إسبانيا تختبر "الإرهاب الرخيص"... والعالم يستخلص الدروس

19 اغسطس 2017
صدمة في برشلونة بعد الهجومين (خافيير سوريانو/فرانس برس)
+ الخط -
لا الإجراءات الأمنية المشددة ولا ملاحقة الخلايا الإرهابية المحتملة على مدى سنوات، حميا إسبانيا من الإرهاب، الذي ضرب مدينة برشلونة، إحدى أهم المناطق السياحية الأوروبية، في رسالة بأن لا أحد بعيد عن الاستهداف، مع تحوّل المتطرفين إلى استخدام أدوات أكثر بساطة ويمكن الوصول إليها بسهولة، مثل المركبات أو السكاكين. وقد أطلق هذا الاعتداء إنذاراً جديداً بتأكيد نجاح الآلة الدعائية الإلكترونية لتنظيم "داعش" في نشر تعليماته حول كيفية ارتكاب مذابح باستخدام السيارات والطعن والتفجيرات.
وظلت إسبانيا في السنوات الأخيرة بعيدة عن الاعتداءات الدموية، إذ يعود تاريخ آخر جريمة إرهابية هزت أراضيها إلى العام 2004، حين أدت هجمات بالقنابل على أربعة قطارات في العاصمة مدريد إلى مقتل 191 شخصاً وإصابة نحو 1800 آخرين. ومنذ ذلك الحين، ركزت إسبانيا جهودها على إنشاء واحدة من أكثر العمليات الأمنية المركّزة ضد الجهاديين في القارة الأوروبية، إذ يقوم الآلاف من عناصر الأمن والادعاء العام والقضاة بتعقب التهديدات المحتملة. وكان للسلطات الإسبانية تجربة أمنية طويلة خلال العقود الأخيرة، في حربها ضد جماعة "إيتا" الانفصالية، الأمر الذي أكسبها خبرة ميدانية للتعامل مع الاعتداءات، ما أبعد عنها هذه التجربة لفترة طويلة. يضاف إلى ذلك نجاح السلطات في البلاد بشكل كبير في دمج الأجانب خصوصاً المسلمين في منظومة الحياة.

يوم أسود
أحداث يوم الخميس كانت صادمة لإسبانيا ولآلاف السياح فيها، مع تسجيل مقتل 14 شخصاً وإصابة أكثر من 100 آخرين من 34 جنسية مختلفة، في ظل توقع ارتفاع عدد القتلى لوجود الكثير من الحالات الحرجة. بدأت أحداث هذا النهار بهجوم بحافلة عند الساعة الخامسة عصراً بالتوقيت المحلي وسط مدينة برشلونة، فقامت حافلة صغيرة بدهس حشد في "لارامبلا"، الشارع الذي يرتاده أكبر عدد من السياح الإسبان والأجانب في عاصمة إقليم كاتالونيا. وسادت حالة من الهلع والخوف، وضربت القوى الأمنية طوقاً أمنياً حول المنطقة المستهدفة في برشلونة بسرعة. وأغلقت محطات قطارات الانفاق وسكك الحديد لساعات، وطلبت السلطات من المواطنين الابتعاد عن منطقة الاعتداء والبقاء في منازلهم وتجنّب التنقل غير الضروري. واحتجزت الشرطة الناجين من الاعتداء في المحلات التجارية والمطاعم القريبة من "لارامبلا"، قبل أن تسمح لهم بالخروج في ساعة متأخرة من الليل. فيما فر سائق الحافلة إلى جهة مجهولة.

وفي وقت لاحق بعد منتصف الليل، دهست سيارة عدداً من المشاة على شاطئ بلدة كامبريلس، على بُعد 120 كيلومتراً جنوب غرب برشلونة. وتواجَه ركاب السيارة مع دورية لشرطة كاتالونيا الإقليمية ووقعت عملية إطلاق نار. وقُتل فوراً أربعة أشخاص "إرهابيين" كانوا في السيارة، فيما توفي شخص خامس بعد دقائق متأثراً بجروحه. وأشار متحدث باسم شرطة كاتالونيا إلى أن بعض الإرهابيين الذين قُتلوا في العملية الأمنية كانوا يرتدون أحزمة ناسفة. وأفادت الشرطة عن جرح ستة مدنيين في عملية الدهس الثانية في كامبريلس، من بينهم اثنان جروحهما خطرة، فيما أصيب شرطي بجروح طفيفة. وذكرت الشرطة أن هذا الهجوم مرتبط باعتداء برشلونة. وشددت رئيسة بلدية كامبريلس، كامي ميندوزا، خلال مؤتمر صحافي، على "سرعة وكفاءة" شرطة كتالونيا.

