أشهر للحكومة، فإن إعلان موعد لانتخابات مبكرة سيكون بلا أي معنى. إلا أن خان يسعى من خلال الاحتجاج و"المسيرة الطويلة" المتوجهة إلى العاصمة إسلام أباد، الضغط على المؤسسة العسكرية وتحريك الشارع لإثبات امتلاكه شعبية كبيرة لا يمكن التغاضي عنها.
وفيما تراهن الحكومة على دعم كل الأحزاب السياسية والدينية لها، ووقوفها في وجه حزب خان، بالإضافة إلى دعم الجيش، يراهن خان على شعبيته الواسعة، خصوصاً لدى جيل الشباب، وهو ما أثبتته الانتخابات الفرعية التي جرت في 17 و31 أكتوبر الماضي، وفاز فيها حزب خان بسبعة مقاعد من أصل ثمانية مقاعد في البرلمان المركزي، على الرغم من أن كل الأحزاب المشاركة في الحكومة وقفت ضده. كما تشير إلى شعبيته الحشود الكبيرة، لا سيما من جيل الشباب، المشاركة في الاجتماعات والمسيرات التي تدعو إليها حركة الإنصاف.
ويرى مراقبون أن الأزمة السياسية في باكستان لن تنتهي إلى حين حصول مصالحة بين المؤسسة العسكرية وحزب خان، قد ترغم الجيش على قبول ما يرفضه حالياً. وإذا ما تصالح الطرفان، فقد لا يكون للأحزاب السياسية الأخرى (المشاركة في الحكومة) دور كبير في قلب الوضع، خصوصاً أن هذه الأحزاب خسرت الكثير من شعبيتها بسبب الغلاء والوضع المعيشي المتدهور، وانتشار البطالة وتراكم الديون.