كذلك أعلنت الشرطة أن انفجاراً وقع داخل منزل في وقت متأخر الأربعاء مرتبط باعتداء برشلونة. وقال مسؤول في شرطة كتالونيا الإقليمية للصحافة إن الانفجار وقع في منزل في بلدة ألكانار على بعد 200 كيلومتر جنوب برشلونة وأوقع قتيلاً واحداً إضافة إلى إصابة سبعة بجروح. وأضاف أن الشرطة تعتقد أن الأشخاص الموجودين في المنزل كانوا "يعدّون عبوة ناسفة". وتبنى تنظيم "داعش" الاعتداء الأول في بيان نشرته وكالة "أعماق" التابعة له. وأشار البيان إلى أن منفذي هجوم برشلونة "هم من جنود الدولة الإسلامية ونفذوا العملية استجابة لنداءات استهداف دول التحالف" ضد التنظيم. ولم تتبن أي جهة الاعتداء على كامبريلس.

وحتى وقت متأخر من يوم أمس، كان منفذ عملية الدهس في برشلونة لا يزال فاراً. وقال شاهد عيان إنه رأى "شاباً في العشرينيات، وجهه ضعيف". وتشتبه السلطات الإسبانية بأن ثمانية أشخاص شكّلوا خلية نفذت هجوم برشلونة وخططت لاستخدام أسطوانات غاز البوتان، فيما نقلت صحيفة "إل بايس" الإسبانية عن مصدر أنه تم تحديد 12 شخصاً على الأقل ضمن الخلية الإرهابية. وقال المسؤول في حكومة إقليم كتالونيا خواكيم فورن، لإذاعة محلية، إن المهاجمين ربما خططوا لاستخدام الأسطوانات في الهجوم على حي "لارامبلا". وقال فورن "الأولوية الآن للتعرف على هوية هؤلاء لإثبات وإظهار العلاقة بين كل الضالعين في الهجمات". وتلاحق الشرطة سائق الشاحنة الذي فر، مع تركيزها على المغربي موسى أوكبير البالغ من العمر 18 عاماً، فيما أوقفت شقيقه إدريس. وأوقفت الشرطة أربعة أشخاص مشتبه بعلاقتهم بالعملية، عُرف أن أحدهم إسباني وُلد في جيب مليلية الإسباني في المغرب، وأوقف على بعد مئتي كيلومتر جنوب برشلونة في المنزل الذي انفجرت فيه العبوة ليل الأربعاء. أما المشتبه به الثاني فهو المغربي إدريس أوكبير، الذي قال إن شقيقه سرق هويته لاستئجار الشاحنة المستخدمة في الهجوم. وقد أوقف إدريس في ريبول على بعد نحو مئة كيلومتر شمال برشلونة. ولم يكن للمشتبه بهما الاثنين أي سوابق قضائية، فيما لم تعط الشرطة أي معلومة عن الركاب الخمسة الذين قُتلوا على متن السيارة في كامبريلس. أما موسى أوكبير، فقد كشفت وسائل إعلام إسبانية عن تصريحات أدلى بها على وسائل التواصل الاجتماعية قبل عامين، حين سئل عما سيفعل إذا ما بات حاكم العالم، فأجاب: "قتل جميع الكفار والسماح فقط للمسلمين بمواصلة الدين".


ردود محلية ودولية

لم يتأخر رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي بالتأكيد أن اعتداء برشلونة "إرهاب جهادي" يتطلب رداً عالمياً. وقال في مؤتمر صحافي في برشلونة "الحرب ضد الإرهاب هي اليوم الأولوية الأولى للمجتمعات الحرة والمنفتحة مثل مجتمعاتنا. إنه تهديد عالمي والرد يجب أن يكون عالمياً". وأضاف أنه سيطالب الأحزاب السياسية الأخرى في إسبانيا بالتأكيد من جديد على ميثاق مكافحة الإرهاب في البلاد. كذلك دان القصر الملكي الإسباني الاعتداء، وقال "لن يرهبونا. كل إسبانيا في برشلونة. لارامبلا سيعود من جديد إلى الجميع".

ولاقى الاعتداءان في قلب برشلونة وفي كامبريلس، سلسلة من الادانات. وأكدت تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا التي ضربتها عدة اعتداءات في الأشهر الأخيرة، أنها "متضامنة مع إسبانيا ضد الإرهاب". ودان الرئيس الاميركي دونالد ترامب عبر "تويتر" باسم الولايات المتحدة الاعتداء الإرهابي، مؤكداً أن بلاده "ستفعل كل ما هو ضروري لمساعدة إسبانيا". قبيل ذلك، أكد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن الولايات المتحدة ستقف في صف إسبانيا في التحقيق المقبل.

فرنسا التي أعلنت إصابة 26 من مواطنيها في اعتداء "لارامبلا" بينهم 11 إصاباتهم خطيرة، أعلن وزير داخليتها جيرار كولومب أن سلطات بلاده لم ترصد حالياً أي "صلات" لمنفذي اعتداءي إسبانيا في فرنسا. وقال "لا نعتقد ان هناك صلات. في وقت ما تحدثنا عن فرنسيين قد يكونوا شاركوا في هذا الاعتداء. اطلعنا معاً على كل الملفات ولا أحد معروفاً يتطابق مع الأفراد المعنيين بالاعتداء في إسبانيا". فيما عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تغريدة على "تويتر" عن "تضامن فرنسا مع ضحايا الهجوم المأساوي في برشلونة. نبقى متحدين ونملك التصميم". كما دان المتحدث باسم المستشارة الألمانية انغيلا ميركل الهجوم "الشنيع". أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فدعا إلى مكافحة عالمية "لقوى الإرهاب". وقال في رسالة تعزية وجهها إلى ملك إسبانيا فيليب السادس إن "ما حدث يؤكد مرة جديدة ضرورة القيام بتوحيد حقيقي لجهود كل الأسرة العالمية في مكافحة كل قوى الإرهاب بلا هوادة".


تاريخ بمواجهة الإرهاب

تناولت وسائل إعلام عالمية ومحللون العِبر والنتائج التي أظهرها هذا الاعتداء. واعتبرت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية أن الاعتداء يؤكد على ثلاثة دروس قاسية استفادت منها أجهزة الأمن والجمهور خلال السنوات الأخيرة. الأول أن استخدام المركبات كأسلحة بات الآن نهجاً ثابتاً للمتطرفين، وهو واحد من نحو 12 نهجاً استُخدمت خلال العقدين الماضيين، وينبغي اعتباره جزءاً معتاداً من الترسانة الإرهابية. وأشارت إلى ما وقع من هجمات مماثلة على مدى 13 شهراً في فرنسا وألمانيا والسويد وبريطانيا. اما الدرس الثاني وفق الصحيفة، فهو أنه لا يوجد الآن تمييز يُذكر في الاستهداف، وهذا يعني أن السياح كثيراً ما يكونون في مرمى العمليات الإرهابية، والشواهد على ذلك كثيرة ومنتشرة كما حدث في ملهى في مانشستر في بريطانيا وعلى أحد شواطئ تونس وغيرها. والدرس الثالث هو أن المراقبة الشرطية الجيدة يمكن أن تحافظ على السلامة والأمن لفترة طويلة.

من جهتها، رأت صحيفة "تايمز" البريطانية أن الدروس المستفادة من سنوات المواجهة مع حركة "إيتا" الانفصالية الإسبانية، علّمت إسبانيا الاستعداد للهجمات "الجهادية". وأشارت إلى أن إسبانيا نجت من المجازر التي عانت منها دول مجاورة بفضل جهازها الأمني الكبير والفعّال، والتكامل الجيد للمهاجرين المسلمين الذين كان لهم دور بارز في إحباط المؤامرات، التي كان بعضها على وشك الوقوع. ولفتت "تايمز" إلى أن آخر تورط لإسبانيا في الإرهاب كان خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين عندما قتلت حركة "إيتا" 800 شخص. وأضافت أنه حتى يوم الخميس لم يحدث أي "هجوم إسلامي" على الأراضي الإسبانية منذ مارس/آذار 2004 عندما قتلت هجمات بالقنابل على أربعة قطارات في مدريد 191 شخصاً وأصابت 1800 آخرين. ومنذ ذلك الحين كثّفت إسبانيا جهودها لبناء واحدة من أكثر عمليات الشرطة والاستخبارات المكثفة ضد الجهاديين في القارة الأوروبية، إذ يقوم أكثر من 3 آلاف ضابط من قوات الأمن وأجهزة الاستخبارات والادعاء العام والقضاة والمحللين بتعقب التهديدات المحتملة، وسيجري تجنيد 600 آخرين بحلول عام 2020 للتركيز على الجهاديين فقط.

ومع ذلك، أضافت الصحيفة أن المسؤولين الإسبان كانوا يبدون قلقهم من أن الإرهابيين يمكن أن يتحوّلوا إلى الأهداف "الناعمة" باستخدام وسائل يسهل الوصول إليها مثل المركبات أو السكاكين، نظراً لفعالية الدولة الكبيرة في إحباط العمليات الأكثر تعقيداً. وأشارت الصحيفة إلى أن التهديد الإرهابي يُعتبر أعلى مستوى له في مدريد وبرشلونة وسبتة ومليلة. ولفتت إلى قول أحد محللي الاستخبارات إن ندرة الهجمات الإرهابية في إسبانيا نظراً لعدم وجود أحياء خاصة بالمسلمين كما في أحياء اليهود المعروفة بالغيتو في فرنسا، كما أن اندماج المسلمين في إسبانيا أكبر، والتطرف فيها ليس بالحجم الكبير الموجود في أماكن أخرى.

أما صحيفة "إندبندنت" البريطانية فأشارت إلى أن كل الهجمات الإرهابية في أوروبا، بما فيها هجوم برشلونة، اتّبعت التعليمات المتطورة الصادرة عن تنظيم "داعش" عبر آلته الدعائية الإلكترونية عن كيفية ارتكاب المذابح باستخدام السيارات بأنواعها، فضلاً عن تعليمات باستخدام أساليب الطعن والتفجيرات وأخذ الرهائن. وأضافت أن التنظيم كثّف دعواته إلى أنصاره لشن هجمات في بلدانهم الأصلية في الغرب مع فقدانه لأراضيه في سورية والعراق.

المساهمون